تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
سماد المدينة
 هل من أحد يسمعني؟ 
هل من أحد ينصت لخفقان قلبي؟ إني أكره أن ‏أبعث أول رسالة حبّ لميت.‏
إنه لمن الأنانيّــة أن يقــدم علـــى الانتحــار (*)،  هذا الوغد الحقير تركني ورحل دون ‏رجعــة، لمّـا كنا نسابق ساعات الزّمن سويّا فيُنهض كلّ منّا ويُسند الآخر كلّما ‏تعثّر ويدفعه إلى الأمام قبل أن تلحق بنا إحدى عقارب السّاعـــة. كنـــّا نجري ‏في اتجاهها، لا تخيفنا الإبرة العريضــة البطيئة لقربها من السطح فكنـــا نقفز ‏فوقهــــا دون عنــاء ونجري في الفضـــاء الرّحب لركح العقارب أمام الإبرة الدّقيقة ‏والعالية التي تحصد كلّ من لحقت به وكنّا نتجنّبها وننبطح تحتها حتّى تمرّ ‏فوقنا وفي كلّ مرّة تذرو على ظهورنا وعلى أكتافنـــا بطــلاء جديد لا يكــاد يخفــي ‏ما سبق.
ما العمر إلاّ طبقات الزّمن السّميك ربّما كانت شفّافة للبعض من ‏ذوي القلوب السّعيدة ولكنها قاتمة لآخرين ممّن شقوا وكانت حياتهم صعبة ‏وتعيسة، وتصبح في كلّ الحالات ثقيلة حتى تقصم يوما ظهر صاحبها، فيتعثر ‏وتدكّــه العقرب تلو الأخرى دكّا دكّا ثم تسحقه عقرب العمر وتفنيه.‏
كنّا نلتفت من حين لآخر إلى الوراء نقيس مسافة سيرنا ونحسبها بعدد ‏أعياد الميلاد فنفرح لطولها. فإذا كان فضل الماضي أنّه مضى وانتهى ففضل ‏الآتي أنّه ميلاد جديد وسفر لعلّه قريب، لا‎ ‎لمجرد عابر سبيل ولا لمسافر ‏كالمسافرين بل لحرفيّ حذق صنع الأحداث ولبهلوان أفاض الفرحة على ركح ‏الطّفولة. 
لا أحد تخلّص من ثقل السّنين وعاد إلى الوراء لأنّ عقارب الزمن ‏حادّة ودقيقة لا تبقي سالما إلاّ من سابقها ولم يتوقف، أولئك الذين شبعوا ‏موتا ومازالوا بيننا يتكلّمون وكلّما التفتنا نقتفي آثار خطانا وجدناهم كالجبال ‏شامخين. دونهم، الكلّ يدفن حين تَكتمُ أنفاسَه إحدى عقارب الزّمن. ‏
ومــــا كنت أظن أننا سنفترق حتّى ساعة الحتف بل سنُسحق معــا لمّا تنزل ‏بنا العقارب. ماذا حصل؟ هل أصبحتَ من الماضي الذي مضى وانتهى أم ‏ستضلّ من الماضي بيننا؟ أأفرح أنّني لم ألق حتفي معك. وماذا عساي ‏أفعل دونك في مدينة لا مدنيّة فيهـــا؟ 
ويحك، كم كنت لئيما، لماذا لم تبق في ‏مكانك حتى أُدركك، لما التفتَ إلى الخلف وانطلقــتَ فكانت الإبـــرة مقصلة ‏خطفتْكَ بلمح البصــر وخطفت معــك كل ما بنينا معا من أحــلام ومـــا ادّخرنـــا من ‏الأيـــام. ‏
ماذا لو انتظرتَ قليلا، أنا مثلك سئمت المدينة التي سُمِّمت أجواؤها ‏بالسّماد الذي تراكم وتعفّن. اليوم، أكتب رسالتي وأدعوك للرّجوع. معا وقبل ‏فوات الأوان نعود إلى ريفنا حيث تزهر الثّقافة بألوان الطّبيعة، ونستعيد ‏حريتنا المسلوبة. ما ضرر البصاق على الأرض البور ومن يلومك إن رميت ‏بالفضلات في الفلاة؟ كلها سماد للأرض البكر.
-----------------------------------------------------
(*)  بتصرف عن أوسكار وايلد