خواطر

بقلم
علي عبيد
الشريعة والشرعيّة: لماذا نتوجّس خيفة من الأولى وندافع عن الثّانية؟
 من أكثر القضايا إثارة للجدل تحديد مواقف النخب في علاقتها بالشريعة الإسلاميّة فمن رافض للتعامل مع مفهوم الشريعة ومصطلحها إلى متشبّث بقدسيّته وتكفير الخائضين فيه.
وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على هذا المفهوم من خلال النّصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة وصفحات من تاريخ الأمّة لعلّنا نرفع الالتباس الحاصل حوله.
ورد لفظ «شرع» ومشتقّاته في القرآن الكريم في خمسة مواضع، أربعة منها في سور مكّية وموضع واحد في سورة مدنيّة. فأمّا المكّية، فأولاها قوله تعالى : «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ» (1) والثانية قوله : « أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ» (2) والثالثة قوله : «... إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ...» (3) والرابعة قوله تعالى : «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(4) والخامسة قوله : «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ...» (5) 
وإذا رجعنا إلى المعاجم اللغويّة، نجد أنّ لفظ «شَرَعَ» ومشتقّاته له علاقة بورود الماء. ففي لسان العرب: شَرَعَ الوارِدُ يَشْرَعُ شَرْعاً وشُروعاً : تناول الماءَ بفِيه، والشَّريعةُ والشِّراعُ والمَشْرَعةُ : المواضعُ التي يُنْحَدر إِلى الماء منها ، قال الليث : وبها سمي ما شَرَعَ الله للعبادِ شَريعةً من الصوم والصلاةِ والحج والنكاح وغيره والشِّرْعةُ والشَّريعةُ في كلام العرب : مَشْرَعةُ الماء وهي مَوْرِدُ الشاربةِ التي يَشْرَعُها الناس فيشربون منها ويَسْتَقُونَ ، وربما شَرَّعوها دوابَّهم حتى تَشْرَعها وتشرَب منها ، والعرب لا تسميها شَريعةً حتى يكون الماء عِدًّا لا انقطاع له. والشَّراعةُ : الجُرْأَةُ ، والشَّرِيعُ : الرجل الشُّجاعُ. وشرعت في الأمر شروعا أي خضت فيه  والشّارع الطريق الأغظم الذي يشرع فيه النّاس عامّة.
من خلال هذه الإشارات اللّغويّة نكتشف أنّ الله سبحانه وتعالى اختار لدينه لفظ «شريعة» كعبارة دالّة على النبع الصّافي الذي يروي وارده بدون عناء أو إحراج، رغم أنّ الخوض فيه يتطلّب شجاعة وجرأة. كما أنّ طريقه واضحة وواسعة وتتّسع للجميع ليشرعوا فيها كما تشرع السّفينة الشّراعيّة في البحر الواسع.
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم : «إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق» (6) وقد شرح الحديث المناوي فقال: «إن هذا الدين متين» أي: صلب شديد، فأوغلوا: أي سيروا فيه برفق، ولا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه، فتعجزوا وتتركوا العمل. 
وقال الغزالي: «أراد بذلك أن لا يكلّف نفسه في أعماله الدّينية ما يخالف العادة، بل يكون بتلطّف وتدريج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطّريق الأقصى في التبدّل، فإنّ الطبع نفور، ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرّديئة إلاّ شيئا فشيئا حتى تنفصم الأخلاق المذمومة الرّاسخة فيه، ومن لم يراع التّدريج وتوغل دفعة واحدة، ترقّى إلى حالة تشقّ عليه، فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا، وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا ينفر عنه». 
والجدير بالملاحظة أنّ لفظ «الشّريعة» ليس حكرا على الأحكام الشّرعيّة أو السّياسة الشرعيّة بل هو يشمل كلّ مجالات الحياة، فإذا أردنا أن نمجّد الثورة مثلا نقول «الشرعيّة الثوريّة»، وإذا أرنا أن ننوّه بنتيجة الانتخابات نقول «الشرعيّة الانتخابيّة». وإذا أردنا أن نطبّق أحكام الدستور نقول «الشريعة الدستوريّة» وإذا أرنا أن نحترم القانون نقول «الشرعيّة القانونيّة» وهكذا في كلّ المجالات بما في ذلك القوانين الرياضيّة مثل «شرعيّة» ضربة الجزاء أو «شرعيّة» الهدف أو «شرعيّة» الورقات الصفراء والحمراء ضدّ اللاعبين والمسيّرين. والشرعيّة هي اسم مؤنَّث منسوب إلى شَرْع. 
