دراسات

بقلم
د.عماد هميسي
الإصلاح ضرورة قرآنيّة وحاجة إنسانيّة
 الإصلاح كلمة جميلة، تستهوي القلوب، وتتطلّع إليها النّفوس، والقرآن يدعو النّاس إلى تحقيقها، ‏والعيش في ظلّها، ولكن تطبيقها على الواقع العلمي بحاجةٍ إلى إرادةٍ وتصميم وعمل ‏دؤوب ومتواصل،حتّى يدخل الإصلاح إلى كلّ بيتٍ، ويصلح كلّ فردٍ. ومن ثمّ، فقد ‏جاءت الآيات القرآنيّة لتؤكّد أنّ الإصلاح ما كان متوافقاً مع فطرة الإنسان ومنسجماً مع ‏وجدانه وضميره وعقله، وهو ضرورة قرآنيّة وحاجة إنسانيّة ومسؤوليّة جماعيّة.‏‏ يقول الله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».(1) ‏كما أكّدت الآيات القرآنيّة في هذا السّياق على الإصلاح بجميع أبعاده ومشتقّاته وعلى ‏جميع الأصعدة الفرديّة والآجتماعيّة وفي مختلف المجالات الآقتصاديّة والآجتماعيّة، ‏إلخ... وبالتّالي فهو المهمّة العظمى للرّسل، والدّعاة، والمصلحين.‏ قال الله تعالى على لسان موسى لأخيه هارون عليهما السّلام:«اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (2) ‏وقال تعالى أيضاً: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ‎‏» (3) ‏ ‏.‏
وترغيباً في مهمّة الإصلاح، والاضطلاع بمسؤوليّاته، وردت الآيات القرآنيّة الكثيرة، الّتي ‏تؤكّد على أنّ الإصلاح في العمل دليل صدق التّوبة عن الذّنوب وقبولها،كما تثبّت الأجر ‏العظيم لكلّ الصّالحين والمصلحين.‏ يقول الله تعالى:« وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ‏يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» (4). و يقول ‎أيضاً:«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (5).‏ 
ويكفي للتّنويه بأهميّته والدّلالة على مشروعيّته، أنّ الإمام البخاري رحمه الله، ترجم له في ‏الصّحيح، فقد أورد عشرين حديثاً، في أربعة عشر باباً في كتاب الصّلح منها الباب الأوّل: ‏بــاب ما جاء في الإصلاح بين النّاس، الحديث الأوّل «...‏‎ ‎أَنَّ أُنَــاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ ‏عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ‏يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ...» (6) ‏ ‏بل إنّ هذه الأحاديث النّبويّة الشّريفة، تضمّ معاني الصّلح المتعدّدة: في النّفس الواحدة، وبين الفردين في الجماعة المؤمنة، وبين المؤمنين وغيرهم من المشركين واليهود و‏النّصارى. ‏جاء في الباب الثّالث: باب قول الإمام لأصحابه « إذهبوا بنا نصلح»، حديث سهيّل إبن ‏سعد  رضي الله عنه أنّ أهل قباء آقتتلوا حتّى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلّى الله ‏عليه وسلّم بذلك فقال: « إذهبوا نصلح بينهم» (7).‏ ‏ ‏
ففي هذا الحديث الشّريف، إشارة إلى فضل الصّلح، والإصلاح بين المتخاصمين، حتّى أنّ ‏الإمام يتولّى أمره ويباشر تنفيذه حثّاً للنّاس على ذلك وترغيباً لهم في الاهتداء ‏والاقتداء لأنّ الإصلاح من أعظم الطّاعات، وأتمّ القربات التّي يحبّها الله تعالى و‏رسوله صلّى الله عليه و سلّم ويرضاهما. بل إنّ الله تعالى يفضّل الصّلاة النّافلة و‏الصّوم النّافل والصّدقة النّافلة وذلك لأنّ نفعها متعدّ عكس الفريضة فنفعها قاصر وما ‏كان نفعه متعدّ، فهو أفضل من النّفع القاصر بالاتّفاق.‏
عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‎»‎ألا أخبركم ‏بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة»‎؟ قالوا:«بلى» قال:«إصلاح ذات البين، ‏فإنّ فساد ذات البين الحالقة»(8)‏. ‏فيه إشارة إلى الإعانة على فعل الإصلاح، وإشاعته بين النّاس لذا كان توجيهه صلّى الله ‏عليه وسلّم اللّطيف حثًّا على المحبّة والرّفق وزجراً على الآمتناع على فعله. يقول صلّى الله عليه وسلّم: «والسّمت الحسن والتّؤدة والآقتصاد جزء من ‏أربعة وعشرين جزءا من النّبوّة» (9)‏. ‏
وهذا يعني أنّ صلاح المؤمن يدلّ عليه حركات جوارحه، وآجتنابه المحرّمات ‏واتّقاؤه الشّبهات، وأنّ صلاح الجوارح بحسب صلاح القلب. يقول الرّسول صلّى الله عليه و سلّم :« ... إِنّ الْحلالَ بيّن، وإنّ الحرام بيّن، وبينهما ‏مشبّهات لا يَيعلمهنّ كثير من النَّاسِ، فمن إتّقى الشّبهات فقد آستبرأ لدينه وعرضه، ‏ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع ‏فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى الله محارمه، وإنّ في الجسد مضغة إذا ‏صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب».(10) ‏‏فالقلب إذا كان سليماً ليس فيه إلاّ محبّة الله وما يحبّه الله وخشيته وخشية الوقوع فيما ‏يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلّها، وإذا كان القلب فاسداً قد آستولى عليه اتّباع ‏الهوى وطلب ما يحبّه ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلّها وانبعث إلى كلّ ‏المعاصي والمشتبهات بحسب اتّباع هوى القلب (11) . يقول إبن حجرٍ العسقلاني: « وخصّ القلب بذلك لأنّه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح ‏الرعيّة وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحثّ على صلاحه، ‏والإشارة إلى أنّ لطيب الكسب أثراً فيه»(12) .‏
ومصداقا لذلك يقول الله تعالى: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ‏أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ»(13)‏.‏ويقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم : « إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ‏ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(14)‏.‏
إنّ صلاح الأجساد وصلاح الظّاهر حقيقة موقوفة على صلاح القلوب، فإذا صلحت ‏القلوب صلح الجسد كلّه، ولن يكون في الأرض صلاح إلاّ بصلاح القلوب، لذلك كان ‏الآهتمام بصلاحها من أعظم الفرائض وأهمّ الأمور. ‏و كان من هديه صلّى الله عليه وسلّم الحثّ على الدّعاء بصلاح الشّأن وصلاح الحال، ‏فقد أوصى إبنته فاطمة رضي الله عنها أن تدعو إذا أصبحت وأمست فتقول: « يا ‏حيّ، ‎يا قيّوم،‎ ‎برحمتك أستغيث‎ ‎،‎‎أصلح لي شأني كلّه‎ ‎،‎‎وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ ‏عَيْن» (15) .‏ وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضاً :«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِحَّةً‎ ‎فِي‎ ‎إِيمَانٍ‎‎، وَإِيمَانًا فِي ‏حُسْنِ خُلُقٍ، وَنَجَاحًا يَتْبَعُهُ فَلاحٌ وَرَحْمَةً مِنْكَ، وَعَافِيَةً وَمَغْفِرَةً مِنْكَ وَرِضْوَانًا»(16) ‏. ‏
والصّالحون تعمر بهم الحياة، و بسببهم تكون النّجاة، فهم الدّاعون للصّلاح، الآمرون ‏بإحلاله.عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، استيقظ من نومه ‏وهو يقول : « لا إلاه إلاّ الله، ويل للعرب من شرّ قد اقْتَرَبَ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد سفيان تسعين أو مائة قيل أنهلك وفينا الصّالحون؟ قَالَ : نَعَمْ ، ‏إذا كثر الخبث» (17).‎
