قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الإسلاميّون قطب الرّحي
 قبل ظهور ثورات الرّبيع العربي كان السّؤال السّياسي الأصعب فى الوطن العربي ‏كلّه هو: ما موقع الاسلاميّين من الخريطة السّياسية عموما ومن السّلطة ‏خصوصا؟ وبعد الثّورة، ظلّ هذا السّؤال قائما منذ اليوم الأول يظهر على لسان ‏السّياسيين ويختفي ليكون الإسلام السّياسي الغائب الحاضر فى كلّ الأحداث فما ‏هي أسباب هذا الحضور المُلِح للإسلاميّين فى خارطة الأحداث وعلى لسان ‏النّخبة والسّياسيين ؟ ولماذا كان الإسلاميّون الطّرف الرّئيسي فى كلّ ما جري ‏سلبا وإيجابا؟‎.‎
ظهر مصطلح الإسلام السّياسي حديثا ولكن مفهومه لم يتبلور جيّدا وظلّ محلّ ‏أخذ وردّ بين من ينفي وجوده أصلا وبين من يخصّ به بعض الحركات ‏الإسلاميّة دون غيرها ولذلك لن نعتمد فى مقالنا هذا المصطلح فقط بل سوف ‏نعتمد أكثر مفهوم الحركات الإسلاميّة بغض النّظر عن تعدّد تسمياتها وذلك ‏للدّلالة أوّلا على تجذّر هذه الحركات فى النّسيج المجتمعي للبلدان التى ظهرت ‏فيها من جهة ولطول الصّراع بينها وبين أنظمة الحكم من جهة أخرى والكلفة ‏الباهضة لهذا الصّراع‎.‎
وسواء اعتمدنا هذا المصطلح أو ذاك، فإنّ الغاية واحدة وهي النّظر في أهمّية ‏حضور الإسلاميّين فى المشهد المجتمعي والسياسي ونحن في لحظة تأسيس ‏جديدة تزداد توهّجا مع ازدياد حاجة النّاس للتّغيير والانبعاث من جديد‎.‎
تعدّ جماعة الإخــوان المسلميــن الحركــــة الإسلاميــة الأقدم من حيث الظّهور وهي ‏الحركة الأكثر حضورا فى المشهد منذ تأسيسها، ولئن كانت هذه الحركة حركة ‏دعوة وإصلاح فى بداياتها وعلى مدى تاريخها حتى محنتها الأخيرة، فإنّ التّعاطي ‏مع الشّأن السّياسي للمجتمع ظلّ يحكم علاقتها بالدّولة وكان سببا فى الصّدام ‏المستمرّ وهو صدام مؤلم مأســـاوي للحركـــة ولكلّ أفرادهــــا حيث شرّدت قياداتها و‏منتميهـــا من سجن إلى سجن دون أن تنطفئ الحركـــة ودون أن يستطيع النّظام ‏السّياسي تجاوز وجودها الحاضر الغائب دائما‎.‎
تفرّعت عن حركة الإخوان المسلمين فى مصر حركات كثيرة وكانت كلّها حركات ‏دعوة وإصلاح، ثمّ ما لبثت أن انسلخت عن حركة الإخوان الأولى فعليّا أو فكريّا تحت دواع كثيرة منها القراءة النّقدية للمشروع الإخواني ومآلاته، و‏منها تأثّر هذه الحركات بما وفد عليها من فكر جديد بعد نجاح الثّورة فى إيران، ومنها ما فرضته الأحداث والمحن من مراجعات، ومنها خاصّة ما كان من تأثير ‏للفكر الإنساني عموما ولفكر الجماعات المناوئة لهذه الحركات وخاصّة ما كان ‏منها يساريّا يرفع شعارات التّغيير أو لبراليّا يرفع شعارات الديمقراطيّة وحقوق ‏الأنسان‎ .‎
ابتعدت هذه الجماعـــات عن النّهج الإخوانـــي تدريجيا حتّى صارت توجّه من النّقد للإخوان أكثر ‏ممّا توجّهه لخصومها بعد طول التّباعـــد بين النّهجيــن، ولعلّ ذلك كان السّبب فى ‏ظهور مصطلح الإسلام السّياسي ليكون رافعا لشعـــارات جديدة بينهـــا وبين ‏شعــــارات الإخـــوان الأولى بون يزداد اتساعا يوما بعد آخر‎.‎
