شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
الدكتور علي الوردي - ابن خلدون العراق
 هو من أبرز وأشهر علماء العراق والعالم العربي والإسلامي في علم التّاريخ والإجتماع وأكثرهم جدلا، تأثّر بفكر ابن خلدون وعرفت سيرته العلميّة والمهنيّة بثّراء فكري مميّز جلبت له التقدير حينا والمشاكل أحيان أخرى. إنّه الدكتور علي حسين عبد الجليل الوردي.
ولد «الوردي» بحي الكاظميّة في بغداد سنة 1913م، من عائلة متوسطة المستوى المعيشي، التحق بالدراسة التقليدية (الكتاتيب) كمعظم أبناء جيله لكنّه سرعان ما تركها نتيجة حالته الفقيرة ليشتغل عند أقاربه الصّاغة. ولعل هذا الفقر الذي ‏مر به في صباه الباكر دفعه الى أن يثبت وجوده بالشّكل الذي انتهى اليه كأشهر مفكري العراق.  عاد «الوردي» الى الدراسة وقد بلغ من العمر 18 سنة ولكن هذه المرة من بابها الواسع، حيث ‏التحق بالدراسة المسائية في الصف السادس الابتدائي بإحدى المدارس النظاميّة وكانت بداية لحياة جديدة. واكمل دراسته ليشتغل معلّما لمدّة سنتين، ثمّ سافر بعدها ليدرس في ‏الجامعة الاميركية في بيروت، ثم جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكيّة حيث نال شهادة الماجستير ‏في عام 1947 في علم الاجتماع، ثم شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة في عام 1950.
عاد الى العراق بعد تخرجه وعمل بقسم علم الاجتماع في جامعة بغداد وكان من رواد ‏القسم ورواد علم الاجتماع في العراق‎.‎ تدرج في وظيفة التدريس حتّى منح لقب «أستاذ متمرّس» في جامعة بغداد وهو لقب يمنح ‏للمتفرّدين في تخصّصاتهم وطول مدّة خدمتهم. تقاعد عن التّدريس في عام 1972، وهو ‏في أوج عطائه العلمي، وتفرّغ للتأليف وإلقاء المحاضرات في بعض المؤسّسات العلميّة ‏ومنها معهد البحوث والدّراسات العربية الذي كان مقره في بغداد.
لم يثر كاتب أو مفكر عراقي مثلما أثاره علي الوردي من أفكار نقديّة جريئة. ‏وكان من البديهي أن يتعرّض للنّقد والتّجريح والهجوم من أقصى اليمين الى أقصى ‏اليسار(حيث صدرت حول افكاره خمسة عشر كتابا ومئات المقالات). كان الوردي متأثّرا بمنهج ابن خلدون في علم الاجتماع واستفادكثيرا من طروحاته حيث كان ابن خلدون موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه. لهذا لم يعتمد المنهج ‏الماركسي في بحثه وتفكيره ولم يتبع أيضا الأيدلوجيات (الأفكار) القوميّة ممّا أثار حنق مفكّري التيار القومي الذين اتّهموه  بالقطرية وانتقده الشيوعيّون لعدم اعتماده المنهج المادي التّاريخي في دراساته‎.‎
وقد كان الوردي اول من دعا الى «علم اجتماع عربي» يدرس المجتمع العربي في ضوء ‏خصوصيّاته الجغرا- ثقافية، وانطلاقا من طروحات ابن خلدون‎.‎
كان تشخيصه للمجتمعات المعاصرة تشخيصاً دقيقاً. ركّز اهتمامه أساسا على الشخصية العراقيّة، فدرس طبيعتها وطبيعة ‏المجتمع العراقي بجرأة وصراحة وحلّل الظّواهر الاجتماعيّة الخفيّة والسّلوكات الفرديّة ‏والجمعيّة ووجّه الاهتمام الى دراستها وتحليلها ونقدها. كما اهتمّ بموضوع العقل البشري، والحضارة والبداوة، وازدواج الشّخصية وهذه ‏أمور بنى عليها نظريته الاجتماعية.. ‏