وإنّ موت الصّالحين من أشراط السّاعة، فقد قال الرّسول صلّى الله عليه و سلّم:  «يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل ويبقى حفالة‏ كحفالة الشّعير أو التّمر، لا يباليهم الله ‏بالة‏» (18) ‏
كما أثنى الرّسول الله صلّى الله عليه و سلّم في هذا المضمار على الصّالح من المؤمنين، ‏وعلى من يصلح ما أفسده النّاس، وحريص على إشاعة الخير، ونشر سنن الصّلاح.‏يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، ‏فَطوبى للغرباء» (19) ‏ويقول أيضاً: « لا يسنُّ عبدٌ سنّةً صالحةً يُعمل بها بعده إلاّ كُتب ‏له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئاً...» (20). ‏ ‏  ‏
هؤلاء هم نمط فريد من النّاس، وعملهم شبيه بعمل الأنبياء والرّسل من حيث الدّعوة إلى ‏الخير والحثّ عليه، مكانتهم عالية ودرجاتهم سامية، فإصلاح النّاس لا يقدر عليه إلاّ من ‏أصلح اللّه أمرهم، ووفـّقهم الله في مهمّاتهم، وأعانهم على نشر أسباب الألفة والوئام، ‏فحملوا غصن الزّيتون كحمامة سلام، وهيّأهم الله لنيل الثّواب الجزيل والأجر ‏العظيم الّذي وعدهم الله تعالى به. والسّاعون في هذا العمل يكونون في عبادة، بل من ‏أفضل أنواع العبادة، وحريّ لكلّ من يجد في نفسه أهليّة الإصلاح ألاّ يزهد في هذا العمل، ‏بل يحرص أن ينهض له، ويجدّ في السّعي له.‏ يقول الله تعالى: «... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ...» (21)  
والمتأمّل في كلّ هذه النّصوص النّبويّة يدرك من خلال تنوّعها أنّ الإصلاح ميدان كبير، ‏يتعلّق بكثير من شؤون الإنسان من حيث استقامته مع الله تعالى ومع الخلق، ومن حيث استقامة عمله وعبادته، وكذلك من حيث استقامة صحّة آتّجاهه ومنهجه ‏وعقيدته وأخلاقه، وإلاّ تحوّل كلّ ذلك إلى نوعٍ من الانحراف عن الهدى والصّراط ‏المستقيم، وإلى نوعٍ من أنواع الفساد في الأرض وفي المنهج وفي المعتقد.‏
في المقابل، نجد أنّ الآيات القرآنيّة، اشتملت على أدلّة متنوّعة، بيّنت أنّ الإفساد، هو ما كان ‏عكس فطرة الإنسان.‏‏ يقول الله تعالى: «... فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‎ ‎لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ...» (22) .‏‏ وهو منهي عنه شرعاً.‏ يقول تعالى أيضا على لسان شعيب عليه السّلام: « ...وَلَا تُفْسِدُوا‎ ‎فِى‎ ‎الْأَرْضِ بَعْدَ ‏إِصْلَاحِهَا...»(23). فكلّ ما كان مخالفاً للفطرة الإنسانيّة وإرادة الخير في الأرض، فهو بعينه انحراف و‏فساد. يقول اللّه تعالى: «...الَّذِينَ يُفْسِدُونَ‎ ‎فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ» (24). بل إنّ بعض المفسدين في الأرض حاولوا آختطاف شعار الإصلاح نذكر منهم على سبيل ‏المثال، فرعون حيث اتّهم موسى عليه السّلام بإظهار الفساد وهو من المصلحين، ونسب إلى ‏نفسه الإصلاح، منهجا، مع أنّه من أكبر المفسدين.‏ يقول الله تعالى: «... وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى‎ ‎وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ‏أَوْ أَن يُّظْهِرَ فِى الأَرْضِ الْفَسَادَ...»‏ (25) 
وكعادة المفسدين في كلّ زمانٍ ومكان، فقد تشابهت قلوبهم، فآتّحدت مشاربهم، وظنّوا أنّهم ‏على خير، وأنّهم حماة الإصلاح، وروّاده. يقول الله تعالى : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ‏‎ ‎فِى‎ ‎الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»(26) 
