في النقد الأدبي

بقلم
د.ناجي حجلاوي
معالم القول الشّعري عند‎ ‎‏ الشّاعر محمّد الطّاهر السّعيدي
 المقدّمة
‎   ‎لئن تعدّدت التّعريفات المتعلّقة بالشّعر وممارسته من كونه حديث النّفس وأنّه أعذب الكذب ‏وأنّه كلام موزون مُقفّى، فإنّ المعوّل عليه يظلّ مركوزا في التّجارب الحيويّة النّابضة المرتبطة ‏بالمعيش الممزوج بالخيالات، وهو ما يبقى في النّفس بعد الحرائق. ويبدو أنّ الشّاعر محمّد ‏الطّاهر السّعيدي ينتصر إلى هذه الإشارة الأخيرة من خلال قوله: ‏
« أرسم على جبيني راية الرّفض »‏
« يكتبني التّاريخ حفنة من تراب »‏
« يكتبني الشّعر بجمر الكلمات » ( حنين المسافة، ص 74).‏
كما يُعاود الإشارة إلى اللّهب والمجمرة: ‏
« كم من قصائد حلّقت على بياض الورقهْ »‏
« ما خطّتها يد‏
ولا رسمها مدادْ»‏
‏« وكم من قصائد تركت جِلدها في المحبرة»‏
وألقت بجناحيْها في المجمرة» ( حنين المسافة، ص 81).‏
وإذا كان الشّعر، على اختلاف مدارسه، يُعتبر صناعة لغويّة، فإنّ أكثر النّاس شاعريّة هم ‏الّذين يتقنون هذه الصّناعة. وفي هذا الفضاء، يتمّ النّظر إلى معالم القول الشّعري لدى الشّاعر ‏محمّد الطّاهر السّعيدي، ولقد تمحورت أشعاره حول أبعاد ثلاثة الحبّ والفكر والتذكر، وهذه ‏الحركات الثلاث تنتظم وفقها المعاني الجوهرية التي تدور حولها التّجربة الشّعرية. فما هي ‏مكونات الجانب الوجداني ومستوياته؟ وماهي رمزيّته؟ وما المقصود بالفكر في صلب العمل ‏الشّعري؟ وهل أغنت هذه الفكرة جوانب من هذه التّجربة؟ وأين تتجلّى آثار التذكر في القيل ‏الشعري عند الشاعر؟
معالم القول الشّعري
‏  إنّ المطالع لأشعار محمّد الطّاهر السّعيدي المتمثّلة في مجموعاته الشّعريّة التّالية:‏
«حبّ وصخب»، الصّادرة عن الشّركة التّونسيّة للنشر وتنمية فنون الرّسم، تونس، ط1، سنة ‏‏2005. و«حنين المسافة»، الصّادرة عن مطبعة فنّ الطّباعة، تونس، سنة 2011 ، و«هزائم ‏الرّيح»، الصّادرة عن دار المسار للنّشر والتّوزيع، تونس، ط1، سنة 2018، يُلفي أنّ الشاعر ‏يتوجّع تحت حبّ بائس ‏
«كبر الزّمان وطيف حبّك ما كبر» ( حب وصخب، ص 9)‏
فهو ما يجعل آفاق التّعلق بالوجود والحرّيّة تضيق شيئا فشيئا ولا يجد الشّاعر من بدّ إلاّ ‏الارتماء في أحضان الحلم꞉«حلمت بك، حلمت بأناملك الرقيقة» (ص 10). وما الحلم في ‏الحقيقة إلاّ محاولة خاوية لترميم الوجدان المحطم والمهشم «قلبي صدفة خاوية بلا روح بلا ‏أمل» (ص 12). وتتعاظم مأساة الذّات الشّاعرة عندما يستبدّ بها الوعي الشّقيّ المتمثّل في أنّها ‏تخترع حلما ولكنّها سرعان ما تشعر أنّها عبد له: ‏
«أأبتكر حلما فيأسرني» ( حنين المسافة، ص94)، ورغم الضعف والبكاء من شدّة اللّوعة فإنّ ‏الشّاعر يصرخ عاليا طلبا للسّقاية والسّدانة والإعانة والوصال.‏