كان الوردي صديق المجتمع وهو يجالس ويعاشر بسطاء النّاس وكان يعتمد على التّدوين ‏حين يسمع موضوعا يستحق ذلك يخرج ورقة من جيبه يكتب ما يحتاجه بدقة وإمعان.‏
 
كتب الوردي ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات وترجمت بعض أعماله الى عدد من اللّغات ‏منها الانكليزيّة والفارسية والتّركية والألمانيّة. تميّزت الخمس كتب الأولى بأسلوب كتابتها النقدي الأدبي ومضامينها التنويرية الجديدة ‏الساخرة التي لم يألفها القاريء العراقي آنذاك لذلك واجهت أفكاره وآراءه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة ‏وبخاصة كتابه‎» ‎وعّاظ السّلاطين» الذي كان بمثابة حملة شعواء ضدّ بعض رجال الدّين الذين اتّهمهم بالوقوف إلى جانب الحكّام و تجاهل مصالح الأمّة على حساب ‏مصالحهم الضّيقة، متخاذلين عن واجبهم الديني. كما انتقد  منطق الوعظ والإرشاد الافلاطوني ‏منطلقا من أنّ الطّبيعة البشريّة لا يمكن إصلاحها بالوعظ وحده، وان الوعاظ انفسهم لا يتبعون النصائح ‏التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين، كما أكّد بأنّه ينتقد وعّاظ الدّين وليس الدّين نفسه‎.  
اما بقيّة الكتب فقد اتسمت بطابع علمي ومثّلت مشروع الوردي لوضع ‏نظريّة اجتماعيّة حول طبيعة المجتمع العراقي وفي مقدمتها كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» ‏و«منطق ابن خلدون» و«لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» الذي صدر في ثمانية أجزاء‎.‎
لقد تنبأ الوردي بانفجار الوضع في العراق مثلما تنبّه الى جذور العصبيّات التي تتحكّم بشخصيّة الفرد العراقي ‏التي هي واقع مجتمعي تمتدّ جذوره الى القيم والأعراف الاجتماعية والعصبيّات الطّائفية والعشائريّة ‏والحزبيّة التي ما زالت بقاياها كامنة في النفوس. وكذلك الى الاستبداد السّلطوي، الزّمني والتّزامني، ‏الذي شجّع وما يزال يشجّع على إعادة إنتاج الرّواسب الاجتماعيّة والثّقافية التّقليدية القديمة وترسيخها ‏من جديد، كما يحدث اليوم‎.‎
اعتمد «الوردي» على مصدرين أساسيّين في معرفته وهما القرآن الكريم والحديث الشّريف والسّنة ‏النبوية.. والمؤسف أن البعض يتّهمه بالإلحاد والبعد عن الدّين... وهو لم يكن كذلك أبدا..‏ ‏
ينطلق «الوردي» في رؤيته لكلّ القضايا في ضوء مرجعيّته الاجتماعيّة، ونظرته ‏للدّين تنطلق من هذه الرّؤية، فالدّين بالنسبة إليه ظاهرة اجتماعيّة عامّة موجودة في ‏جميع الشّعوب حتّى أشدها بدائيّة، فطالما كان الإنسان مهدداً بالأخطار ‏ومحاطا بالمشاكل ، فهو بحاجة الى عقائد وطقوس دينية تساعده على ‏مواجهة تلك الأخطار وتبعث في نفسه الطمأنينة ومعنى هذا أنّ ‏التّقديس ليس أمرا طارئا في حياة المجتمعات بل حاجة ملحّة تقتضيها طبيعة ‏الإنسان‎.‎