‏  لقد كثر ذكر الإصلاح والمصلحين في القرآن الكريم، في مقابل ذمّ الإفساد والمفسدين، ‏لتكتمل الصّورة الرّبانيّة الّتي يريدها الله ربّ العالمين للبشر، والمجتمعات البشريّة.‏ يقول الله تعالى:«وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ‎ ‎مِّنَ‎ ‎الثَّمَرَاتِ‎ ‎لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (27)‏‏.‏
والعمل في إطار الإصلاح يقع ضمن التّكاليف، والواجبات الشّرعيّة، الّتي نصّ عليها ‏القرآن الحكيم، بل هو أحد التّكاليف التّي تضمّنها معنى الآستخلاف في الأرض.‏ يقول الله تعالى:«وَّإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن ‏يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(28).‏ على اعتبار أنّ الفعل الإصلاحي يتجّه صوب العمل النّافع والصّالح، حيث إزالة الفساد أو ‏تحسين الصّالح، أو محاولة إيجاده من العدم في كلّ موجودات الكون ككلّ.‏ وعلى اعتبار أيضاً أنّ العمل للإصلاح هو أحد العوامل الأساسيّة الّتي تحقّق السّموّ ‏الفردي في مراقي الفضيلة والعلم والمعاني الإنسانيّة، والسموّ الجماعي في مراقي ‏التّعاون والتّراحم والتّكافل والسّموّ المنهجي في التّعامل مع بيئة الكون، بما يضمن ‏الانتفاع بها، والمحافظة عليها، وكلّ ذلك في نطاق الاقتراب من الله تعالى. ومن هنا اكتسب ‏الإصلاح في القرآن الكريم أهميّة لا يستهان بها، وشكّل محوراً أساسيّاً من محاور الشّريعة ‏الإسلاميّة، ومبدأ قامت عليه الدّعوات، والرّسالات السّماويّة (29) ‏. ‏
كما يمكن الإشارة أيضًا، إلى أنّ الإصلاح في القرآن الكريم عامّ يشمل العقيدة، والسّلوك والأخلاق ونظام المجتمع والحضارة وسائر وجوه التّقدّم والرّقي، وما بناه ‏المرسلون وأتباعهم المصلحون، وما شيّده العلماء المخلصون من النّواحي الماديّة والمعنويّة (30) ‏. ‏
ويشمل هذا الرّاجح الأقوى، إصلاح الأرض (الكون) بما بثّ فيها الله تعالى من سنن ‏ونواميس وقوانين البناء والتّعمير، فجعلها بالتّالي صالحة للإنسان. ‏
ومن الصّلاح في هذا الإطار، عدم مصادمة هذه النّواميس والقوانين، بل يجب التّفاعل ‏معها وفق سنّة التّسخير ووفق مبدأ الاستخلاف، فالإنسان جاء إلى الأرض وهي صالحة ‏بمائها وهوائها ونباتها وتعاقب ليلها ونهارها والفصول، وكل كائن حيّ فيها، فكلّ اعتداء سافر على شيء من هذه المنجزات، هو إفساد فيها (31).  ‏
فالإنسان في بناء حضارته وعمرانه، وفق منهج الإصلاح، يحتاج إلى استخراج، ‏واستكشاف تلك السّنن،  والتّفاعل الإيجابي معها، لأنّه محتاج إليها في أمنه وغذائه ‏وسائر احتياجاته، مثلما يحتاج أيضا إلى الاستجابة للقيم والمثل العليا، والاستعداد النّفســـي ‏للتّعامل معها إيجابيـــا من خلال التلقّي الواعي. ‏يقول الله تعالــى: «... فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» (32) ‏.‏
وقد بعث الله عزّ وجلّ الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، من أجل القيام بدور إصلاحي في ‏حياة النّاس من خلال التّذكير، واستثارة العقول. يقول الله تعالى: «..وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّار فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَّخَافُ وَعِيدِ.»(33) ‏ويقول أيضا: « لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»(34). ولكنّهم في نفس الوقت، تركوا للنّاس حرّية الآختيار، من دون إكراه.‏ يقول الله تعالى: «‏‎ ‎لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ.......» (35) ‏‏لأنّهم هم وحدهم من يتحمّلون مسؤوليّة اختياراتهم، وهم وحدهم من يتحمّلون نتائج ذلك، إن ‏خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.‏ يقول الله تعالى: « كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»‏ (36)‏. ويقول أيضا:«فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَّرَهُ. وَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا ‏يَّرَهُ»(37)‏.     ‏