‏إنّ الحبّ عند محمّد الطّاهر السّعيدي مازال على شاكلته العربيّة التّقليديّة الّتي تجعل منه مكابدة ‏مرّة وسعي شاقّ في سبيل اللّقاء السّعيد المهدّد بنار أبي لهب وزوجته المحتطبة وما فعل ‏التصدّي لصوت الحبّ إلاّ إحداث للصّخب العابث المقيت كالصّراخ المنبعث من الحانات بين ‏خذها وهات ليضلّ العاشق صريعا ككلّ عاشق عربي الّذي إذا أحبّ مات « آه قتلوا العاشق»( ‏ص 25) ورغم سودويّة الصّورة العليقة بالعشق، فإذا الذّات الشّاعرة تحاول اختراقها بحبّ ‏الأرض وروائح البلد الماثلة في حسن ناحية حلق الوادي وزرقة البحر وضياء النّهار وجمال ‏ناحية الكرم وتألّق ضاحية الزّهراء وكأنّني بالشّاعر يستبدل فشل الحبّ والشّقاء بحبّ الأرض ‏والوطن ويتقوّى الشّاعر بأصدقائه الشّعراء كي يستأنس بهم ويُخفف من آلام غربته وانكساره ‏في هذا الوجود لأنّ المصائب إذا عمّت خفّت.‏
‏وحينما تتبدّد أبعاد الحبّ تتحوّل الحياة إلى جثّة نتنة كعجوز زانية يخرج من فمها الدّخان ‏والبخار وحمم النّار والذّباب والحشيش والجنون (ص 33)، ويتمنّى الشّاعر أن تكون له قوّة ‏الرّيح كمحمود درويش وكالمتنبي للرّحيل كالطّير على فنن الخيال والفرح والسّرح على ضفاف ‏الفرات وأطراف الشوق على ضفاف القمم لتعمير الدّهر بالشدو والألحان وأشعة الشمس ‏المتعالية على الوثن والانحطاط (ص 37).‏
‏إنّه صراع الفوق والتّحت والشّرق والغرب والنّور والظّلام والشعر والصّمت والحرية والضيق ‏والحزن والفرح. جدل يؤدي إلى جدل وحركيّة تفيض بالتوثّب لمعانقة القيم في الحياة المنشودة ‏التي تفيض بدورها بالقوارير الخضر والرّاح والضّياء والألوان حيث تختزل الأجيال و الأزمنة ‏في لحظة دافئة فيّاضة وحيث السّماء المتعالية بالغناء رغم الثّكل والدّموع والحزن. فالحزن عند ‏محمّد الطّاهر السّعيدي  منجم تفقص فيه البيضات وخِصب يتوالد فيه الخطاف ويتمّ الرحيل على ‏سفائن الكتابة والقصص الجميلة.‏
إنّ الشاعر يتعلّق بالأرض وأهل الأرض من الخيرات والأشجار والذّباب والفئران ويتأمّل‏ العلاقات الجائرة الماثلة في الأكل والمأكول (ص 52)، ليصل إلى الحقائق الكبرى حيث المال ‏والجراثيم الزّاحفة الّتي تبتلّ فيها القصائد وتنصب الأمواج على رؤوس السّيوف وتظلّ اللّحظة ‏المنشودة هي لحظة حبلى بالرّوح والحبّ والطّيب والعطور في الرّبيع الأبيض والأحمر، والبادي ‏في ثمرة الرّمان والزرقة في السّماء ولون التّفاح ورائحته وبياض النّجوم واخضرار النباتات ‏واصفرار الرّياح، إنّه مهرجان الألوان وعُرس الحواس المنتشية سمعا وبصرا وشمّا ولمسا ‏وذوقا، إنّها لحظة الانتشاء والالتذاذ والحلم وآفاق المياه والأمطار والإعصار وحبّ الشّمس التي ‏ترمز إلى الحقيقة الّتي فرّ بها برومسيوث وتخبأ عن الآلهة. والشّاعر يرسم طريقه الّذي يسلكه ‏بحثا عن هذه الحقيقة الضّائعة وسلاحه الأوحد هو الحبّ صاحب المعجزات المتمثّلة في طلوع ‏الشّمس من الغرب ( ص70 ).‏
