دراسات

بقلم
حسن الطرابلسي
هيجل وفلسفة الثورة (1/3) هيجل: حياته وأعماله
 هيجل هو من أكثر الفلاسفة غموضًا وتعقيدًا وعسرًا على الفهم، كما قال الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل [1] وهو كما قال موريس ميرلو بونتي «هيجل هو أصل كلّ ما يحدث من أشياء عظيمة في مجال الفلسفة منذ مائة سنة» لذلك يعتبر ذروة الفلسفة المثاليّة الألمانيّة التي تضمّ إلى جانبه كلاّ من فيخته Fichte ا [2] الذي تعبر مثاليته مثاليّة ذاتية، وشيلنج  Schellingا [3]  الذي تعتبر مثاليته مثاليّة موضوعيّة. 
والبحث في فلسفة الثورة مهمّ لأنّ الثّورة تأسّس قواعد جديدة لسلوكنا وتصرفاتنا وتمنحنا الفرصة لرؤية أفضل للحقّ (القانون) والقوّة (السّلطة) والجمال (الإسطيتيقا أو الفنّ) والله (الميتافيزيقا أو الدّين)ا[4] وتسمح لنا بالتّالي بهدم نظم سياسيّة وقيميّة وقانونيّة سائدة والتبشير بأخرى بديلة وجديدة تعيد تحديد سلوكنا بشكل مغاير عمّا ألفناه. فالثورة بهذا المعنى عملية هدم وبناء، يتبعها تحليل وتفسير وقراءة وفهم، وهي عقلنة وتنوير جديد يشمل مجالات الحياة كلها.   
ويزداد البحث في فلسفة الثورة طرافة وأهمية عندما يتعلق الأمر بهيجل، أبرز ممثلي الفلسفة المثالية، لأنه عادة ما يتهم بأنه محافظ وفيلسوف الدولة البروسية. 
فكيف لنا إذا أن نتحدث عن فلسفة للثورة عند هيجل؟ وما هي معالمها؟ ثم ماذا بقي من فلسفة الثورة الهيجلية بعد نقد كل من فيورباخ (Ludwig Feuerbach) وكير كجارد  (Søren Kierkegaard)وخاصة ماركس؟ وما هي راهنية هيجل في الجدل الدائر اليوم عربيا ودوليا؟
إذن نحن أمام إشكال حقيقي يطمح هذا البحث إلى الكشف عن خفاياه وأسراره.
إن هيجل، الذي ولد سنة 1770م في شتوتجارت بألمانيا وتخرج من المعهد الديني ولكنه اختار طريق الفلسفة، أثرت مجموعة من الأحداث على حياته وفلسفته من أبرزها الثورة الفرنسية وشخصية نابليون من جهة والثورة الصناعية في أنجلترا وعودة الملكية من جهة أخرى.
وتتأسس فلسفة هيجل على الديالكتيك الذي يقوم على حركة ضرورية ثلاثية: الفكرة ونقيضها ثم التأليف بينهما، وعلى قراءة للتاريخ ميّز فيها بين مراحل ثلاث:
تبدأ بالعالم الشرقي الذي تمتع فيه الحاكم فقط بالحرية، فهو الإله وأما بقية الشعب فإنهم عبيد. ثم العالم اليوناني والروماني حيث اتسع نطاق الحرية نسبيا، ليشمل اليونان والرومان فقط وأخيرا مرحلة العالم الجرماني حيث سادت الحرية للجميع. 
ويخلص هيجل إلى أن الروح الألماني هو روح العالم الجديد وأن التاريخ وصل، مع الدولة البروسية، إلى الروح المطلق والحرية التامة.
وقد رأى هيجل أن الثورة الفرنسية هي إعلان عن نهاية عصور الإقطاعية والإستبداد المسيحي والأخلاق السائدة. واعتبرأن التحول الكبير الذي أحدثته الثورة الفرنسية وضع التقاليد الميتافيزيقية موضع التساؤل ونزع عنها القداسة فأصبحت الفلسفة تبحث عن الله في الطبيعة كما أنّ الآلة فرضت سيطرتها على الإنسان حتى أصبحت «التغيرات في الجنس البشري تتبع التغيرات في الآلة».
إن علاقة هيجل مع الثورة الفرنسية ترتكز على الإعجاب والحماس لما أدخلته الثورة على التاريخ ولإعلائها لمفهوم الحرية من ناحية وعلى فهم التحديات التي واجهتها، وأهمها عدم وجود حلول للمشاكل التي أعقبتها وعدم الوصول إلى الإستقرار، ثم سيطرة الإستبداد من ناحية أخرى. 
