الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
مَدُّ ٱلأَرْضِ
 (1) مقدمة
بيّنا في المقال المعنون « أفلا ينظرون... َإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» الصّادر بالعدد 140 من المجلة أنّ للأرض سطحا ولكنّها ليست ‏سطحا لأنّ «السّطح الحقيقي: هو الذي يقبل الانقسام طولًا وعرضًا، لا عمقًا» حسب الجرجاني (ت 471 ه) وأنّه لا وجود لسطح بلا ‏جسم وهو ما جعل السّيوطي يقول إنّ السّطح « لا يدرك بالحسّ الاّ مع الجسم». واكتشفنا أنّ القول بأنّ جسما ما إذا وصف بأنّه ‏مسطّحا فهو يعني إمّا أنّه ملقى على سطح الأرض أو أنّ أعلاه الممتدّ معه فيه استواء. وقدّمنا الدّليل ‏العلمي على أنّ للأرض سطحا وهذا ليس بديهيّا في الكون المعروف إذ لا سطح للنّجوم وهي المكوّن الأساسي فيه ولا سطح أيضا ‏للكواكب الغازيّة وهي كثيرة. لذلك يكون معنى الدّعوة للنّظر في الكيفيّة التي سُطحت بها الأرض دعوة للنّظر في الكيفيّة التي ‏اكتسبت بها الأرض سطحها سواء بالمعنى الأصلي الذي وضع له الجذر (سطح) وعندها يكون موضوع النّظر هو الكيفيّة التي ‏تشكّلت بها معالم سطحها أي التّضاريس كالجبال والسّهول والمنخفضات الملآى بالمياه كالبحار والمحيطات وغيرها، أو بالمعنى ‏الذي يُستعمل عند القول بأنّ للبيت سطحا وعندها يكون موضوع النّظر هو ما اصطلح على تسميته حديثا القشرة الخارجيّة للأرض ‏فهي سطح الأرض بأتمّ ما في الكلمة من معنى. وقد توصّلت العلوم الحديثة الى أنّ تشكّل أعلى القشرة الصّخريّة والقشرة بذاتها ‏ظاهرة قابلة للفهم والتّفسير وفق نظريّة موحّدة هي نظريّة تكتونيّة الصّفائح والتي سيكون لها في هذا المقال حظّ من التّناول.
نهدف ‏في هذا المقال، من خلال تدبّر علمي للآيات التي تشير بأنّ الأرض مُدَّت، إلى تبيين أنّ تلك الآيات تمثّل عنصرا من عناصر ‏الإجابة عن السّؤال المتعلّق بالنّظر في الكيفيّة التي سُطحت بها الأرض مثلها مثل آيات أخرى تشير إلى نفس الظّاهرة الطّبيعية أي ‏تشكّل سطح الأرض سنتناولها في مقالات أخرى إن شاء الله.‏
(2) الآيات موضوع التدبر.ِ
ملاحظتان نبدأ بهما موضوع المقال، الأولى أنّ مَدُّ الأرض يأتي في الآيات الثّلاث مصاحبا ‏لذكر الرّواسي. وهذا يجعل عمليّة التّدبّر تتطلّب أكبر درجة من اليقظة العلميّة لأنّه لا يمكن الفصل بين المدّ وجعل الرّواسي ‏بالإلقاء وسنرى في مقال آخر أنّ المنهج الذي اتخذناه لتدبّر الآية يوصل مباشرة الى التّطابق بين الحقيقة العلميّة والحقيقة القرآنيّة ‏بعلاقة بهذا الرّبط بين المدّ والجبال أي أنّ المدّ بمفهومه العلمي الذي سنكتشفه ينتج عنه ضرورة القاء الرّواسي. أمّا الملاحظة ‏الثّانية فتتعلّق بورود لفظ المدّ في الآية 3 من سورة الانشقاق «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)». إنّ السّياق، كما هو ظاهر، ‏يحيل على ما سيقع مستقبلا من انقلاب في الظّواهر الطّبيعية وليس بما هو كائن الآن وخاضع للبحث العلمي وهذا أمر لا يتّسع ‏المقال لتناوله. 
