نقاط على الحروف
بقلم |
أسامة الهكار |
الفلسفة الإسلامية مقاربة في إشكالية المصدرية |
إن دراسة العلوم الإنسانية دراسة منهجية يحيل على مجموعة من الإشكالات ذات الطابع التاريخي والفلسفي، فكيف بنا إذا حاولنا إخضاع الفلسفة نفسها لهذه الدراسة. وإذا ما خصصنا البحث حول الفلسفة الإسلامية سواء من حيث الجدة والأصالة أو التكرار والتقليد، نجد أنفسنا أمام آراء كثير من الفلاسفة والمؤرخين قديما وحديثا، ومدار الخلاف في ذلك حول مقدرة العقل العربي المسلم على التفلسف. لكل هذا وغيره يحق لنا أن نتساءل: ألم تكن الفلسفة اليونانية ناضجة بحيث تناولت كل المواضيع الفلسفية، بالتالي ماذا بقي للعقل العربي سوى النقل والترجمة؟ أليست الفلسفة تفكيرا مجردا، والعقل المسلم يحيطه الوحي من كل جانب؟ هل فعلا نحن أمام فكر فلسفي إسلامي محض أم هو مجرد تقليد معرفي؟
للإجابة على هذه الأسئلة المحورية في بسط موضوعنا لا بد أن نؤكد على أن الفلسفة الإسلامية سمة أساس من سمات العقل العربي، ولبنة مهمة في تشكيل وعيه التاريخي، ومحاولة التشكيك في وجودها وأصالتها ضرب من ضروب المواجهة الثقافية، ومن صراع الحضارات، خاصة إن لم يكن البحث فيها مجردا عن الخلفيات، مبتعدا عن الأحكام الجاهزة. وللإشارة فقط قبل البدء في تحليل الموضوع، فإن الفلسفة الإسلامية عانت من إشكالية التسمية أيضا، وليس فقط إشكالية المصدرية (1). فقد اختلف الفلاسفة والمؤرخون قديما وحديثا عربا وعجما في تسميتها، فمنهم من سمَّاها فلسفة عربية، وآخرون جعلوها فلسفة إسلامية، وآثر فريق آخر تسميتها بالفلسفة في بلاد الإسلام. غير أن الإشكالية المركزية التي أثارت اهتمام كثير من الباحثين هي إشكالية المصدرية في الفلسفة الاسلامية، فمن أين تستمد هذه الفلسفة روحها؟ وما هي الأطر والخلفيات التي تشكلها؟
إنّ السّؤال عن مصدريّة الفلسفة الإسلاميّة فيه تجاوز، لأنّه ممّا يمكن أن يُضمر فيه التّشكيك في وجود فلسفة إسلاميّة أصلا، باعتبار الفلسفة فكرا مجرّدا.غير أنّه يمكن تفكيك السّؤال المركزي عن المصدريّة من خلال استعراض القائلين بعدم جدّة الفلسفة الإسلاميّة، فمن ذلك المستشرق «رينان» (2) الذي استند إلى دراسة لغويّة قسم فيها الشعوب إلى آرية وسامية، فالساميون –حسب نظريته- غير مؤهلين للتفلسف، وروحهم تمتاز بالوحدة والبساطة في التفكير، لذلك يعتنقون التوحيد ولا مقدرة لهم على إعمال العقل وسبر أغوار الفكر والقضايا الفلسفية، وهم العرب، دون الحديث عن اليهود المنتسبين لهذا العرق أيضا في هذه الدراسة! بينما الجنس الآري ذو التركيبة الاوروهندية قادر على التفلسف، لأن عقله جمعي وتركيبي يربط الجزئيات في صورة متكاملة ومتناسقة. وتماشيا مع ذلك وغير بعيد يؤكد عدد من المستشرقين (3) أن العرب يغلب على فكرهم الماديات، وضنك العيش سبب في تفكيرهم المحدود، وكذا مراجعتهم الحياة وصعابها تحول دون مطالب العقل الرفيعة، على غرار ما كان يعيشه المجتمع اليوناني، فقد انحصرت الفلسفة في الطبقة النبيلة دون العبيد، كما أكد «كاي دي بور»(4) على تخلف العقل الشرقي وعدم مقدرته على التفلسف، ولا يكفي أن نوضح آراء هؤلاء المستشرقين فقط، بل إن بعض من انتسبوا إلى الثقافة العربية الإسلامية كان لهم نصيب من هذا النقد، فقد أورد «عبد ربه الأندلسي»(5) في كتابه العقد الفريد أن العرب لم يكن لهم ملك يحميهم ولا فلسفة تميزهم، بل كانوا فقط أهل شعر وقد شاركهم فيه العجم، كما يذكر الجاحظ أن العرب لم تكن لهم مقدرة على التفلسف، إنما قدرتهم في البديهة اللغوية ولذلك برعوا في فنون القول. وقد تحدث غير هؤلاء في هذا الجانب خاصة ذوو النزعة الشعوبية ... وكل هذه الآراء في المقابل إنما تؤكد على استفاضة الفلسفة اليونانية للمواضيع التي يمكن أن يبحث فيها خاصة مع فلاسفة أسسوا لهذا العلم كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم كثير. ونحن إذ نؤكد على أن الفلسفة اليونانية هي الصورة الكاملة الأولى للفكر الفلسفي الإنساني، فإنّه لا يمكننا نفي وجود صورة كاملة ثانية، وأخرى ثالثة وهكذا... إنّ التفكير الفلسفي يسير مع الإنسان في تواز، وهو رهين بالظروف الزمانية والمكانية، وبالأحوال الاجتماعية للتجمعات البشرية، كما أكد على ذلك «ابن خلدون» في مقدمته فقد كان رأيه وسطا في قضية الفلسفة الإسلامية ومصدريتها، وفي الجانب الآخر نجد كثيرا من المستشرقين فضلا عن العرب والمسلمين يؤكدون على أهمية الفلسفة الإسلامية والجدة التي تميزت بها، فقد أكد الفيلسوف الألماني «دلتاي» (6) على أن الثقافة الإسلامية عموما، كان لها دور أساس في التطور الذي شهدته أوروبا والغرب عموما، خاصة في علوم الجبر والطب والكيمياء... كما أن المستشرق «مونتي» (7) أشار مؤكدا إلى أنه وبالرغم من الأصل اليوناني للفلسفة الإسلامية فإنّ العرب أبدعوا وطوروا هذه الفلسفة، وناقشوها وأسهموا لاشكّ في تطورها على مرّ التاريخ، لذلك فقد نفى عنها التكرار. وإذا ما تحدثنا عن مقدرة العقل العربي على التفلسف فلا يمكننا بحال من الأحوال تجاهل موقف «الشهرستاني» الذي دونه في كتابه الملل والنحل، من أن العرب كان لهم نصيب من التفلسف خاصة ما ورد عنهم من الحكم والأقوال ذات المعنى الفلسفي العميق، وقد دافع كثير من الباحثين عن أصالة الفلسفة الإسلامية وجِدتها في العصر الحديث.