وفي كل هذه الحالات يحترم الجميع الالتجاء إلى «الشّرعيّة» ويطمئنّون لحكمها. أمّا إذا تعلّق الأمر بالحديث عن شريعة الإسلام، فإنّ الناس ينقسمون إلى فسطاطين، الأول رافض يعبّر عن رفضه بانزعاجه من هذه الشّريعة السّمحة ثمّ يربطها بالإرهاب ويحتمي بالفصل الثّاني من الدّستور التونسي الجديد الذي ينصّ على مدنيّة الدّولة. والثّاني يتكوّن من بعض المتحمّسين لشعار «تطبيق الشريعة» يردّ ردّا عنيفا ويسارع إلى رفع شعارات التكفير ومعاداة الدّين في وجه كلّ من  تحدّثه نفسه في الخوض في الموضوع، رافضين فتح أبواب النّقاش أوالاجتهاد، كأنّ أحكام الشّريعة السّمحة وموروثها الفقهي في العبادات والمعاملات أحكام مقّدسة لا تحتمل التأويل ولا الاجتهاد ولا التّجديد. وبين هؤلاء وهؤلاء تضيع الشّريعة ومقاصدها وتتحوّل إلى كابوس يقضّ مضجع الناس البسطاء فيستغلّها القاصي والدّاني لتحقيق مكاسب خاصّة في المجال السياسي.
 إذا أراد المنتسبون إلى الإسلام والمدافعون عن «الشريعة» النجاح في عمليّة إصلاح المجتمع وتجديد الخطاب الدّيني فلا بدّ من بعث رسائل طمأنة إلى كافّة شرائح المجتمع، وعوض التخندق وراء متاريس الدّفاع عن قدسية «الشريعة» باعتبار قدسيّة النصوص الموجّهة لها، عليهم التركيز على إبراز مقاصد الشريعة وسماحتها أسوة بالشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور (المتوفى: 1393هـ) الذي ركّز كلّ جهده في كتابه «مقاصد الشريعة» على بيان وتفصيل المبادئ والأسس التي يقوم عليها الفكر المقاصدي، إذ بدون إدراك هذه المقاصد وما تحتويه من معان سامية لا يمكن إقناع النّاس بضرورة الالتجاء إلى أيّ شريعة أو أي دستور أو أي قانون. 
إنّ «العدالة» و«الكرامة الإنسانية» مثلا هي من القيم السّامية التي قامت عليها ثورات الشّعوب العربيّة وهي في ذات الوقت من المقاصد العليا للشّريعة الإسلاميّة فالأولى بنا أن نهتمّ بها ونتحدّث فيها لإبراز أهمّيتها وضرورة الدّفاع عنها. فنكون بذلك من المدافعين عن الشريعة الإسلاميّة. وإذا أرادت بعض الأطراف النّافذة إعلاميّا أو سياسيّا أو اقتصاديّا جرّنا إلى الانغماس في قضايا جانبيّة مثل هل نسمح للفتيات بارتداء الحجاب ؟ ومتى يتمّ ذلك؟ أو هل نسوّي الأخت مع أخيها في الميراث أو هل نسمح للسنمائيين بتجسيد الأنبياء والصحابة في أعمالهم الفنّية ؟أو نقف ضدّ ذلك؟ فإنّ هذه المسائل ورغم ما تكتسيه من خطورة وما تستحقّه من عناية  لا ينبغي أن تشغلنا عن القضايا الأساسيّة التي لا يستقيم حال الأمّة إلآّ بمعالجتها. فلا معنى للحديث عن تطبيق للشريعة ومقاصدها العليا تهان وتستباح. فكيف نتحدّث عن أحكام الشريعة وضرورة تطبيقها على أرض الواقع وشعوبنا المسلمة تعيش واقع الاستبداد والانتهاك المستمر لحرّيتها وكيف يمكن أن نتحدّث عن إلزاميّة أحكام الشريعة في مجتمع لاعدل فيه ولا كرامة ولا احترامَ لحقوق الإنسان الأساسيّة كالقوت والصحّة والشغل.
ليس العيب في مصطلح «الشريعة» أو في الشريعة نفسها أو في أحكامها التي ما أنزلها الله إلاّ لتخفّف عن الناس متاعب الدنّيا وتصلح بينهم وترشدهم إلى أفضل السّبل لممارسة خلافتهم على وجه الأرض بتعميرها واستثمار خيراتها، إنّما العيب في من يشوّهون هذه الشريعة سواء بالافتراء عليها وتسويقها للنّاس بأنها خطر على مدنيتهم وغول سيفتك بمكتسباتهم وسعادتهم ونمائهم أو بالتمسّك بها بصفتها مقدّسة لاحقّ لأحد في إبداء الرأي فيها والدعوة إلى تطبيقها حرفيّا كما حدّدتها الكتب الفقهية القديمة.
وعندما يعلم النّاس أن «الشريعة» تعني مقاومة الظلم والعدل بين النّاس وأنها تعني أيضا تحقيق كرامة الإنسان وأنها تعني الدفاع عن حقّه في العيش الكريم بحرّية. عندها سيلتفّ جميعهم حول شعار «تطبيق الشريعة» ويدافعون عنه.
الهوامش
(1) سورة الشورى - الآية 13
(2) سورة الشورى - الآية 21
(3) سورة الأعراف - الآية 163
(4) سورة الجاثية - الآية 18
(5) سورة المائدة - الآية 48 
(6) أخرجه البيهقي ورواه أحمد في «المسند».