لنبدأ إذا بعرض الآيات موضوع المقال:‏
‏﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ ‏لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة الرعد، الآية 3)‏
‏﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ (سورة الحجر، الآية 19)‏
‏ ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (سورة ق، الآية 7)‏
(3) مَدُّ الأرض...أي أرض؟   ‏
‏ ذكر لفظ الأرض في القرآن الكريم 461 مرّة. وهذا العدد الكبير كفيل للتّدليل بأنّه لا يمكن أن يكون قد جاء بنفس المعنى في كلّ ‏تلك الآيات. لذلك وجب الاتفاق أوّلا على المعنى الأصلي الذي وضع له الجذر (أرض) في اللّسان العربي حتّى يتسنّى لنا تتبّع ‏المعنى القرآني وذلك بما تسمح به أساليب البلاغة من توليد للمعاني. 
نجد في منتخب الصّحاح لأبي نصر الجوهري (ت 393 هـ): «‏الأرض مؤنثة، وهي إسم جنس والجمع أرضات وأرضون (بفتح الرّاء). وكلّ ما سفل فهو أرض. والأرض أسفل قوائم الدّابة، قال ‏حميد يصف فرسا ولم يقلب أرضها البيطار». 
وفي مقاييس اللّغة لأحمد بن فارس (ت 395 هـ) نقرأ:«(الأرض) الهمزة والرّاء ‏والضّاد، أصل يتفرّع وتكثر مسائله، وأصلان لا يقاسان بل كلّ واحد موضوع حيث وضعته العرب. فرجل مأروض، أي مزكوم ‏وبفلان أرض، أي رعدة. وأمّا الأصل الأول فكلّ شيء يسفل ويقابل السّماء، يقال لأعلى الفرس سماء، ولقوائمه أرض. والأرض ‏التي نحن عليها، وتجمع أرَضين (بفتح الرّاء)، ولم تجئ في كتاب الله مجموعة. فهذا هو الأصل». 
هذا عن اللغة أمّا في القرآن، فقد ‏ورد لفظ الأرض بمعان مختلفة مثل: كوكب الأرض وكواكب أخرى مماثلة، نواحي الأرض وأرجائها، منطقة جغرافيّة محدّدة، ‏التّربة، المرعى وغيرها. ولكن هل يمكن أن يأتي لفظ الأرض بمعنى لم يكن واردا في ذهن المتلقّي زمن النّزول، بدون أن يناقض ‏المعنى الأصلي للكلمة؟ 
إنّ الاعتقاد بالمصدر الإلهي (أو افتراضه منهجيّا على الأقل) للقرآن من جهة وتصريح القرآن بأنّه أنزل ‏بلسان عربيّ مبين يقتضي بأن تكون للعربيّة من الأساليب ما يمكن الخالق سبحانه من تسمية ما لم يكن معروفا بطريقة لا تصدم ‏المتلقّي من ناحية ولا تتناقض مع ما سيتكشف لاحقا من ناحية ثانية. وهذا ما نعتقد أنّه متوفّر في لفظ أرض إذا أخذناه بمعنى ‏القشرة الخارجيّة لها. فمن أساليب البلاغة والتي لا يمكن بدون استعمالها أن نتدبّر بعض الآيات القرآنيّة ما يطلق عليه المجاز ‏المرسل والمتمثّل في إطلاق الكلّ وإرادة الجزء أو إطلاق الجزء وارادة الكلّ. 