كما يقرّر القرآن الكريم في عديد المواضع، أنّ المصلحين في الحقيقة لا يعيشون لأنفسهم و‏لا لأجيالهم فقط، وإنّما هم ينظرون بعيدا في أفاق المستقبل وفي ما ينفع المجتمعات، وفيما ‏فيه عزّتها ومجدها، بمعنى أن غايتهم إصلاح الشّبيبة والشّيب، الكبار و‏الصّغار، الرّجال والنّساء، الغنّي والفقير وأمس واليوم، وغدا... ‏
يقول محمّد الطّاهر بن عاشور رحمه الله: «و في كلام نوح عليه السّلام، دلالة على أنّ ‏المصلحين يهتمّون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال ‏القادمة، إذ الأجيال كلّها سواء في نظرهم الإصلاحي. وقد انتزع عمر بن الخطاب رضي الله ‏عنه من قوله تعالى:«وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ ‏سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»(38) دليلا على بقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الّذي فتح العراق، وجعلها ‏خراجا لأهلها، قصد دوام الرّزق منها لمن سيجيء بعد ذلك من المسلمين.»‏ (39) ويقول الشّاطبي: « تكاليف الشّريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا ‏تعدو ثلاثة أقسام : أحدهما أن تكون ضروريّة، والثـّاني أن تكون حاجيّة، ‏والثّالث أن تكون تحسينيّة»‏(40)  ثمّ أضاف: «ومجموع الضروريّات الخمسة وهي حفظ الدّين، والنّفس، والنّسل، والمال، ‏والعقل، وقد قالوا إنّها مراعاة في كلّ ملّةٍ» (41)‏. ‏
و أردف قائلا ً: « المقاصد الضّروريّة في الشّريعة أصل للحاجيّة والتّحسينيّة، فلو فرض اختلال الضّروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق» (42) ‏. ويقول الغزالي من جهةٍ أخرى: « ومقصود الشّرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ  عليهم ‏دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة ‏فهو مصلحة» (43)‏. أمّا إبن عاشور فيقول: «المقصد العامّ من التّشريع هو حفظ نظام الأمّة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله ‏وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الّذي يعيش فيه» (44) ‏ ‏. ‏
بعبارة أخرى المقصد العامّ للشّريعة يقع بمعنى الصّلاح وإزالة الفساد، وفي موضعٍ ‏آخر خصّ القرآن الكريم، وهو أوّل مصادر التّشريع. يقول إبن عاشور: «إنّ المقصد الأعلى له هو إصلاح الأحوال الفرديّة والجماعيّة ‏والعمرانيّة، بحيث يستطيع الإنسان بآتّباع تعاليمه والعمل وفق أحكامه وتوجيهاته ‏وتمثّل قيمه وإرشاداته، والسّعي لتحقيق مقاصده وغاياته، أن يقيم مجتمعه على أرسخ ‏أساس ويشيّد حضارته على أدوم مقام»(45)‏. وعبّر إبن تيميّة بقوله أيضاً: « يكفي المؤمن أن يعلم أنّ ما أمر الله به فهو مصلحة ‏محضة أو غالبيّته، وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبيّته، وأنّ اللّه لا يأمر ‏العباد بما أمرهم لحاجةٍ إليهم، ولا نهاهم عمّا نهاهم بخلاً به، بل يأمرهم بما فيه ‏صلاحهم ونهاهم عمّا فيه فسادهم» (46)‏. ‏
إنّ الحاجة إلى الإصلاح تظهر حين يتمّ الشّعور بالفساد ومعاناته، وحين توجد الرّغبة في ‏إزالته، أمّا حين لا تكون الرّغبة مع وجوده واستفحاله، إمّا قصداً أو جهلا ، فتلكم لا شكّ ‏أعلى درجات الفساد، إذ اقترن إذاّك بالمكابرة وانعدام الوعي. ‏ولكي تكون هذه الكيفيّة صحيحةً وإيجابيّة لا بدّ من أمور أهمّها ثلاثة: ‏
