في الصميم

بقلم
عمر بن سكا
قراءة في معالم التجديد في مبحث المقاصد عند الدكتور ‏طه عبد الرحمان (2/2)
 ‏3-‏-  اعتراضات طه عبد الرحمان 
على تقسيم الأصوليين للمصالح ومراتب ‏المقاصد:
يقول الدكتور «طه عبد الرحمان» إنّ التّقسيم التّقليـــدي للمقاصــد الذي تعارف عليه ‏الأصوليّــون لا يسلم من الخلل، ولابدّ من إعادة النّظر في حصر المصالح في الضّروريّات والحاجيّات ‏والتّحسينيات، وبالتّالي اعتماد تقسيم جديد يصحّح تلك الاختلالات، فجاءت تقويماته للمصالح ‏والمقاصد الشّرعية لتنبّه على المسائل الآتية:‏
* لقد جرت العادة على إدراج مصالح الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال في قسم ‏الضّروريّات، والحقيقة أنّها لا تتعلّق فقط بهذا الباب بل تندرج تلك المصالح أيضا في ‏القسمين الآخرين، أي الحاجيّات والتّحسينيّات. وهذا في حدّ ذاته خلل في التّقسيم لأنّه ‏يخلّ بشرط في غاية الأهمّية هو شرط التّباين الذي ينبغي أن يحكم الأقسام. 
وللتّدليل ‏على هذه المسالة ساق مثالا يخصّ مصلحة حفظ النّسل، حيث يكون مثلا تحريم الزّنا ‏يحقّق مصلحة ضروريّة، وتحريم النّظر إلى عورة المرأة يحقّق مصلحة حاجيّة، وتحريم ‏تبرّج المرأة حكما يحقّق مصلحة تحسينيّة. وهكذا يظهر أنّها (الضّروريّات-الحاجيّات-‏التّحسينيّات) تشترك في حفظ النّسل الذي أدرج في قسم الضّروريّات فقط. وبالنّسبة للدكتور «طه عبد الرّحمان» فهذا إخلال بيِّن بشرط التّباين في التّقسيم.‏
والحلّ المفترض لصحّة التّقسيم هو تنزيل المصالح الخمس (الدّين- النّفس..) في ‏الرّتبة الأعلى، ثمّ تتفرّع عنهـــا التّقسيمــــات الثّلاث (ضروريّــات-حاجيّــات-تحسينيّات) ‏باعتبارها مراتب لحفظ المصالح الخمس، الضّروريّات من جهة اعتبار تلك المصالح، ‏والحاجيّات من باب الاحتياط لتلك المصالح، وأخيرا التّحسينيات من جهة التّكريم.‏ (1)
* لا ينبغي مجاراة الأصوليّين في حصرهم للمصالح في خمسة، وخاصّة أنّها تحصّلت ‏لديهم عن طريق استقراء نصوص الشّرع، والنّظر في علل الأحكام ومآلاتها، إذ لا شيء يمنع ‏من إدخال مصالح أخرى عن طريق الاجتهاد في الاستقراء أيضا، وبذلك يكون حفظ العدل ‏والحرّية والتّكافل وغيرها ضمن المصالح الضّرورية، وهذا يعني أنّه ليس هناك حصر تامّ ‏للمصالح...ومعلوم أنّ مستجدّات الحياة وتطوّرها أمر لا يتوقّف ممّا يعني أنّه مستساغ أن ‏تتبوّأ جملة من القيم مرتبة الضّروريّات.‏
* ينطلق الدكتور «طه عبد الرحمان» كذلك من فكرة عدم وجود تباين حقيقي بين ‏الضّروريّات الخمس، حيث لا يمكن الحديث عن حفظ المال دون حفظ العقل، ولا حفظ ‏للنّسل من دون حفظ النّفس، ولا حفظ للنّفس من غير حفظ الدّين...في حين سلامة ‏التّقسيم تقتضي الوفاء بشرط التّباين.‏
* ثمّ تطرّق إلى وجود خلل آخر في التّقسيم التّقليدي للمقاصد، خلل يتعلّق بخرق ‏شرط التّخصيص، «فليست كلّ قيمة (مصلحة) من هذه القيم أخصّ من الأصل الذي ‏هو الشّريعة، فحفظ الدّين (العبادات والاعتقادات وغيرها) مثلا مساو للشّريعة، فتدخل ‏تحته المصالح الأخرى (النّفس، العقل، النّسل، المال)»‏ (2) ‏.‏
* ولعلّ المشكلة الأكبر في تقسيم المصالح الشّرعيّة من منظور الدكتور «طه عبد الرحمان»، هي ‏حديث الأصوليّين عن رتبة التّحسينيات، فهي لا تمثّل إلاّ مكارم الأخلاق التي تُرتَّب أخيرا، ‏بيد أنّ الصّواب -عنده- أن تكون في المقام الأوّل لأنّ مكارم الأخلاق ليست ترفا سلوكيّا يخيّر ‏الإنسان في فعله أو تركه مادام قد تقرّر عنده أنّ المقاصد علم الأخلاق الإسلاميّة، والقيم ‏الأخلاقيّة وحدها هي الضّامن لهذه المقصديّة التي تتوخّى إصلاح الإنسان. ‏
