تمتمات
بقلم |
رفيق الشاهد |
تطاول |
نعم أنا أتطاول. صرفيّا على وزن أتفاعل، فعل ثلاثي مزيد بحرفين ومصدره تطاوُلً. ولغويا، لا أريد أن أقف عند المعنى المتعارف لهذا التطاول ولا ما يحمله من تكبّر وترفّع حيث أحسِبُني أطول من الطويل وأعلم من العالم وأثقف من المثقّف ولا أنقص من شأني مثقال ذرّة. قد ترونه غرورا لا أدّعيه على من حولي و لا على جيلي، قرؤوا ما قرأت وشاهدوا ما شاهدت وشهدوا ما شهدت، ولا تجاه السّلف من الذين اجتهدوا في قراءة الماضي، فصنعوا حاضرهم وتوجوه بتيجان المعرفة والحكمة، ولكنّني لا أنكره على من ترنّح وربط راحلته برمس الحبيب يبكي ذكراه ولم يبرحه حتّى توقفت عنده قوافل حرنت رواحلها اجتذابا ببني جنسها.
نعم، دون غرور أتطاول على هؤلاء، لا احتقارا لهم ولكن إيمانا منّي بأن المعرفة التي تكتسبها البشريّة تتراكم مع مرور الزمن إذ تضاف إليها معارف جديدة. فلماذا أقف حيث وقفت المعرفة عند السّلف؟ يريدونني أن أقف حيث سُطّر لي منذ قرون عند مفاهيم قديمة أغلق عليها بمراتيج الحلال والحرام. متى تتطوّر ذاتي بمكتسباتي؟.
لا تحقرّن نفسك حتّى مع أبيك، فهو عادة ما يعاتبك على مأخذ سبق وأن أتاه. ولا تتكبّر على صغير لديه من المعرفة ما لم يكن لديك وأنت في عمره. ألم يقل ناظم حكمت «أنا أقلّ معرفة من ابني الذي لم يولد بعدُ». كم تمنّيت أن أكون هذا الابن حتّى لا أجدني أتطاول على أبي ذاك.
أنا لم أتطاول على مقدّس ولا على نبيّ ولا على من لم يدّع معرفة ولم يحقرّن نفسه. ولكنّني وجدتني حبيس جدران الماضي المقيتة، لامستها أعلى من جدار برلين المنهّد ومن جدار الضّفة الغربيّة بفلسطين المحتلة وكذلك جدار حدود الولايات المتحدة الأمريكيّة بالمكسيك المرتقب. كلّ هذه الجدران عازلة فقط ولا تحبس إلاّ الجسد. أمّا المحيطون بي يحرّمون عليّ قراءة القرآن بعيني ويحبسون خيالي وحلمي في شباكهم المترامية التي تمنع عنّي الأمل القريب المراوغ والهارب إلى أبعد حدود إدراكي وتعدني بالآخرة فيها زينة الحياة التي استأثر بها في الدّنيا أهل العمائم عبّاد السّلف. أنا أتطاول على هذه الجدران المتعالية.
من منا -للذين من جيلي بالخصوص- لا يتذكّر درس قراءة بأحد فصول الابتدائي عن قصّة عمر ابن الخطاب والمرأة التي سمعها تطبخ الحصى لأبنائها الذين نهشهم الجوع؟ وكيف كان يتنصّت على رعيّة لا تسمح لها كرامتها بالتّسول. إنّ التسّول أوطء مراتب الكرامة الفرديّة أو انعدامها، وطالما لم تتدخّل الدّولة لتلعب دورها المتمثّل في الأخذ من هذا لتعطي لذاك، لا لشيء إلا حفاظا على هذه القيمة في أدناها يصبح السّطو على ممتلكات الغير مظهرا من مظاهر الرّفعة والشّهامة إذا ما استرجع حقّا أضاعته الدّولة. أنا صعلوك من صعاليك هذا الزّمن يحمل فكر عروة بن الورد وتأبّط شرّا. أنا أتطاول على نظام حكم لا يوفّر الكرامة.
لا أدعو بهذا للاعتداء على الحرّيات ولا لتقويض الأمن العام. طبعا لا، و قطعا، إذ لا حرّية دون كرامة ولا أمن للفرد في غياب الأمن الجماعي الذي حين تتكفّل به الدّولة يجرّم كل اعتداء على كلّ شخص.
أنا أتطاول على بورقيبة حتّى يحقّ لي أن لا أستثني أحدا ممّن أتوا من بعده. أتطاول عليه لأنّني قرأت أفكاره واستوعبت توجيهاته التي كان الشّعب يعدّل عليها نسق حياته. أستشعر اليوم أنّني تجاوزته حيث أعيش المستقبل كما كان يرسمه بآماله مرعوبا من ظلّه الذي لم يندثر بموته.
أنا أتطاول على من تلاه ممّن يقولون ما لا يفعلون ولا آسى على لابسي الأقنعة.
|