إنها بذلك طرحت، حسب هيجل، مشكل العصر وهوالتحقيق السياسي للحرية ولكنها عجزت أن تجد له حلا. فالثورة أعلت مفهوم الحرية ليصبح فكرة أساسية تقوم عليها الدولة ثم ليتحول هذا المفهوم مع «ميثاق حقوق الإنسان» إلى حق طبيعي. 
وبذلك رأى هيجل في الثورة الفرنسية نقطة تحول، ليس في تاريخ فرنسا فحسب، وإنما في العالم. ولئن غير رأيه من نابليون بعد حروبه في أوروبا وعدّل موقفه من الثورة الفرنسية عندما لم تتحقق أهدافها، فإنه لم يتنكر لمبادئها ذاتها بل ظلت هذه المبادئ ملهمة له طيلة حياته وأشبعت فلسفته تفاؤلا وأملا على النقيض من الفلاسفة بعده، وأبرزهم شوبنهاور، الذي سيطر عليه التشاؤم.
إضافة إلى أنه في أثناء بحثه قدم أفضل صياغة للعلاقة بين المادية والمثالية، بين الديني والسياسي، بين المثال والواقع وهو ما جعله يُوصَف بأرسطو العصر الحديث. ووجدت جملته «كل ما هو واقعي معقول وكل ما هو معقول واقعي» شهرة كبيرة، فرفع من شأن الفلسفة عندما منحها الكلمة الفصل في حسم التحديات الصعبة وشبهها ببومة منيرفا التي لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله.
 
ولذلك فإن بحثنا عن فلسفة للثورة عند هيجل سوف يقودنا إلى البحث في فلسفة السياسة والقانون والدين والمجتمع وسنجد أننا أمام مصدرين أساسيين لذلك هما حياة هيجل نفسها ولحظته التاريخية التي ميزتها ثورتان أساسيتان وهما الثورة الصناعية وخاصة الثورة الفرنسية في أبعادها ورسائلها المتعددة. ثم ثانيا في كتاباته سواء منها تلك التي كتبها أيام شبابه وهو يتنقل بين ألمانيا وسويسرا أو في سنوات النضج والشهرة وإنتشار الصيت في جامعة برلين. وبالتالي ففلسفة الثورة منتشرة في حياة ومؤلفات هيجل وما علينا إلا البحث عنها وإظهارها للوجود.
وبناء على ما تقدم فإن التعريف بحياة هيجل وأهم مؤلفاته يصبح إذا جزءا من هذا العمل سنصل معه إلى بعض النتائج والإستخلاصات.
I ـ هيجل: حياته وأعماله
أ- حياته
جورج فلهلم فردريك هيجل، ولد في شتوتجارت بألمانيا عام 1770م، درس في معهد توبنجن الديني وتخرج منه سنة 1793م وهذا المستوى يؤهله ليكون قسيسا ولكنه لم يشتغل قسّا بل مدرسا خصوصيا في بازل Basel وبرن Bern وفرانكفورت (1793ـ1799). ولعل أهم كتابات هذه المرحلة كتابه عن التمييز بين فلسفة كل من فيخته وشيلنج Differenz des Fichteschen und Schellingschen System der Philosophie.
بعد وفاة والده سنة 1799م ورث هيجل مبلغا من المال، تمكن بفضله من الدراسة في الجامعة وتخرج من جامعة «يينا Jenna»ا[5] سنة 1801م. وفي سنة 1802م أسّس مع صديقه شلينج «الجريدة النّقدية الفلسفيّة» Kritische Journal der Philosophie وعيّن سنة 1805م أستاذا في جامعة «يينا». ولكن سرعان ما سقطت «يينا» في يد نابليون سنة 1806م. وقد ختمت هذه المرحلة بأهمّ كتب هيجل «ظاهريّات الرّوح» الذي فرّ به كمخطوط لم يطبع بعد من «يينا» ليلة واحدة قبل سقوطها في يد نابليون.
بسقوط يينا اضطر هيجل لمغادرتها ومر بفترة قاسية في حياته، فاشتغل بالصحافة ثم عيّن مديرا لمعهد ثانوي في نورنبرغ Nürnberg وهناك تزوج سنة 1811م وأصدر بعد سنة كتابه الشهير عن علم المنطق Wissenschaft der Logik في ثلاثة أجزاء. وبهذا الكتاب لفت أنظار العالم الأكاديمي إليه فتحقق سنة  1816م حلم كبير لهيجل وأصبح أستاذا بجامعة هايدلبرج. هنا أصدر سنة 1817م كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية» Enzyklopädie der Philosophischen Wissenschaften، ولم يلبث هناك طويلا حتى دعي إلى برلين سنة 1818 ليكون خلفا لفيخته الذي توفي قبل أربع سنوات.