* وبتجميع الأمثلة التي يسوقها الأصوليّون في باب التّحسينيّات سيتّضح أنّ ما ‏اصطلح عليه التّحسينيّات يشمل في واقع الأمر الأحكام الشّرعيّة كلّها من الواجب ‏‏(الطّهارات) والحرام (بيع الخبائث)، ولا شكّ أنّ إهدار الواجب أو الحرام يترتّب عليه ‏إخلال نظام الحياة والعنت والمشقّة. وبعبارة أدقّ، فإنّ بعض ما خاله الأصوليّون من باب ‏التّحسينيّات لا يصحّ إلاّ أن يكون ضروريّا أو حاجيّا.‏
* من وجهة نظر الدّكتور «طه عبد الرحمان» فإنّ الأصوليّين يخلطون في قضيّة تعليل الأحكام ‏الشّرعيّة بين التّعليل الوصفي(3) ‏(الأسباب التي أنيط بها الحكم)، والتّعليل الغائي، وكانت ‏تعليلاتهم في الجملة منصبّة على التّعليل بالأسباب والأوصاف وليس بالغايات والحِكم. في ‏حين ينبغي أن يكون التّعليل الوصفي في مجال «المقصودات» وهو مبحث «نظريّة الأفعال» ‏بالنّسبة إليه، أمّا مجال النيّات والقصود فينبغي أن يكون التّعليل فيه بالحِكم، من ‏منطلق «نظريّة النيّات». والفائدة المحصلة أنّه لا يجب الانكفاء على نمط واحد من ‏التّعليل تفاديا للسّقوط في التّقنين النّظري القانوني الذي يورثه التّعليل بالأسباب، ‏وتفاديا أيضا لطغيان الصّبغة الرّوحيّة والأخلاقيّة التي تصاحب التّعليل الغائي. «ومادام ‏الحكم لا يرتَّب على السّبب إلاّ إذا أفضى إلى غاية أو حكمة مرادة منه فلا بدّ من أن يكون ‏التّعليل السّببي في الأحكام تابعا للتّعليل الغائي» (4) ‏ ‏.‏
* من الإشكالات التي أثارها الدّكتور «طه عبد الرحمان» في سياق الاعتراض على تقسيم ‏الأصوليّين للمقاصد الشّرعيّة مسألة الأحكام «معقولة المعنى» والأحكام «غير معقولة ‏المعنى» أو ما يعرف بالتّعبدي أيضا، فهذا التّقابل يَنِمّ عن اضطراب حيث قابل الأصوليّون ‏بين التّعبدي وبين المعقول الوصفي(5) تارة، وبينه وبين المعقول المعياري(6) تارة أخرى... ‏والمخرج من هذا الاضطراب-يقول الدّكتور «طه عبد الرحمان»- هو الأخذ بالفروق الموجودة بين ‏صور أربع تتعلق بالحكم الشرعي:‏
- إمّا أن يكون الحكم الشّرعي معقولا وصفيّا ومعقولا معياريّا.‏
- إمّا أن يكون الحكم الشّرعي معقولا وصفيّا وتعبديّا معياريّا.‏
- إمّا أن يكون الحكم الشّرعي تعبديا وصفيّا ومعقولا معياريّا.‏
- وإمّا أن يكون الحكم تعبديّا وصفيّا وتعبّديّا معياريّا.‏
- إنّ هذه المسألة بالذّات ممّا يصعب التّسليم به للدّكتور «طه عبد ‏الرحمان» لسبب وجيه هو غموضها، وخاصّة أنّه لم يسق أدلّة ولا أمثلة كافية ‏توضح الطّرح الذي يقترحه، أو ترفع الإشكال الذي أثير منذ وقت مبكر بين ‏الأصوليّين حول معقول المعنى وغير معقول المعنى في الشّريعة الإسلامية (7) ‏.‏
‏4-‏- خلاصات واستنتاجات:‏
‏-‏ يُنظر إلى علم المقاصد عند الدّكتور «طه عبد الرحمان» على أساس أنّه علم أخلاقي يبحث ‏في صلاح الإنسان والوسائل المحقِّقة لذلك، وغايته تحقيق العبودية لله (8) ‏.‏
‏-‏ يظهر من خلال التّصور الذي طرحه الدّكتور «طه عبد الرحمان» الدّور الكبير الذي ‏تختصّ به القيم الأخلاقيّة في منظومة التّشريع الإسلامي، ولهذا اعتبر «نظريّة القيم» في ‏المقام الأول مقدّمة على «نظريّة النيّات» و«نظريّة الأفعال».‏
