تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
مَنْطِحة
 لمّا تغيّر موقعك من الأحداث تتغيّر الزّوايا التي تنظر منها إليها. كم هو ممتع أن ‏يشاهد المرء بعيني مولع إلى التّشنج والتّعصّب مباراة أو منافسة يشتدّ فيها ‏الصّراع ويحتدّ الوطيس حتّى يبلغ الاقتتال. ‏
في ميدان المصارعة، إن صحّ التّعبير، أو أسمّيها كما هي «حلبة تناطح الكباش» ‏لأنّ الخرفان لا تتصارع، وجدتني في بحر هائج من البشر انقسموا إلى حشدين ‏تفصلهما بطحاء شاسعة يغلب طولها عرضها أضعافا، خالية من النّاس الذين ‏شدّهم إلى كلّ جهة مغناطيس خلف خطّين مستقيمين دون حاجز كأنّما الطّود ‏الذي شدّ جدار الماء عندما ضرب موسى بعصاه البحر.‏
ها هو موسى وسط الحلبة. ولكن لا أظنّ هذا الآخر بجانبه أخاه هارون لما ‏تحمله نظراتهما لبعضهما من تحدّ وتعال ومن الكره أحيانا. يُمسِك كلاّ الرّجلين ‏طرف حبل بيد ويقبض بالأخرى عند الطّرف الثّاني للحبل على طوق من ‏الجلد حول رقبة كبشه الضّخم.‏
الكبشان المتقابلان فاخران متشابهان في كلّ شيء، ولا يختلف عند الخروفين ‏إلاّ اللّون. فهذا ناصع بياضه لا يشوبه سواد والآخر بلون الفحم لا تشوبه شائبة. ‏تعلو الأصوات من الجانبين ولا أدري أيّ الفريقين أدعم وأي كبش أشجّع. ‏خشيتُ كلّ الخشية أن أكون في الموقع الخطأ. فتماسَكْتُ ولم أنطق حتّى لا ‏أستفزّ أحدا ممّن حولي فيصيبني ما أكره.‏
تقدّم الرّجلان بالكبشين المتفاخرين حتّى التقت القرون وكأنّ معدنها صُهِر في ‏نفس القالب‎.‎‏ واستوت الأكتاف وارتفعت الهامتان سويّا، فما اعتلت الواحدة ‏الأخرى. لا يهم لمن تؤول الكلمة الأولى لهذا أو لذاك، ولكن لا ‏يستأثر بالكلمة الأخيرة إلاّ من بقي واقفا بعد المعركة الفاصلة.‏
أيّها الجمهور، تشجيعكم ووقوفكم إلى جانبي واختياركم لي دعم يضمن لي ‏الكلمة الأخيرة، وتكون لكم الكلمة طالما الآخرون صامتون. إن تكلمتُ، تكلمتم ‏معي. وإن أُخْرِستُ بقيتم صمّا و بكْما لا تفقهون.‏
أيها الناس، ضعوا ثقتكم في كبشكم حتّى يدحض كل آخر ويرديه نطيحا. ‏فيعتلي وتعتلون. إنّ هتافاتكم ومناشداتكم وأهازيجكم استثمار فيه مرابحة ‏فوق رؤوس أموالكم. أين الصّدى لصراخكم؟ إنّني لا أسمعه. إذا تخاذلتم ‏وخذلتموني، سأخسر الكثير. سأخسر العزّ والسّلطان وستخسرون.‏
‏ اقترب الكبشان أكثر، ولا أظنّ لأحد منهما خاطر ليدور فيه ما دار في خاطري ‏مرافقيهما. وبإيماءة من مرافقه اشتمّ كلاهما الآخر كما يشتمّ فحل النّعجة. ‏هل أدركت الدّابة ما تحمله هذه الحركة من دلالة وكم فيها من احتقار للآخر؟ لا ‏أعرف، ولكن أجّجت الحركتان حماسة الفريقين. الجمهور تفاعل من الجانبين ‏بنفس الحدّة ولم تكن ردّة الفعل نفسها لو تخاذل أحد الكبشين ولم يستجب ‏لدعوة صاحبه.‏