لم يعد مطمح الإسلاميين إعادة تشكيل المجتمع على أسس من الإسلام كما ‏يفهمونه باعتبار أنّ هذا المجتمع قد انحرف عن دين الله انحرافا شديدا أو انفصم ‏عنه «انفصاما نكدا» ولا مطمحهم أن يظفروا بلحظة التّمكين الضّرورية ‏ليصبحوا أسياد الدّولة والمجتمع حتّى يكون بوسعهم تنفيذ ترجمة لشعارهم ‏الرئيسي «الإسلام هو الحلّ» وإنّما صاروا يتبنّون شعارات جديدة تماما،غريبة ‏عن نهجهم الأول و أبرزها شعاري المشاركة والديمقراطية ضمن أفق علماني ‏صرف رغم خوف الإسلاميين من العلمانيّة وشعورهم بغربة المصطلح عن ‏مجتمع مسلم‎.‎
لا نخص بهذا الحديث حركة النّهضة فى تونس التى تطوّرت من حركة اتجاه ‏اسلامي بشعارات إخوانيّة إلى حركة «النّهضة» التى ترفع شعارات الديمقراطية و‏التّوافق والمشاركة والتّعايش والحرّية، ولكنّنا نقصد به كلّ الحركات الإسلامية ‏الآخذة فى التّطور نحو نهج النّهضة، وسواء تعلّق الأمر بهذه الحركة أو تلك فإنّ ‏الأهمّية تكمن في النّهج الجديد الذي يعدّ من صميم النّأي بالدّين عن شأن الدّولة ‏كما هي العلمانيّة رغم محاولات التّكييف أو التّلفيق كما يسمّيها البعض أو ‏القراءات الجديدة فى الإسلام كما يسميها البعض الآخر وتلك مفارقة تحتاج إلى ‏مزيد من التمحيص‎.‎
إنّ توالي المحن على الإسلامييّن ودخول أتباعهم إلى السّجون بالآلاف و تهديدهم بالإعدام والإستئصال لم يعد لـــه من مبرّر ســـوى الحقد الأعمـــى على ‏الإسلاميّين ونفي المدنيّة والتّطـــور عنهم رغم ما نلمســـه من تطوّر فى نهج ‏الحركات الإسلاميّة وفكرها. ولقد عرف الإسلاميّون دائما كيف يتجاوزون ‏المحن مدركين أنّ الأمر لا يتعلّق بعلاقتهم بالمجتمع والدّولة فقط بل بعلاقتهم ‏بدوائر الحكم في العالم وفوبيا الإسلام وهو ليس بالأمر المستجد، ولكنّ ‏الإسلاميين لم يدركوا قوّة تأثيره إلاّ بعد ثورات الرّبيع العربي وما أعقبها من ‏صعود للإسلاميين بآليّة الديمقراطيّة دون غيرها‎.‎
الإسلاميّون بكل أصنافهم هم عصب السّياسة فى الوطن العربي كلّه ومهما كان ‏الاختلاف معهم فى النّهج أو فى الممارسة، فإنّ وجودهم حتمي. هذه مسلّمة يجب ‏أن تكون في مقدّمة أي بحث أو دراسة عن الحركات الإسلامية أو عن الإسلام ‏السّياسي لا فرق، وهم كذلك قطب الرّحى لكلّ السّياسات الدّاخليّة لبلدان العالم ‏العربي والإسلامي وللسّياسات الخارجيّة للقوى المتحكّمة فى العالم. 
من ينظر ‏إلى خارطة الصّراعات الدّموية يلمس أهمّية ما نقول، فما جرى ويجري فى ‏مصر وفي سوريا وفي اليمن وليبيا وفى فلسطين يؤكّد أنّ الإسلاميّين كانوا ‏محور الصّراع وكان تغييبهم غاية من غايات ما جرى رغم الكلفة الباهضة لهذا ‏التّغييب‎.‎
لا يتعلّق الأمـــر بالصّــراع الدّمـــوي فقط، بـل بالصّـراع السّياسـي أيضـا، وتركيا و‏فلسطين خير مثال، فهل يفهم الإسلاميّــون أهمّيـــة موقعهم فيغــادرون موقع المضحي ‏والضّحية أم تتوالـــى المحن عليــم دون أيّ جديد؟