كلمات

بقلم
عبداللطيف العلوي
عمّي ... محسن ...
 عمّي محسن، رجل سبعينيّ متين، من أولئك الشّيوخ الّذين رغم تقدّمهم في السّنّ يبدو الواحد منهم بقوّة حصان، قصير قليلا، بلا ذيل، وعريض من أعلى ومن أسفل، خدّاه تغشاهما حمرة الرّمّان ولحيته قصيرة مشذّبة بشكل نصف دائريّ وعيناه ثاقبتان كعيني نسر جائع. حين يمشي يفرك ساقيه بشكل ملحوظ كأنّه يحمل بينهما مخلاة مليئة بالرّمل، ويتمايل بزهو يمينا وشمالا.
كلّ سكّان الحيّ يعتبرونه رجلا صالحا، تقيّا، وهو للأمانة، يحرص أشدّ الحرص أن لا تفوته مناسبة دينيّة أو شبه دينيّة أو لا دينيّة دون أن يظهر للنّاس شدّة ورعه وعبوسه. السّبحة وطابع الصّلاة القاتم على جبينه وعود المسك والأراك، كلّ تلك الايحاءات جعلته يبدو للنّاس رجلا بمهابة استثنائيّة، كأنّه مجسّم تطبيقيّ حيّ للكائن الحصريّ الوحيد الّذي يعتقد العلماء أنّه حجز آخر مكان في الجنّة منذ سنوات.
لم أكن أنتبه إليه مارّا أو قادما، جالسا أو واقفا، حتّى جمعنا قدر الله في موكب عزاء في أحد بيوت الحيّ. جلس قبالتي يتمتم حينا ويفرك لحيته حينا آخر، ويستعيذ بالله ممّن يحلقون لحيّهم، وهو يسترق النّظر إليّ، فترى وجوههم طريّة كخدود النّساء، ويحرّك السّبحة برياء ظاهر يكاد يلوّح بها في وجوهنا، ويقلّب عينيه بيننا كي يتأكّد أنّنا شديدو الانتباه إليه والتّقدير لما يفعل.
بعد ذلك دار الحديث أخذا وردّا وشدّا وجذبا، بدءا بحرمات الموتى وضرورة الاعتبار وصولا إلى الحياة والنّاس والحلال والحرام وأشيائنا المعطوبة، ثمّ فجأة سألني بلا مقدّمات: هل صحيح أنّك من الّذين ، والعياذ بالله، يكتبون الشّعر؟
ابتسمت بامتعاض وسكتّ دون أن أرفع رأسي عن اللّوحة الرّقميّة، فأردف:
ـ وليدي أنت تعرف أنّ الشّعراء يتبعهم الغاوون، مثل الشّياطين تماما. والوقت الّذي ستضيّعه في المعصية، أفضل لك أن تستغلّه في حفظ القرآن والحديث وحضور دروسنا في الجامع.
أجبته بهدوء ودون أيّ انفعال:
ــ ربّي يتوب علينا يا حاج ! هاني نحاول باش نبطّله كيما بطّلت الدّخّان.
كان المكان يشرف على جزء واسع من النّهج الكبير، ومن حين لآخر تمرّ إحدى المعزّيات فيشيّعها بعينيه الضّيّقتين حتّى الباب ويزن صدرها وردفيها ثمّ يعود للحديث عن عمرته الثّالثة وما شاهده من الكرامات والمعجزات، وعن الكبش الّذي تبرّع به في عيد الأضحى الفارط لأرملة الطّاهر الأعتر، وكيف أنّه وجد ابنها يدخّن في ركن من الشّارع فأوسعه ضربا وسبّا لأنّه مثل أبيه ويجب أن يربّيه، وكيف أنّه صار يزورها أحيانا ليحفّظ أبناءها القرآن، وهو بالمناسبة يدعوني إلى أن أحضر ابنتي كي يحفّظها القرآن هي أيضا، ثمّ تذكّر أنّه نسي مبلغ المائتي دينارا الّتي سيتبرّع بها لشراء برّاد صغير للجامع فلعن الشّيطان وسحب الهاتف وكلّم أمين المال بالصّوت المسموع كي يأتيه في التّوّ ويأخذ المبلغ، والنّاس بعضهم ينظر إليه بإكبار وبعضهم يشيح عنه باشمئزاز...
وعندما ارتفع صوت المؤذّن لصلاة العصر، هممت بالعودة إلى البيت، فاستوقفني قائلا: ألن تصلّي معنا؟ قلت له: «لست على وضوء»، فاستهجن منّي ذلك قائلا: «إيّاك أن تترك نفسك مرّة ثانية بلا وضوء، أنا لا أبقى بلا وضوء لحظة واحدة طيلة اليوم، كلّما أحدثت توضّأت، وحتّى عندما أكون نائما، أتفطّن لنفسي مباشرة فأنهض وأتوضّأ ثمّ أعود إلى النّوم. ألا تخاف أن تموت بلا وضوء؟ !
ابتسمت في وجهه ابتسامة بلاستيكيّة خفيفة وأنا أقول: « أنت رجل صالح يا عمّي محسن، أنت من المبشّرين بالجنّة دون شكّ يا عمّي محسن».ثمّ مضيت عائدا وأنا أقول في نفسي: « أنت رجل سافلٌ وساقط وقميء يا عمّي محسن، أنت كذّاب كبير وسافلٌ وكريه الرّائحة، وأنا لا أشكّ لحظة أنّك تصلّي بلا وضوء أصلا يا عمّي محسن. وربّما تصلّي وأنت على جنابة وتقلّب عينيك في هيفاء وهبي وروبي وهي تتقصّع على روتانا وتترك الصّلاة دون ردّ السّلام يا عمّي محسن. وأنا لا أأتمنك على قطّة ولا على دجاجة ولا حتّى على ذبابة، فكيف تريدني أن أأتمنك على ابنتي لتحفّظها القرآن يا عمّي محسن... ثمّ التفتّ إليه وأنا أهمّ أن أقول له بالصّوت العالي: «أنت كذّاب ومنافق كبير يا عمّي محسن، ولن تدخل الجنّة ولو بست قفاك وظهرك يا عمّي محسن، وإذا دخلت الجنّة أو جلست تحت حائطها الخارجيّ أو حتّى مررت أمامها في يوم قائظ، فتعال وبل على قبري، ثمّ أعد وضوءك يا عمّي محسن !»