‏إنّ الشّاعر يستلهم معانيه من الجمال النّسوي والجمال الطّبيعي ويركّز على أبعاد مرجعيّة ‏واقعيّة تغني معانيه بعبق الحياة المعيشة، فأنت مع القيروان وتلابت ودجلة والفرات والعراق ‏وتالة والجبل ومجردة، والسماء والقمر واللّيل والنّجم والفرس والسّفينة والمواني. والذّكرى ‏وصورة الحبيبة وضجيج الوادي «ستتركين ولاشكّ في طيّ المكان انفاسك الحرّى وشلال ‏الدماء (ص 75).‏
‏ومازال الشّاعر يؤسّس لنفسه عالما من الأفكار يتحدّى به الجثث المتناثرة هنا وهناك (فكرة ‏من مجموعة هزائم الريح ص 9)،  رغم تطاير الأفكار كتطاير الرؤوس والجثث، فإنّ الشّاعر ‏يظلّ يرش الأفكار الحيّة (هزائم الرّيح، ص10). ولاغرابة في هذا اللّجوء لقلق الحب قبل أن ‏يتجسّد، فهو فكرة ظاهرة متعالية (هزائم الرّيح،ص11). فالأحرف في هذه الأرضية الفكريّة ‏تظل ألذّ وأبقى كطعم التّفاح الرّامز للخطيئة اللّذيذة (هزائم الرّيح، ص 13. وتتحوّل الأفكار ‏سلاحا فعّالا يُقاوم الشّاعر به الظّلام والظّلمات (هزائم الرّيح، ص14).‏
‏   فالفكرة البيضاء الّتي تشبه الصّبح هي المركبة الفضلى الضّامنة للنّجاح (هزائم الرّيح ص14) ‏، فللفكرة مضاء كمضاء السّيف «فجأة أخذتني فكرة من خلف أصبح سيفي في يدي يقطر حبرا» ‏‏(هزائم الرّيح، ص 15). فالفكرة الّتي تكون صادقة وعارية تتمتّع بقوّة وإشعاع قادر على ‏إحراق الشّمس (هزائم الرّيح، ص16). فبالفكر يسلك الشّاعر سُبل الإبداع لبلوغ سواحل الشّرق ‏من أجل الانتصاب ملكا في مملكة النّجوم ( ص17). وبالفكرة يتمّ التّزواج والتّكاثر وتتوفّر ‏الخصوبة وتنمو الحياة (هزائم الريح ص18 ) والأفكار تنبع من الظّلوع وتسكن الرأس وتتسلّل ‏إلى الجسد من مسامه (ص19). ولتحقيق  هذه الوظائف وتشخيص هذه الصفات الّتي تميّز عالم ‏الأفكار، فإنّ الشّاعر يهون عليه ان يُوكل كلّ شيء لديه إلى عالم الأفكار «كل يأسي وانتظاري ‏لكن لا تأكل أفكاري» (هزائم الرّيح ص25).‏
‏ولمّا كانت الأفكار تتمتّع بكلّ هذه القيمة، فإنّ الشّاعر مستعدّ لأن يبذل كل مهر مهما غلا. إنّ ‏الشّاعر المسلّح بالكلمات يستمدّ من الحب أجنحة ليطير في فضاء الأبد وفي يده وردة (هزائم ‏الرّيح، ص33 ). وفي هذا العالم اللّذيذ يسعى إلى تحقيق الاتّحاد مع من يحبّ يقول «شرعنا لنا ‏حلما واحدا وأبحرتِ فيّ وابحرتُ فيك» (هزائم الرّيح ص35)، فعالم الحبّ هو عالم الضّوء ‏والنّور اللّذين يتضاءلان أمام نور الوجه الّذي يتعلّق به الشّاعر رغم نيران الغيرة والشّك وطريقه ‏هو طريق السّقوط والزّيف (ص39). ولمّا كان الحب المنشود حبا بائسا، فإنّ الملجأ هو الذّكرى ‏والتّعلق برسومه «تداعب الذكرى كأنّك تلاعب قطة. وفي الأخير تضربك بخفْ، تجرحك ‏جرحا خفيفا، وتنصرف» (هزائم الرّيح ص 48.)‏