أوّلاً : تحديد فكرة واضحة للإصلاح.‏
ثانياً : وجود إرادة لإنجاز هذا الإصلاح.‏
ثالثاً : تهيّؤ وسائل تنفيذ هذه الرّؤية.‏
وإجراء هذا الإصلاح منوط بطرفين أحدهما مكلّف بالتّصوّر، والثّاني مكلّف بالتّنفيذ. أمّا التّصوّروالتّخطيط، فذلك يجب أن ينهض به المثقّفون في توفيق محكم بين الحلم ‏والواقع، وبإشراك جميع فئاتهم، بعد أن تعود الثـّقة بينهم. وعلى أن يكون المنظور قائماً ‏على إقامة دعائم جديدة لإشاعة العدل والمساواة والحقّ والحريّة، والتّأمّل بذلك ‏لانفتاح سليم على العالم والتّفاعل معه ومع مستجدّاته. فالإصلاح يتطلّب المعرفة ‏والتّعليم والتّعلّم، والتّربية والممارسة، وخلق تراكم له في واقع النّاس يجعلهم مقتنعين به، ‏وبمن يدعو له ويعلّمه للنّاس، لأنّ ادّعاء الإصلاح وإفراز نقيضه قصداً أو جهلا، لا ‏شكّ أنّه لا يخدم لا الآجتهاد البشري السّاعي إلى التّطوّر، ولبناء المجتمع العادل و‏المنصف، ولا شرع الله الذي أساسه العدل على كلّ المستويّات ذات الصّلة بالحياة اليوميّة ‏للنّاس سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وتعليميّاً...‏
إنّ الإصلاح لا يمكن أن يتمّ ما دامت شعوبنا جاهلة وأميّة، يستشري فيها التّخلّف ‏ومتزمّتة ومتعصّبة ورافضة لكلّ ما هو مخالف لرأيها، ولو كان هو الأصلح وتهتمّ ‏بالقشور والشّكليّات وإدمان المهاترات وإصدار التّهم، والأحكام الجاهزة لمواجهة كلّ ‏ما هو متنوّر ومتجدّد، ولو كان في صميم العقيدة وروح الإصلاح.‏
لذلك لابدّ من تثبيت العلوم وتهذيب العقول وتذليل الشّهوات وتوسيع الأفكار الكليّة ‏حتّى ينشأ في مجتمعاتنا الرّأي والرّأي المخالف. أمّا التّنفيذ فيقع على عاتق القائمين ‏بالشّأن العامّ من مسؤولين وحكّام. وفي تجاوب مع الهيئات السّياسيّة ومع مكوّنات ‏المجتمع المدني بمختلف أفراده، وحين يتجاوبون ويثقون ويساندون ويساهمون بحريّة، يخرجون بذلك من اليأس والإحباط واللاّمبالاة، ومن حالة الاغتراب إلى حالة الفعل و‏التأثير. وهذا من شأنه أن يتيح فرص الاستقرار الدّاخلي، نفسيًّا وواقعيّاً واجتماعيّاً و‏يمكّن من تحقيق التّنمية والآزدهــار، لأنّ استمراريّة الإصلاح أمر توجبه القوانين و‏تقتضيه الفطرة البشريّة، فكلّ الدّول تسنّ القوانين سعياً لإصلاح ما فسد وترميم ما خرّب، ‏وإلاّ فسد البشر وأصبحوا أكثر فتكاً من الوحوش. 
الهوامش ‏ ‏
(1) ‎الرّوم: 41.‏
(2) الأعراف:142. ‏
(3) فصّلت : 33.‏
(4) غافر : 40.‏
(5) النّحل : 97 .‏
(6) البخاري: الصّحيح - كتاب الصّلح – باب ما جاء في الإصلاح بين النّاس2/958 - حديث رقم : 2544.‏
(7) سهيّل بن سعد: هو إبن سعد بن مالك بن ثعلبة. روى عدّة أحاديث عن الرّسول صلّى الله عليه و سلّم- هو آخر من مات بالمدينة من الصّحابة و ‏كان من أبناء المائة- آنظر محمّد بن أحمد الذّهبي: سير أعلام النّبلاء- مؤسّسة الرّسالة- طبعة 1- 1422هـ/2001م-3/423-424.‏
(8) البخاري: الصّحيح- كتاب الصّلح- باب قول الإمام لأصحابه إذهبوا بنا نصلح 2/982 حديث رقم: 2547.‏
(9) أبو الدّرداء: قاضي دمشق، صاحب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، وهو عمير بن زيد بن قيس، روى عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم عدّة ‏أحاديث قيل مائة وتسعة وسبعون حديثا، مات قبل عثمان بن عفان بثلاث سنين- آنظر الذّهبي: سير أعلام النّبلاء- 2/336الى 338.‏