أقبل رجل ثالث تقدّم من بعيد متأبّطا راية. أمّا يداه قابضتان على حزم من ‏الأوراق النّقدية رهانات المتفرّجين. وقبل أن يعطي إشارة انطلاق المعركة، تأكّد ‏من آخر مساعديه الذي التحق به متأخّرا بحزمة أخرى من النّقود وقائمة ‏المراهنين. وبإشارة منه قِيدَ الخروفان بتؤدة وتكبّر إلى طرفي الحلبة وتوقف ‏كلاهما بمكان محدّد بعلامة بيضاء كنقطة انطلاق للرّكض. في حركات منسجمة ‏ومتزامنة، نزع المرافقان الطّوقين من رقبتي الكبشين ثم ابتعد الرّجلان وتركا ‏الخروفين متقابلين يرمق كلاهما الآخر بعينين ثابتتين والرّأس مرتفعة بكلّ تكبّر ‏واعتلاء مفرط فيهما.‏
واستجابة لنداءات المتفرّجين يلتفت كلّ كبش إلى الفريق الذي ينادي باسمه ‏استرضاء له ثمّ إلى الجهة الأخرى بتحدّ  وثقة في النفس. كلّ هذا والحذر كبير ‏من الكبش المقابل. لمْ أعرف إلى جهة أيّ كبش أنا أقف عندما أطال الخروفان ‏التّرائي بتهادٍ وتبختر استعراضا للقوّة بما يكفي لزعزعة الجماهير المتفرّجة، ‏فيزيد هياجها ويرتفع نسق المراهنة. ثمّ في وقت واحد مع صفّارة الحكم جامع ‏الرّهانات، انطلق كلّ منهما في اتجاه الآخر بسرعة متزايدة استعدادا للحظة ‏التقاء الجبهتين. ولمّا تبلغ السّرعة من هنا وهناك أقصاها، وفي اللّحظة نفسها ‏يندفع الكبشان بما أوتيا من قوّة، فارتفعا في قفزتين طويلتين متناظرتين، ‏والتقيا على فرقعة شديدة لحظة توقّفت كلّ حركة كأنّما ينظر كلاهما لنفسه ‏في مرآة. فأيّهما الأصل من الصّورة؟ توقّفت الحركة الظّاهرة، ولا أظنّها كذلك ‏خلف نقطة الانفجار، إنّه ارتجاج داخل الدّماغ جعل الخروف وظلّه في حالة ‏ذهول طويل ما أن استقرّا على قوائمهما.‏
وبعد فترة استقراء للخصم ولوضعه، طويلة بما يكفي لاسترجاع الوعي بما ‏يجري، والصّورة نفسها كبش في مواجهة خياله على صفحة المرآة لا يقطع ‏عنه نظره،  بدأ الكبشان يتراجعان إلى الخلف بخطوات صغيرة محتسبة ‏ومتناسقة من الجهتين احتساب الرّياضي لخطواته قبل القفز. لو تجاوز العلامة ‏بطلت المحاولة، وإن قفز قبلها بقدرٍ سُحِب مقداره من الرّقم المسجّل لطول ‏القفزة. ابتعد الخروفان بنفس المسافة وأعادا التّمثيلية الأولى ثم انطلقا من ‏جديد في الرّكض ليلتقيا مرّة أخرى على فرقعة أشدّ عنف من الأولى. ثمّ ‏وبسرعة، ارتفعا معا على قائمتيهما الخلفيتين وتصادما من جديد. ‏
طالما الخروفان لا يزالان واقفين على قوائمهما، وعلى قدر شدّة المعركة ‏والاقتتال، يشتدّ وطيس المشجّعين دافعي المال من الجانبين المتنافسين. ‏ولا يفوت حكم المباراة خلال فترات الاستراحة، والتي يستغلّها الكبشان ‏لاستعراض قوتهما، لجمع مزيد الرّهانات. ‏
طال الصراع بين الكبشين إلى آخر النّهار عبر جولات عديدة لا غالب فيها ولا ‏مغلوب. وفي الأخير، رجع الجميع منتصرين وكلّ المراهنين خاسرين.‏