والسّؤال هل استعمل القرآن هذا الأسلوب حتّى نسمح ‏لأنفسنا باستعماله رغم سماح اللّغة به؟ نعم، والأدلة عديدة وهذا مثال: قال تعالى في الآية 7 من سورة نوح «وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ ‏لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا» ‎فالله تعالى أطلق الكلّ وهو (الأصابع) وأراد الجزء ‏وهو (الأنامل) أو أطراف الأصابع وذلك على سبيل المجاز كما جاء في التّحرير والتّنوير لابن عاشور: «وأطلق اسم الأصابع على ‏الأنامل على وجه المجاز المرسل بعلاقة البعضيّة، فإنّ الذي يجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كلّه فعبّر عن الأنامل بالأصابع ‏للمبالغة في إرادة سدّ المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلّها، وتقدّم في قوله تعالى يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق ‏في سورة البقرة»‏‎.‎‏ 
إنّ هذا المثال يؤكّد أنّ القرآن الكريم يستعمل لفظا وضع أصلا لجسم ما مع إرادة جزء لا يتجزّأ منه. إنّ القشرة ‏الأرضيّة هي جزء من الأرض كما سنفصل لاحقا، لذلك فإنّ إطلاق لفظ الأرض عليها والذي يعني عادة كلّ الأرض هو من صميم ‏البلاغة العربيّة. ‏
نهدف من وراء هذا المقال الى تبيين أنّ المدّ في الآيات الثلاث موضوعه القشرة الأرضيّة وذلك باتباع منهجيتنا المعتادة والمتمثّلة ‏أولا في التّدقيق في أصل معنى الجذر«م.د.د» وثانيا في عرض ما يقوله العلم الحديث عن كيفيّة تشكّل تلك القشرة وستبرز عندها ‏الآيات آليّا وكأنّها صيغت الآن وليس قبل 14 قرنا.‏
‏(4) المدّ لغة ‏
نبدأ بملخص ما وجدنا في أمّهات المعاجم العربيّة عن لفظ المدّ. «مَدَّ/مَدَّ في، مَدَدْتُ، يمُدّ، امْدُدْ/مُدَّ، مدًّا، فهو مادّ، والمفعول مَمْدود» ‏‏(العربية المعاصرة). «مد: المَدُّ: الجَذْبُ، والمَدُّ: كَثرةُ الماء أيّامَ المُدودِ‎.‎‏ ومَدَّ النَّهرُ، وامتَدَّ الحَبْلُ، هكذا قالته العَرَب‎.‎‏ والمِدادُ: ما يُكتَبُ ‏به»(ع).
«ويقال: وَادِي كذا يَمُد في نهر كذا، أي يزيد فيه، ويقال مِنْه: قَلّ ماء رَكِيّتِنا (رَكيّة: بئر ذات ماء، جمع: ركايا وركي ‏وركي. الإضافة من كاتب المقال) فمَدّتْها رَكِيّةٌ أُخْرَى، فهي تَمُدّها مدّا. والشيءُ إذا مَد الشيءَ فكان زيادةً فيه فهو يَمُدُّه، يقول: دِجْلةُ ‏تَمُدُّ بِئَارَنا وأنهارَنا، والله يَمُدُّنا بها. وقال شمر: كل شيء امتلأ وارتفع فقد مدّ وأمددتُه أنا»(ت ل).
«(مَدَّ) الْمِيمُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ ‏يَدُلُّ عَلَى جَرِّ شَيْءٍ فِي طُولٍ، وَاتِّصَالِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِي اسْتِطَالَةٍ‎.‎‏ تَقُولُ: مَدَدْتُ الشَّيْءَ أَمُدُّهُ مَدًّا‏‎.‎وَمَدَّ النَّهْرُ، وَمَدَّهُ نَهْرٌ آخَــرُ، أَيْ زَادَ ‏فِيهِ وَوَاصَلَـهُ فَأَطَـالَ مُدَّتَــهُ. وَالْمِــدَادُ: مَا يُكْتَبُ بِهِ، لِأَنَّهُ يُمَدُّ بِالْمَــاءِ»(م ل).
«والمَدُّ: السَّيْلُ، قَالَ الْعَجَّاجُ: سَيْلٌ أَتِيٌّ مَدَّه أَتِيُّ ***غِبَّ ‏سمَاءٍ، فَهُوَ رَقْراقِيُ. قَالَ اللِّحْيَانِيُّ(220هـ): يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَثَّرَه: مدَّه يَمُدُّه مَدًّا. وَقَالَ الفراءُ (‏‎207 ‎هـ): وَالشَّيْءُ إِذا مدَّ ‏الشَّيْءَ فَكَانَ زِيَادَةً فِيهِ، فَهُوَ يَمُدُّه. ومَدَّ الدَّواةَ وأَمَدَّها: زَادَ فِي مائِها ونِقْسِها» (ل ع).
«المَدّ: السَّيْلُ» (ت ع).