‏وتتّسع دوائر التّذكر الّتي يتّخذ منها قطارا يُسافر فيه «أسافر في قطار الذّكريّات» ( حنين ‏المسافة، ص 35) لتصبح  كاتّساع دوائر الأسطورة «كأسطورة سزيف»، مثلا وعذاب المعاناة ‏‏(ص57 )، أو أسطورة أوديب (ص 64) أو أبي الهول (ص 67). ويتلذّذ الشّاعر باجترار ‏الذّكرى. ولعلّ رأس هذه الذّكريات صورة الزّوجة الرّاحلة « أزهار تردّد أغنية لم اسمعها إلّا أنا ‏وأنت والرّيح» (هزائم الرّيح، ص 72). والنّتيجة أنّ التّذكّر يسير بالشّاعر في شِعاب السّكر ‏والعمى والدّموع (ص ص 74 75 ).‏
‏والنّتيجة أنّ الحبّ والفكرة والذّكرى كلّها سُبل تخفّف معاناة الشّوق والتّعب، رغم اشتراكها في ‏المرارة القائمة المستمرّة كشجرة قديمة تمتدّ في ساحة العملة (ص79). والمآل من كلّ هذه ‏السّبل، هو التيْه والانكسار والضّياع كضياع طفل عن أمّه وذكرى متبخّرة كتبخّر الخيال ‏‏(ص83)‏
‏والمهمّ أنّ الشّاعر كي لا يستسلم، فإنّه يتعلّق بالرّيح رمز الثّورة والتّمرد وبالجبل رمز ‏الرّسوخ،  إلاّ أنّ هذيْن العنصرين بدورهما يعانيان الهزائم الواحدة تلو الأخرى: ‏
«الجبل المهزوم»‏
‏ «يمشي إلى الوراء»‏
‏ «يأكل بقايا ظلّه» (حنين المسافة، ص21)‏
‏ولعلّ هذه الهزائم المتتالية، هي الّتي حاصرتْ الشّاعر من كلّ جهة فجعلته يُكابد الظّلام ‏والوحدة والوحشة، ممّا جعل القمر يبزغ بلا وجه على حدّ عبارته، فارتمى في بحار من الغربة، ‏يقول:‏
«جئت من أقصى المدينة أسعى»‏
«أحمل جرحي على كتفي»‏
«في جرابي مواعيدَ مؤجّلة»‏
«وترانيمي وبعض متاعبي» ( حنين المسافة، ص93).‏
ويظلّ المكان هو الرّمز الموحي بالنّجاة والخلاص من كل ضيق، إنّه مكان تالة المتلحّفة ‏بالمطر والألحان،  وهي ترنو إلى المستقبل، ورغم ذلك تلاحق الهزيمة حتّى هذا البعد المكاني‏‏ :
«وانزوى الزّمان في ركن لا تراه. ‏
واختفى المكان في بعد ثالث مريب» ( هزائم الرّيح، ص99)‏
‏إنّ اللاّفت في هذه التّجربة الشّعريّة، هو ملاحظة الجدل المستمرّ بين الضّيق والاتّساع وبين ‏المرارة واللّذة، والهزيمة والمقاومة.‏
الخاتمة
‏لقد طوّح الشّاعر محمّد الطّاهر السّعيدي في مجالات النّفس البشريّة تحبّبا وتفكّرا وتذكّرا، ‏واهتمّ بالتّفاصيل المثيرة الّتي تعجّ بها حياة الفرد دون أنْ يُأبه لها وأحال على منابع اللّذة بمختلف ‏مستوياتها شمّا وابصارا وسمعا ولمسا وذوقا، فكانت مقاطع من شعره تنبض  باللّذة والنّشوة كما ‏أحال على عالم يفيض بالألوان المختلفة فكان القارئ في جنّة من الألوان الزّاهية يتنقل على هواه ‏من لون إلى لون، ومن طيف إلى طيف، رفضا للهزيمة ولصخب الحبّ وحنينا للمسافة القاطعة ‏بالتّرحال والضّرب في دروب الحياة، إلّا أنّ بعض المقاطع هي ألصق بالوضوح والمباشرة أو ‏الإشارة إلى صور قد تزعج القارئ أكثر من أنْ تُمتعه.‏