وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
المسجد،من ركيزة العصر النبوي إلى انتكاسة العصر الحديث
 المسجد هو الموضع الذي يسجد فيه، كما أنه يمثل كل مكان أعد ليؤدي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد وقد أشار الله إلى فضل المسجد القائم على تقوى الله في قوله تعالى : «لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ»[1] كما أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلم قد أشار إلى تكريم أمّة الاسلام بالمسجد  حيث قال : «..وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». [2] أما الجامع فهو نعت للمسجد لأنّه يمثّل مكانا للاجتماع.
إثر هجرته، صلّى الله عليه وسلّم، بنى أول مسجد في الإسلام، واتخذ منه دار حكم  وإدارة لشؤون المجتمع الإنساني القائم على وثيقة الصّحيفة التي جمعت بين المسلمين (مهاجرين وأنصارا) واليهود وقبائل الأوس والخزرج لتكريس مفهوم حديث يقوم على مدنية الدولة [3]  دون تمييز عقدي ( مسلمين و يهود ) أو تمييز قبلي (الأوس والخزرج) ليرسي بذلك قاعدة العيش المشترك ولا يكون ذلك إلاّ من خلال اختلاط الأنساب ونظام تقسيم العمل كما بيّن ذلك ابن خلدون.
 وبهذا كان المسجد مركزا للدّعوة وللسّياسة وحتّى الجيش، إذ أنّ الخطط المتعلقة بالغزوات والسّرايا كانت تقرّر فيه، بالإضافة إلى كونه مكان التقاء المسلمين للمشاورة في أمور دينيّة(العقيدة والعبادات) ودنيوية؛ سياسية واجتماعيّة.
في نفس السّياق التّاريخي، جعلت صلاة الجماعة لتعزيز الرّابطة العقديّة لأفراد الجماعة المؤمنة وذلك بغية تعزيز إيمانهم بقضيتهم ولتقوية شوكتها أمام المشركين في مكّة أي قبل الهجرة وبعدها نظرا لما تخوّله صلاة الجماعة من لقاء دوري بين المسلمين معزّزة بذلك روح المؤاخاة في قلوبهم ولذلك جاءت الأحاديث النّبوية لترسّخ هذا البعد الاجتماعي في كيان الدّولة الحديثة.
كذلك الحال بالنّسبة لصلاة الجمعة، فنحن نعتقد جازمين بأنّ يوم الجمعة هو عيد أسبوعي، ففي عهد النّبي كان المسلمون يحتفلون به من خلال صيام الخميس ثمّ الغسل ومسّ للطّيب (نظافة البدن والثّوب) وما يتبعه من سنن النّبي عليه الصّلاة والسّلام يوم الجمعة وينتهي بسماع مواعظ النّبي ثمّ قراءة سورة الكهف بما تمثّله من دافع للحركة والعمل ومجاهدة للنّفس على الجهد والاجتهاد في تحقيق القوّة العامّة والقوّة العسكريّة.
فتنوّعت بذلك وظيفة الجمعة إذ من زاوية إجتماعيّة؛ تقوم على لقاء الأحبّة والخلاّن، أمّا تربويّا فهي تسمو بكيان الفرد لتجعل منه عنصرا صالحا للحياة الاجتماعيّة من خلال معيار التّقوى بما هي احترام للقانون ومكارم الأخلاق معيارا للمفاضلة بين البشر وسياسيّا وذلك يتمحور حول الظهور أمام العدو (مشركين-منافقين-يهود) على أن الإسلام وحّد المدينة الحديثة من خلال مفهوم الاعتصام بحبل الله.
أما اليوم فالسّؤال الجوهري يتمحور حول كيفيّة فهم أفضليّة صلاة الجماعة على الصّلاة الفرديّة خصوصا وأنّ الظّروف الزّمنيّة وحتّى السيسيولوجيّة تغيّرت بنسبة كبيرة، فانتقل نمط الحياة الاجتماعيّة من النّظام القبلي إلى النّظام المجتمعي بما يترتّب عن ذلك تركيز مؤسّسات الحكم والقضاء والجيش والتّعليم وغيره من وظائف الدّولة التي كانت مختزلة في المسجد.
وكذلك الحال بالنّسبة لصلاة الجمعة، فالكلّ يعلم أنّها مكان يظلّ فيه المسلم نائما طوال ساعة ثم يستيقظ لأداء الصّلاة دون أي استفادة تربويّة وذلك يعود لأسباب متعدّدة لعلّ أهمها يعود إلى ضعف تأطير وتكوين الأيمّة والخطباء (إلاّ من رحم الله) الذين يردّدون كلاما معلوما للعموم كالأحاديث والآيات دون قدر من الاجتهاد أو البحث أو أنّهم ينظرون في كلام المفكّرين المحدثين حتّى يواكبوا العصر بل تجدهم يقتصرون على أقوال السّلف الذين يفسرون الآيات والأحاديث تفسيرا لغويّا لا علميّا بالنّظر لمحدودية العلم في ذلك العصر والأنكى من ذلك تجدهم يطلقون على أنفسهم لقب « العلماء» .