«مَدَّ النهر أو البحر: زاد ‏ماؤه وامتد‎.‎‏ ‏‎ ‎مَدَّ النهر: سال. مَدَّ ماء النهر أو البحر: زاد وكثر. مد الرافد النهر. مَدُّ من البحر: إرتفاع مائه وامتداده إلى البر» (م ‏ر). ‏
بعد هذا العرض الذي أردناه مفصّلا لا بدّ من تقديم الملاحظات التّالية:
- إنّ أول ما يلفت الانتباه عند تتبّع استعمال المادّة (م د د) في ‏أمّهات المعاجم هو اقتصارها تقريبا على وصف ما ينتج عن دخول الماء في الماء سواء ماء النّهر أو ماء البحر أو الجاري على ‏السطح. فـ«المَدُّ: كَثرةُ الماء أيّامَ المُدودِ‎.‎‏ ومَدَّ النَّهرُ» (ع). «ويقال: وَادِي كذا يَمُد في نهر كذا أي يزيد فيه. قَلّ ماء رَكِيّتِنا فمَدّتْها ‏رَكِيّةٌ أُخْرَى، فهي تَمُدّها مدّا». (ت ل). « والمَدُّ: السَّيْلُ» (ل ع). وَ«مَدَّ النَّهْرُ، وَمَدَّهُ نَهْرٌ آخَرُ، أَيْ زَادَ فِيهِ وَوَاصَلَهُ فَأَطَالَ مُدَّتَهُ. ‏وَالْمِدَادُ: مَا يُكْتَبُ بِهِ، لِأَنَّهُ يُمَدُّ بِالْمَاءِ»(م ل). 
أمّا المعاني التي تذكرها تلك المعاجم والتي ترتبط باستعمال مشتقّات المادّة، فتشمل ‏الزّيادة المتّصلة أي اتصال شيء بشيء في استطالة وتتضمّن الانسيابيّة والسّيلان والإطالة والجرّ والكثرة والامتلاء والارتفاع. وقد ‏أوجز البعض المعنى الأساسي للفظ (مدّ) كما يلي: «يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَثَّرَه: مدَّه يَمُدُّه مَدًّا» وهو ما نجده منقولا في لسان ‏العرب عن اللِّحْيَانِيُّ‎ ‎وكذلك عن الفراءُ قوله: «وَالشَّيْءُ إِذا مدَّ الشَّيْءَ فَكَانَ زِيَادَةً فِيهِ، فَهُوَ يَمُدُّه». 
نحن إذا، إزاء آليّــة تحدث تغييرا ‏في حجم الجسم ومقداره تتمثّل في دخول شيء في شيء مثله بصورة متّصلــــة. إنّ الحالة السّائلة هي المعنيّة مباشرة بالمعنى ‏الأصلي للكلمة باعتبار اقتصار استعمالها تقريبا على وصف المـــاء وهو ما يجعــل التّغيير الذي يطرأ على الحجم يتمثّل في استطالة ‏أفقيّة وكأنّ الجسم يجرّ ويجذب وهو ما نجده فــــي معجم الرّائــد (م ر) بالصّياغة التّاليـة: « مدّ من البحــر: إرتفاع مائـه وامتداده إلى ‏البرّ».‏
إنّ المعنى الأصلي الذي يحيل إليه لفظ «مدّ» هو ذلك الفعل الذي ينتج عنه زيادة في مقدار جسم ما وحجمه على جهة الاستطالة وذلك ‏بأن يدخل فيه مثله. فهل لفعل المدّ نصيب في وصف الكيفيّة التي تشكّل بها سطح الأرض أي قشرتها الخارجيّة؟
(5) مدّ الأرض في التفاسير القديمة
قبل الإجابة على السّؤال نورد أهمّ ما جاء في تفسير لفظ المدّ الوارد في الآية 3 من سورة الرّعد «وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلأَرْضَ» كنموذج ‏نقدر أنّه ممثّلا لما قيل في شأن الآيتين الأخريين بعلاقة بالمدّ. ففي تفسير مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) نجد أنّ مَدَّ ٱلأَرْضَ ‏‏«يعني بسط الأرض من تحت الكعبة». أمّا في تفسير «جامع البيان في تفسير القرآن» (الطبري ت 310 هـ) فنقرأ: « يقول تعالـى ‏ذكره والله الذي مدّ الأرض، فبسطها طولاً وعرضا». وفي «تفسير القرآن العظيم» يقول ابن كثير (ت 774 هـ) «أي جعلها متّسعة ‏ممتدّة في الطّول والعرض». ولا يشذّ ابن عاشور (ت 1393 هـ) عما قيل من قبله اذ يقول في تفسير «التحرير والتنوير»:«والمدّ ‏البسط والسّعة».‏
لقد جاء في التّفاسير أنّ مَدَّ ٱلأَرْضَ يعني: بسط الأرض، بسطها طولاً وعرضاً، البسط إلى ما لا يدرك منتهاه والبسط والسّعة. ‏والواضح أنّ المفسرين ذهبوا جميعا الى جهة ما ينتج عن المدّ وليس الى المدّ نفسه. فالجسم إذا مدّ بدخول مثله فيه فإنّ حجمه يتغيّر ‏في استطالة وهو ما يؤدّي الى بسطه وتوسّعه. 