(10) أبو داود: السّنن- كتاب الأدب- باب إصلاح ذات البين-2/208- حديث رقم 4919.‏
(11) محمّد بن عيسى التّرمذي: السّنن- سلسلة الكتب الستّة-دارالدّعوة1401هـ/1981م إسطنبول- كتاب البرّ والصّلة عن رسول الله صلّى الله ‏عليه  وسلّم- باب ما جاء في التّأنّي- 4/322- حديث رقم:2010.‏
(12) البخاري: الصّحيح- كتاب الإيمان-باب فضل من إستبرأ لدينه-1/29- حديث رقم:52.‏
(13) انظر عبد الرّحمان بن أحمد بن رجب: جامع العلوم و الحكم- دار عمر بن الخطّاب-الإسكندريّة- مصر- 100.‏
(14) إبن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري- دار مصر للطّباعة و النّشر- طبعة 1-1421هـ/2001م-1/128.‏
الحجّ: 46.‏
(15) مسلم: الصّحيح- كتـــاب البرّ و الصّلة والآداب - باب تحريم ظلم المسلم و خذله و آحتقاره، وذمّه، وعرضه، وماله-4/1987- حديث رقم: ‏‏4651.‏
النّسائي: السّنن - سلسلة الكتب الستّة- دار الدّعوة-1401هـ/1981م-إسطنبول- كتاب عمل اليوم واللّيلة- باب ما تقول إذا أمسى- 6/147- ‏حديث رقم: 570.‏
(16) النّسائي: السّنن-كتاب عمل اليوم و اللّيلة- باب ما تقول إذا أمسى -6/147 - حديث رقم: 569.‏
البخاري: الصّحيح - كتاب الفتن-باب قول النّبي صلّى الله عليه و سلّم ويل للعرب من شرّ قد إقترب- 4/2590- حديث رقم: 6650.‏
(17) حفالة: أي رذالة من النّاس كرديء التّمر و نفايته و هو مثل الحثالة و هو الرّديء من كلّ شيء./أنظر محي الدّين بن الأثير: النّهاية في ‏غريب الحديث و الأثر- تحقيق طاهر أحمد الزّاوي و محمود الطّنّاحي-المكتبة العلميّة-1399هـ/1979م- بيروت- لبنان-1/339- مادّة ‏حفل+409 مادّة حثل.‏
(18) البخاري: الصّحيح-كتاب الرّقائق- باب ذهاب الصّالحين ويقال الذّهاب المطر-5/2364- حديث رقم 6070.‏
(19) التّرمذي: السّنن-  كتاب الإيمان-باب ما جاء أنّ الإسلام بدأ غريبا و سيعود غريبا-5/20-حديث رقم: 2629.‏
(20) مسلم: الصّحيح- كتاب العلم- باب من سنّ سنّة حسنة أو سيّئة- 4/2059- حديث رقم: 1017.‏
(21) الأنفال:1.‏
(22) الرّوم: 30.‏
(23) الأعراف: 85.‏
(24) الشّعراء : 152.‏
(25) غافر:26.‏
(26) البقرة:11.‏
‏(27) الأعراف: 130.‏
(28) ‏البقرة: 30.‏
(29) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن-مجلّد 4/ 7/177./ وانظر محمّد رشيد رضا: تفسير المنار- مجلّد 5 -/ 5/28./وانظر وهبة الزّحيلي: ‏التّفسير المنير في العقيدة والشّريعة والمنهج-دار الفكر المعاصر-طبعة 2-1418هـ/1998م- بيروت- دمشق- 5/331.‏
(30) المصدر نفسه: مجلّد 5/8/177+240.‏
(31) انظر محمّد الطّاهر بن عاشور: التّحرير والتّنوير- 9/245-246.‏
(32) الزّمر: 17-18.‏
(33) قَ:45.‏
(34) الغاشيّة: 22.‏
(35) البقرة:256.‏
(36) المدّثر:38.‏
(37) الزّلزلة: 7-8.‏
(38) الحشر: 10.‏
(39) انظر إبن عاشور: التّحرير والتّنوير- 29/199.‏
(40) إبراهيم الشّاطبي: الموافقات في أصول الشّريعة- المكتبة التّجاريّة الكبرى-طبعة2-1395هـ/1975م-القاهرة- 2/17.‏
(41) المصدر نفسه-2/20.‏
(42) المصدر نفسه-2/31.‏
(43) أبو حامد الغزالي: المستصفى- مكتبة الجندي- مصر-2/241-242.‏
(44) محمّد الطّاهر بن عاشور: مقاصد الشّريعة- تحقيق الحبيب بن الخوجة- وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة- طبعة 1-1425هـ/2005م- ‏قطر- 147.‏
(45) المصدر نفسه - 60.‏
 (46) انظر أحمد بن تيميّة: زيارة القبور والآستنجاد بالمقبور- دار الصّحابة للنّشر- طبعة 1-1412هـ /1992م - 37.