يرتبط مفهوم الدّين عند «الوردي» بالنظريّة الاجتماعية القائمة على الدّمج ‏بين قيم الخير وقيم الشر لأنّ الانسان باعتقاد الوردي «مزيج من الشرّ ‏والخير» لذلك يمكن القول أنّ الوردي ينظر الى الدّين في ضوء نظريته ‏المرادفة بين المصلحة والحقيقة، بمعنى أنّ الرّسل حينما ‏جاءوا برسالاتهم إنّما كان حضورهم وتأثيرهم في المجتمع في ضوء ‏المصلحة التي تجسّدت في نصرة الضعفاء وتخليصهم من سلطة المترفين. ‏
ويقوم الدين عند «الوردي» بوظيفة اجتماعية كبرى حينما يكافح من أجل ‏العدالة وتحقيق المساواة، وهو في الوقت نفسه يحقق نوعاً من أنواع ‏التّوازن الاجتماعي لاسيّما حينما يفتح الباب أمام الصّراع بين الفئات ‏المغلوبة والفئات الغالبة، لهذا يعتقد الوردي بأنّ «الدّين لا يقوم إلَا بالكفاح ‏والتّسامح الاجتماعي»، وهذا ما يبرر النّزعة الثوريّة للدّين.‏ وهي نزعة متجدّدة تنقلب على الثّبات ‏والرّكود في كلّ زمان ومكان، من دون إلغاء للآخر والهيمنة ‏على كلّ ثرائه وتنوعه، إنّما ثورة على الظلم والتّجبر والطغيان لا على ‏الفكر وتنوعه. ‏
وينظر الوردي الى الإسلام بوصفه دين العدل والمساواة، ودين الضعفاء ‏والمغلوبين بل جاء من أجل نشر الفضيلة بين الأُمم، وهو ثورة كبرى على ‏صعيد القيم الإنسانية، فهو بمثابة قلب لقيم الجزيرة العربية التي كانت ‏تعيش على الغلبة والقتل، لذلك يرى الوردي أن الإسلام « بدأ في أول أمره ‏نظاماً ديمقراطياً، لا سيما مع النبي محمد الذي إستطاع أن ينتقل بهذا ‏المجتمع من حال الفرقة والتشرذم الى حال الوحدة والعدل‎.‎
لكنّ الدّين الذي يبدأ ثورة قد يتحوّل إلى أفيون، يقول الوردي: «أن الدين ثورة وأفيون في آن واحد فهو عند الأنبياء ثورة ثم يستحوذ عليه المترفون بعد ‏ذلك ويحوّلونه الى أفيون»
تنبه ‏ الوردي لآثار الطائفية على المجتمع منذ بواكير كتاباته، فقد عدَ ‏الطائفية نمطاً معينا من العصبية، لأنها تقوم على أساس من الإنتماء ‏الاجتماعي أكثر مما تقوم على أساس من الدين والحرص على سلامة ‏تعاليمه، لذلك نجد الوردي ينتقد بشكل مستمر كل من ينتمي الى جهة ما ‏انتماء ايديولوجياً أو عصبياً، لأنّ هذا النوع من الإنتماء يمثّل أحد أهم ‏أسباب التدهور الرئيسة للأُمم، وهو نفسه السبب الحقيقي للصراع الإسلامي ‏الإسلامي، لا سيما بين السنة والشيعة‎.‎‏ ‏
كانت معظم طروحاته التي ملأت كتبه والتي كان يلقيها في محاضراته تزعج السّلطة الحاكمة ‏في بغداد، الأمر الذي دفعها الى التضييق عليه تدريجيّا ابتداء من سحب لقب أستاذ ‏متمرس المشار اليه ووصولا الى سحب معظم كتبه من المكتبات وحضرها على القراء ‏بداعي ما أسموه «السلامة الفكرية»، مع محاولات تهميشه وإفقاره ماديا وهو ما آل إليه ‏حاله. ‏
توفي العلامة الدكتور علي حسين الوردي في 13 جويلية 1995 بعد صراع مع مرض ‏السّرطان، ولم يتمكن الأطباء من معالجته لافتقار المستشفيات العراقية آنذاك إلى الأدوية ‏والمستلزمات الطّبية بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، فسافر ‏إلى الأردن‎ ‎ليتلقّى العلاج في مدينة الحسين الطّبية وبعدها عاد إلى العراق ليقضي نحبه ‏فيه‎.‎ وقد أقيم له تشييع ‏محتشم غاب عنه المسؤولون وجازف من حضر من المشيّعين‎