ويبقى السّؤال مطروحا حول حقيقة مدّ الأرض وهو ما سنسعى الى توضيحه من ‏خلال استدعاء أهمّ ما توصل اليه العلم الحديث من حقائق تتعلّق بالقشرة الأرضيّة ماهيتها وطريقة تشكّلها.‏
(6) نظرية تكتونيّة الصّفائح
سادت منذ أواخر السّتينات من القرن الماضي نظريّة علميّة تفسّر جميع الظّواهر التي تحدث بالكرة الأرضيّة سواء داخلها أو على ‏سطحها. تعتمد النّظرية على نموذج لبنية الأرض الدّاخلية تتمايز فيه الصّخور في شكل طبقات يغلف بعضها البعض. أوّل تلك ‏الأغلفة القشرة الأرضيّة ثم يليها الوشاح ثمّ النّواة الخارجيّة والنّواة الدّاخليّة. تختلف صخور القشرة بين القارات والمحيطات. ‏فصخور القشرة القارّية أو اليابسة خفيفة قياسا بصخور القشرة التي تبطن قيعان المحيط. تسمّى صخور القشرة القارّية «جرانيت» أمّا ‏الصّخور التي تكون القشرة المحيطيّة تسمّى «بازلت». 
يطلق العلماء على النّظريّة اسم نظريّة الصّفائح أو الألواح. فما هي الصّفائح؟ ‏يعتمد النّموذج الذي تبنى عليه النّظريّة أساسا على الخواص الميكانيكيّة للصّخور. ففي هذا التّقسيم تعتبر القشرة وجزء من الوشاح ‏العلوي طبقة واحدة صلبة تسمّى النّطاق الصّخري أو الغلاف الصّخري ومتوسّط سمكها 100 كم.‏‏ 
يطفو الغلاف الصّخري على ‏صخور لدنة شبه منصهرة من الوشاح. يتمزّق هذا الغلاف الى مجموعة من القطع تحدّها مناطق زلزاليّة وبركانيّة وتتحرّك تلك ‏القطع إمّا مبتعدة أو مقتربة من بعضها البعض بفضل تيّارات الحمل الحراري التي تعتمل في الوشاح. تسمّى كلّ قطعة صفيحة. ‏تتشكّل الصّفائح إمّا من قشرة محيطيّة وهذا الغالب أو من جزءين، واحد قاريّ والآخر محيطيّ أو من كتلة قاريّة وهي قليلة العدد. ‏ورغم اختلاف القشرتين فلقد استطاع العلماء التّعرف على أصل كلّ واحدة منهما والآليّة التي تسبّبت في نشأتها.‏
(7) المَدُّ: آلية تشكل القشرة الأرضية
كانت الأرض قبل 4540 مليون سنة - مباشرة إثر اكتساب حجمها النهائي الذي تشكل بالارتكام- تبدو كجحيم جهنّمي اذ كانت ‏حرارتها أكثر من 1200 درجة ولم تكن حينها سوى كوكب بدائيّ متكوّن من صخور منصهرة وتفتقر إلى سطح صلب. ومع ‏الزّمن، تصلّبت بلّورات بعض المعادن وطفت فوق سطح المهل مشكّلة قشرة أوّليّة رقيقة من المحتمل أن تكون بازلتيّة. لم يبق ‏شيئا من تلك القشرة حيث أنّ الأرض تعرّضت في وقت مبكر جدّا قبل 3900 مليون سنة تقريبا الى هطول كميّات كبيرة جدّا من ‏النّيازك دمّرت تلك القشرة. ومع الحرارة التي اكتسبتها في نهاية مرحلة الارتكام بدأت تتراكم تدريجيّا حرارة إضافيّة ناجمة عن ‏تفكّك العناصر المشعّة وقد أدّى ذلك التّسخين البطيء الى انصهار جزء صغير من داخل الكوكب ممّا أفضى الى اندفاع المهل ‏البازلتي الى الأعلى. تبرّد ذلك المهل وأعطى قشرة ثانويّة مثل التي تشكّل قاع المحيط اليوم. لكن كيف؟ ‏
أ‌-‏ مَدُّ القشرة المحيطية ‏