إننا إذا ما أخضعنا آراء ومقولات من قال بأن العقل العربي غير قادر على التفلسف -وأنه وان استطاع فانه محكوم بالوحي الذي يمليه عليه الدين- إلى الميزان العقلي، نجد معظم هذه الأفكار مردودة علميا خاصة فيما يتعلق بثنائية الجنس الآري والسامي، لأن الهجرات والغزوات وكذا التزاوج بين القبائل، يجعل من المستحيل وجود عرق نقي مائة بالمائة، كما أن العقل العربي قد برع في مسائل علم الكلام وإن كان مبدأ هذا الأمر قضايا دينية، إلا أن الفرق الإسلامية خاضت في حقل يسمى بدقيق علم الكلام، يهتم بالماديات ومالها من صلة بالطبيعيات، في نسق فكري فلسفي عميق (8)، بالإضافة إلى أن النظرة القاصرة للفلسفة الإسلامية تحول دون تصور كامل لها، خاصة وأن هذه الفلسفة لم تدرس كفاية كما يؤكد ذلك بعض المستشرقين. ولا يمكننا أيضا إغفال ما جاءت به كثير من الفرق خلافا للمنطق الأرسطي ذي التقسيم الثنائي، حتى وان أبدى كثير من علماء المسلمين إعجابهم به وتقديرهم له، فان ذلك لم يمنعهم من نقض بعض مسائله ومناقشتها ومخالفة بنيتها الثنائية (9) ، كما هو الحال مع المعتزلة والأشاعرة في قضايا المنزلة بين المنزلتين وشيئية المعدوم (10) ونظرية الكسب (11) والاختيار... وهذا لابدّ يبطل دعوى أن الوحي يُلجم العقل المسلم عن التفكر والتفلسف، بل هو الدافع لذلك، ولولا حرية العقل المسلم لما وجدنا مثل هذه النظريات، لأن العقل في التّصور الإسلامي هو أداة ووسيلة لا استغناء عنها وهو مناط التّكليف أصلا.
إنّ المعالج للفكر الإسلامي الفلسفي في شموليته، يلاحظ الجدّة والأصالة كما يلاحظ تأثير الفلسفة اليونانيّة -وإنّ هذا شأن كلّ فكر-، فإنّنا نؤمن لا محالة بوحدة الفكر واستمراريته من عصر إلى عصر، وإذا ما ابتعدنا عن النّظرة الدّونية للآخر، وتجنّب القول بأنّ الفلسفة الإسلاميّة ما هي إلاّ نقل ميكانيكي للفلسفة اليونانيّة، ومحاولة إرجاع كلّ جزء من فلسفتنا إلى الأصل المزعوم منه للفلسفة اليونانيّة، فإنّنا سنجد أنفسنا أمام وحدة فكر متكامل. لكلّ فترة أصالتها وجدتها، وتأثّرها بما سبق، وتأثيرها فيما لحق، خاصّة وأنّ الخيط النّاظم بين كلّ فكر وكلّ العلوم الإنسانيّة رفيع جدّا.
الهوامش
(1) محمد عبد الستار نصار، في الفلسفة الإسلامية قضايا ومناقشات، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الأولى 1982، ص 15
(2) إرنست رينان Ernest Renan (1823-1892) فيلسوف وكاتب فرنسي، عرف بتمرتب الأعراق.
(3) كالمستشرق البريطاني دي لاسي أوليري.
(4) تاريخ الفلسفة في الاسلام، ترجمة أبو ريدة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر.
(5) أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه شاعر أندلسي، ولد في قرطبة سنة 246 هــ وتوفي بها سنة 328 هـ..
(6) فيلهلم دلتاي (1888-1911) فيلسوف وطبيب نفساني وعالم الماني، اهتم بتاريخية الوجود البشري.
(7) ريكولدو دي مونتي ( (1243 - 1320 هو راهب دومنيكي ومبشر عنيف الخصومة ضدالإسلام.
(8) أشارت الى ذلك الدكتورة يمنى طريف الخولي في كتابها الطبيعيات في علم الكلام.
(9) انظر كتاب الرد على المنطقيين، لابن تيمية.
(10) جمال المرزوقي، دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية، دار الآفاق العربية، الطبعة 1 - 2001، ص34.
(11) عبد القادر بطار، أساسيات العقيدة الأشعرية، منشورات المجلس العلمي الأعلى، المملكة المغربية 2009، ص 68.
|