وقد يثير ذلك الأمر أيضا في نفس المثقف اليوم الفضول والاستفهام عن وظيفة الجمعة والجماعة في عصرنا الحديث حتى تحصل الإفادة النّوعية من الحدث اليومي والأسبوعي وتكون كالإفادة التي كانت في العهد النبوي؟
في طرحي لسرديّة صلاة الجمعة وصلاة الجماعة تبيّن لي أنّ الحديث عن وظيفة المسجد أشمل وأعم؛ فالمسجد اليوم قد انتكست وظيفته وأصبحت كوظيفة الكنيسة عند المسيحيين ( إلتقاء النّصارى يوم الأحد لتطهير ذنوب أسبوع ثم العودة إلى ما دأبوا عليه دون أن تكون لهذه المحطّة أثر في تزكية نفس الفرد وإصلاحه فيكون بذلك مواطنا صالحا داخل مجتمعه فيحقق رسالته الكونية التي خلق من أجلها وهي استعمار الأرض بقيم الاستخلاف الكونية ) 
وحتى نعيد الإعتبار  للدور المركزي للمسجد في عصرنا ليستأنف إشعاعه الثقافي والتربوي وتتعزّز مكانته في وجدان المسلمين وخاصة الشباب منهم، وجب علينا أن نجعل المسجد يضطلع بالأدوار التالية :
1) هيكليا؛ يمكن أن يلعب المسجد دور الميسر بين سكان الأحياء والبلدية، إذ يمكن رفع شكاوى المواطن والاستماع لمشاغله اليومية على أن لا يكون لكلّ حي مسجد، وذلك لأسباب جماليّة إذ أن كثرة الجوامع في منطقة صغيرة لا يعطي جمالا معماريّا يعكس حضارة عريقة واجتماعيّا ولا يزيد إلاّ في تفكيك المجتمع فعوض أن يتمّ التقاء عدد كبير من المصلين يتمّ تقسيمهم بين الجوامع وهي على خلاف وظيفة المسجد من وحدة وارتباط المسلمين بعضهم البعض.
2) اقتصاديا؛ يمكن أن يمثّل المسجد هيكلا يربط بين فئات المجتمع من خلال إحداث جمعيّة خيريّة في كلّ مسجد يستقبل فيها صدقات الأغنياء وزكاتهم من متساكني المنطقة وتعطى إلى فقرائهم من نفس الحي وبهذا يمكن للثّروة أن تعمّ كامل الحي فتلغى البون بين الطبقات ويقلّص الفوارق الاجتماعية داخل المنطقة. وكذلك الحال بالنسبة للأوقاف التي قد تكون موردا مهمّا للمسجد ومن خلاله يمكن التصرف فيه حسب الحاجيات المالية كما يمكن أن يلعب دورا تنمويا هامّا في المنطقة.
3) اجتماعيا؛ الإصلاح الاجتماعي من أوكد وظائف المسجد خصوصا مع ازدياد الحالات الاجتماعية الحارقة؛ من تفكّك للأسر ونسبة حالات الطّلاق المروّعة التي بلغتها عدة بلدان عربية وأولها تونس حيث  بلغت حالات الطلاق 14527 حالة سنة 2017 مقابل 13867 سنة 2013، و12256 في 2012[4] وهي أعداد مفزعة تقتضي تشكيل لجان للنّظر في أسباب التّفكك الأسري وإلا فالمجتمع إلى زوال محتّم.
4) تربويا؛ يساهم المسجد في تنشئة الأطفال تنشئة تعزّز فيهم الشّخصية الإسلاميّة الطامحة إلى الخير والعمل وتزكّي أخلاقهم ليكونوا بذلك مواطنين صالحين داخل المجتمع. كما يمكن أن يساهم في تعليم الأطفال علوم ومعارف عصرهم بما يؤهّلهم لمواكبة العصر الحديث. ولا ننسى دور الموعظة الأسبوعيّة التي لابدّ أن تتطرق لمشاكل المنطقة وأن تعكس الحلول الممكنة وهذا يتطلّب تطوير التكوين العلمي للأئمة والخطباء حتى يواكبوا المعارف والعلوم التي تندرج في مواضيع خطبهم حتى تحصل الاستفادة للمصلّين.
وبهذا يمكن للمسجد أن يستأنف دوره الثّقافي والتّربوي والاجتماعي داخل المجتمع العصري وأن يكون ذا وظيفة سامية حتّى في ظلّ تركيز مؤسّسات ذات البعد السّياسي والقضائي والعسكري لتبقى بذلك الإرادة السّياسية هي الفيصل بين الإحسان في استغلال المسجد والإساءة إليه بتركه خرابا دون وظيفة معنوية (روحية) أو مادية ( وظائفه العصرية ) وبين هذا وذاك يأتي السؤال الانكاري القرآني محذرا من تجفيف منابع المسجد وذلك في قوله تعالى:«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا»[5]
الهوامش
[1]  سورة التوبة الآية 108
[2]  حديث شريف أخرجه البخاري في صحيحه
[3]  تُعرف الدولة المدنية على أنّها الدولة التي تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية، كما تعني اتحاد وتعاون الأفراد الذي يعيشون داخل مجتمع يسير وفقاً لنظام معين من القوانين، ويقتضي ذلك وجود قضاء عادل يطبق تلك القوانين
[4]  تقرير للجزيرة.نت بعنوان ارتفاع الطلاق بتونس.. تضخيم أم واقع؟
[5]  سورة البقرة الآية 114