الإجابة عن السّؤال تقبع في المحيطات. لنأخذ مثلا المحيط الأطلسي ونرى كيف تنشأ القشرة المحيطيّة. تشقّ القشرة المحيطيّة ‏سلسلة جبال طوليّة تقع تحت ماء المحيط بحوالي 2 كم. تمتدّ هذه السلسلة على مسافة آلاف الكيلومترات بالتّوازي تقريبا مع ‏سواحل افريقيا وأمريكا. يتكوّن في منتصف هذه السلسلة ذات العرض المقدّر بعشرات الكيلومترات أخدود عميق جدّا يصل عمقه ‏الى حوالي 4 كم تحت سطح الماء، ويمثل مكان تولّد الصّخور الجديدة. عند خروج الصّهارة من باطن الأرض وملامستها لماء ‏البحر تتصلّب مكوّنة صخورا ناريّة بازلتيّة وتعطي أرضيّة قاع المحيط. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ إذ أنّ تدفّق المهل لا يتوقّف. ‏فكيف ستتكدّس الصّخور الصّاعدة من الدّاخل على ظهر الأرض وهل سيتولّد عن تراكمها جبال شاهقة من البازلت؟ لم يحدث مثل ‏هذا الأمر رغم ملايين السّنين من التّدفق المستمر للصّهارة. فليس هناك جبال تعلو سطح المحيط الأطلسي مثلا ولا سطح المحيط ‏الهادي أو الهندي أين توجد نفس الظّاهرة. 
يفسّر العلماء ذلك بأنّ الصّخور المتدفّقة باستمرار تتمدّد أفقيّا فينتج عن ذلك توسّع لقاع ‏المحيط وتباعد لقارتي أفريقيا وأمريكا وهو ما تؤكّده القياسات التي تقوم بها الأقمار الصّناعية. تتكوّن القشرة المحيطيّة إذا بهذه ‏الطّريقة أي بتدفّق مستمر للمهل، فيدخل اللاّحق في السّابق، فيزيد فيه ويكثره أي يمدّه مدّا بأتمّ ما في الكلمة من معنى. 
تتدفّق ‏الصّخور المنصهرة من جوف الأرض باستمرار، فتتمدّد أفقيّا مكوّنة قشرة جديدة لقاع المحيط سالكة في ذلك سلوك الماء لكن على ‏مقاييس زمنيّة مختلفة. فعندما يدخل ماء نهر في نهر آخر فإنّه يزيد فيه ويكثره ويغير حجمه على جهة الاستطالة (أي وبكلمة ‏واحدة: يمدّه) وذلك بشكل آني نظرا للإنسيابيّة العالية التي يتّصف بها الماء، كذلك تسلك الصّهارة المتدفقّة من أخدود السلسلة ‏الجبليّة الموجودة في وسط المحيط بصورة أبطأ ولكن وفق نفس القانون الفيزيائي، إنّها تتدفّق باستمرار، فتدخل فيما سبقها لتزيد فيه ‏وتكثره على جهة الاستطالة لتشكّل القشرة المحيطيّة البازلتيّة أي أنّ القشرة البازلتيّة تتكوّن بآليّة المدّ بالمعنى الدّقيق للكلمة. وبما ‏أنّ حجم الأرض ثابتٌ غير متغيّر فإنّ الصّخور الجديدة المكوّنة لقاع المحيط تعوّض أخرى تعود الى باطن الأرض. كيف؟ 
تتحرّك ‏القشرة المحيطيّة أفقيّا مبتعدة عن سلسلة الجبال التي ولدت في رحمها. وبقدر ما تبتعد تنخفض درجة حرارتها وتزداد ثقلا. وبعد ‏حوالي 200 مليون سنة تكون قد بردت بمقدار يمكنها من الغوص من جديد في باطن الأرض تحت تأثير وزنها، وهو ما يحدث ‏الآن على طول السّاحل الغربي لأمريكا الجنوبيّة. ولهذه العودة نتيجة حاسمة في تشكيل القشرة القارّية.‏
ب- مَدُّ القشرة القارّيّة
إنّ عودة القشرة البازلتيّة الى الوشاح داخل الأرض النّشطة تنتج مهلا جديدا له تركيب مختلف عن البازلت وأقرب الى تركيب ‏صخر الجرانيت المكوّن للقشرة القارّية التي ستتشكّل بنفس الآليّة أي المدّ. ترتفع الصّهارة ذات التّركيب الجرانيتي الى الأعلى ‏وبمرور الوقت تبدأ كتل من الصّخور الخفيفة في التكدّس معلنة ولادة قشرة جديدة والتي ستتمدّد بدورها نظرا لسلوك الصّخر الشبيه ‏بالسّوائل على المقياس الزّمني الجيولوجي (ملايين السّنين). تشهد بعض الصّخور بوجود قارّات منذ 3.8 مليار سنة. 