‏-‏ دعا فيلسوف الأخلاق المغربي، بصريح العبارة، إلى التّجديد في علم المقاصد من ‏خلال تصحيح أقسام المصالح ورُتب المقاصد الشّرعية، والتّأكيد على أهمّية رفع الخلل ‏الذي خلّفه التّراث الأصولي في باب المصالح، الخلل المتمثّل في افتقار التّقسيم التّقليدي ‏لشروط التّباين، تمام الحصر، والتّخصيص.‏
‏-‏ يحاول الدّكتور «طه عبد الرحمان» باستمرار إظهار العلاقات الدّقيقة التي تجمع بين ‏الأخلاق والفقه، حيث تكون الأخلاق أساسا يُبنى عليه الفقه، ويعمل الفقه بدوره على ‏توجيه تلك الأخلاق.‏
‏-‏ يظهر جليّا أنّ الدّكتور «طه عبد الرحمان» يولّي القيم والأخلاق والبعد الرّوحي ‏للإنسان اهتماما بالغا، وقد رأينا أنّه قال إنّ الإنسان لا يفضل الحيوان بقوّة العقل بل ‏بقوّة الأخلاق.  وعندما كان يبسط القول في نقد العلمانيّة وأشكال التسيّد (التّسلط) ‏السّياسي وغيره، قال إنّه لا الحوار الدّيمقراطي ولا التّحليل النّفسي يستطيعان حلّ ‏مشكلة التسيّد، بل العمل التّزكوي (تزكية الرّوح) الذي هو من جنس «العمل الجذري» ‏بخواصّه السبع، وحبّ التعبّد هما الطّريق الآمن لحلّ كلّ مشكلات التّسيّد الذي يستحكم ‏في الوجود الإنساني (9) ‏.‏
‏-‏ عندما وجّه الدّكتور «طه عبد الرحمان» اعتراضاته لبعض القضايا الخاصّة بعلم المقاصد ‏الموروث عن الرّواد الأوائل، يتبادر إلى ذهن الباحث طبيعة البديل الذي اقترحه لتجاوز ‏الإشكالات المطروحة، إنّه جاء بتقسيم ثلاثي آخر يقوم على ثلاث قيم كبرى:‏
- قيم الضّر والنّفع: وهي قيم حيويّة تلحق جميع البنى الحسّية والمادّية، ‏ومثالها: حفظ النّفس والصّحة والمال والنّسل.‏
- قيم الحسن والقبح: وهي قيم عقليّة ومعاني خلقيّة تتعلّق بالبنى العقليّة ‏والنفسيّة للإنسان. ومثالها الأمن والحرية والسلام والحوار والثقافة.‏
- قيم الخير والشّر: وهي قيم روحيّة تقوم بها كلّ الخيرات والشّرور ‏المتعلّقة بعموم القدرات الرّوحية والمعنويّة ومثالها الإحسان والرّحمة والمحبّة ‏والخشوع.‏
في ختام هذا النّقاش أودّ أن أؤكد أنّ البحث في المقاصد الشّرعية يجب أن يظلّ درسا «مفتوحا» ‏بين المتخصّصين لغاية الإجابة عن جملة من الإشكالات والتّساؤلات المرافقة له، ويمكن أن نذكر ‏مثلا النّقاش المفتوح في قضايا إعمال المقاصد وتفعيلها، ومسالك وطرق إثباتها، ‏واستثمارها...وعلاقة مبحث المقاصد بأصول الفقه والأصول الكلاميّة أيضا دون غضّ الطّرف عن ‏بعض الخطابات المعاصرة التي تلبس جلباب المقاصد وتحاول تمييع الدّرس المقاصدي، بل أحيانا ‏هدم الشّريعة وإهدار الكثير من الأحكام الجزئيّة بوجه أو بآخر من منطلق كون الكلّيات هي ‏المقصودة لذاتها، وما الفقه وأحكامه إلاّ اجتهادات تقيدها الزمان والمكان وظروف الحياة.‏
الهوامش:‏
(1) د.طه عبد الرحمان، مشروع تجديد علمي لمبحث المقاصد، مجلة المسلم المعاصر، العدد 103، 2002. ص: ‏‏50،‏
(2) نفسه، ص:51‏
(3) مثلا جواز الإفطار في السفر، السبب أو الوصف هنا هو السفر ذاته، وليس الحكمة وهي رفع المشقة أو ‏التيسير، وبالنسبة لتحريم الخمر العلة هي الإسكار وليس الحكمة التي هي دفع المفاسد كوقوع العداوة والبغضاء ‏وغيرها
(4) المرجع السابق، ص: 48‏
(5) ‎المراد من العبارة الوصف الذي جعله الشارع سببا للحكم والذي يهتدي العقل إلى إدراكه. ‏
(6) ويراد منه الغايات والقيم التي يتوصل إلى تحقيقها بواسطة الأحكام ويهتدي إليها العقل.‏
(7) انظر على سبيل المثال: المستصفى في أصول الفقه، أبو حامد الغزالي. 2/224-225.‏
(8) يسميها د.طه عبد الرحمان العبودية الطوعية، انطر روح الدين للمؤلف، ص: 97‏
(9) للتوسع ينظر في: روح الدين، د.طه عبد الرحمان، ص: 265-  277‏