إنّ إعادة ‏التّدوير وإنتاج مهل جرانيتي لا يمكن أن يحدث الاّ في كوكب تعمل فيه الصّفائح التكتونيّة وهو ما حدث فعلا قبل 3 الى 2.5 مليار ‏سنة‎.‎‏ فبوجود تكتونيّة الصّفائح يتكوّن المهل الضّروري لظهور القشرة الأرضيّة من خلال الارتفاع العامودي من باطن الأرض الى ‏السّطح حيث يتمدّد المهل أفقيّا على مساحات كبيرة جدّا‎. ‎
‏(8) خاتمة
سواء أكانت قارّيّة أم محيطيّة، تنشأ القشرة الأرضيّة دائما نتيجة انصهار جزئي لصخور الوشاح الذي يولد المهل. يتبلور ‏المهل بسرعات مختلفة لكي يعطي في الأخير القشرة الأرضيّة‎.‎‏ يؤدّي التّدفق المتواصل للصّهارة الى ازدياد مقدار وحجم ‏الصّخور المتبلورة على جهة الاستطالة أي الى تمدّدها أفقيّا‎.‎‏ إنّ الصّخور المنصهرة الصّاعدة من الوشاح تمدّ التي سبقتها لأنّها ‏تكثرها (تزيد فيها وتواصلها) بشكل متواصل وتجعل حجمها يزداد في استطالة‎.‎‏ 
لقد أجاب العلم الحديث عن السّؤال المتعلّق ‏بالكيفية التي جعل بها للأرض سطحا بمعنى قشرة خارجيّة. إنّها آلية المدّ. لقد بدأت تلك الآليّة في العمل منذ 4 مليار سنة ‏تقريبا مكوّنة قاع المحيط الذي كان يغمر سطح القشرة الأرضيّة (وهو سطح الأرض) بالكامل قبل 4.4 مليار سنة. تشهد ‏الصّخور الرّسوبيّة بوجود الكتل القارّية الرّاسخة منذ 3.8 مليار سنة‎.‎‏ تبيّن نماذج المحاكاة الحسابيّة أنّ القارّات الحاليّة بدأت ‏تتشكّل قبل 4 مليار سنة وأنّ 80 % منها تكوّن قبل 2.5 مليار سنة‎. ‎‏ تتميّز صخور القشرة القارّية عن صخور القشرة ‏المحيطيّة بكثافة أقلّ لذلك فهي تبقى دائما طافية على صخور الوشاح شّبه السّائلة أمّا صخور القشرة المحيطيّة فعمرها ‏قصير لأنّ كثافتها العالية تدفع بها من جديد في دورة بمائتي مليون سنة الى جحيم الأرض ليعاد تدويرها. ‏
المراجع
‏(ع):  (مد) معجم العين-الخليل بن أحمد الفراهيدي-توفي: 170هـ  /‏‎786‎‏0م ‏
‏(ت ل): (مد) تهذيب اللغة-أبو منصور الأزهري -توفي: 370هـ/980م
‏ (م ل): (مد) مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م
‏(ل ع): (مدد) لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
‏(م ر): معجم الرائد (مَدَّ) الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م