نال هيجل شهرة كبيرة في مدينة برلين وأصبح أستاذا للأساتذة Professor der Professoren كما يحلو لبعض دارسي الفلسفة الألمان أن يسموه. وفيها كتب سنة 1821 مؤلفه عن «فلسفة القانون» Grundlinien der Philosophie des Rechtes oder Naturrecht und Staatswissenschaft im Grundriss
سمح هذا الوضع المريح لهيجل بالسفر والتنقل، فسافر إلى بريكسل وهولندا وبراغ وفينا. ثم سنة 1827 سافر إلى باريس والتقى في طريق العودة بغوته (Goethe). والتقى سنة 1829 بصديق الشباب شيلنغ، الذي بقي في خلاف معه، نتيجة فشل محاولة الصلح بينهما. وفي سنة 1831م، انتشرت الكوليرا في بروسيا[6]، فكان هيجل من ضحاياها، وتوفي في 14 نوفمبر سنة 1831م.
من أهم الأحداث التي أثرت على حياة وشخصية هيجل الثورة الفرنسية التي اندلعت وعمره تسع عشرة عاما وشخصية نابليون والثورة الصناعية في أنجلترا وعودة الملكية.
تأثر كثيرًا بدراسته للأدب اليوناني والحضارة الأثينية، وبقي التأثير واضحًا عليه حتى النهاية. كما تأثر بالشاعرهولدرلين[7] (Friedrich Hölderlin) أكبر شعراء الحركة الرومانسية، والفيلسوف فريدريك شيلنج، وهو وإن كان يصغر هيجل بخمس سنوات فقد كان مبكر النضوج والعبقرية.
بلغ هيجل مجده في فترة تدريسه ببرلين والسنوات التي تليها، ثم في آخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وانجلترا خاصة. كما اشتهر مجددا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في آخر الثمانينات مع فلسفات نهاية التاريخ [8] .
أهم مؤلفاته:
لم ينشر هيجل نفسه سوى الكتب الأربعة التالية:
ظاهريـــات الروح، «Phänomenologie des Geistes» ,س(1806) [9].
علم المنطــــق، «Wissenschaft der Logik»,س(1812-1816) [10].
موسوعــــة العلــــوم الفلسفيـــة، Enzyklopädie der Philosophischen Wissenschaft ,س(1817) [11]
فلسفة القانون .Grundlinien der Philosophie des Rechtes oder Naturrecht und Staatswissenschaft im Grundriss ,س(1821) [12].
ولكن تلامذته وبعض الناشرين تولّوا نشرمحاضراته ومقالاته ومراسلاته.
الهوامش
[1] اعتمدنا الترجمة الألمانية لكتاب رسّل:  Bertrand Russel, A History of Western Philosophy; (Philosophie des Abendlandes, s. 738)
[2] فيخته «Johann Gottlieb Fichte» ,س(1762-1814) فيلسوف ألماني، عيّن سنة 1794 أستاذا بجامعة «يينا» ولكن سرعان ما عزل سنة 1799 لاتهامه بالإلحاد. فتنقل بين عدّة مدن ليستقر أخيرا في «برلين». ولينتخب سنة 1810 أول رئيس لجامعتها. أعجب، مثل أغلب النخب الألمانية في تلك الفترة، بنابليون واعتبره ممثلا لمشروع الثورة الفرنسية ولكنّه تراجع عن ذلك عندما عيّن نابليون نفسه قيصرا وغزا بقية الشّعوب الأوروبيّة. كان فيخته خطيبا مفوها. ألف كتابا مهما سماه «خطابات إلى الأمة الألمانية»(1807 ـ 1808)  وكتب قبله اهم كتبه «محاولة في نقد كل وحي» سنة 1792. وهو، إلى جانب شيلنج، من أبرز ممثلي المثالية الألمانية. وترتكز فلسفته أساسا على فلسفة كانت. وفيختة جعل من الأنا أساسا للمعرفة المطلقة، وبناء على ذلك فإن كل الوجود هو ذاتي. فمثاليته هي إذن مثالية ذاتية.
[3] شيلنج  «Friedrich Wilhelm Joseph Schelling» ,س(1775-1854). كان صديقا لهيجل وهولدرلين. درّس في «يينا» و«فيرتزبورغ»، و«ميونيخ» و«برلين». وهو أيضا أحد أبرز ممثلي المثالية الألمانية. ولكنه على عكس فيخته يمثل مثالية موضوعية.
[4]  Gunnar, Hindrichs: Philosophie der Revolution, Suhrkamp Berlin 2017
[5] جامعة «يينا» Jenna: اختيار هيجل لجامعة يينا لم يكن عفويا وإنما لأسباب مهمة. فهو أولا اختارها بناء على نصيحة من صديقه شيلنج، الذي كان يدرّس هناك. وثانيا لأنه يوجد بهذه الجامعة أهم الأساتذة والعقول الألمانية في تلك الفترة. فكان «شيلر» Schiller أستاذا للتاريخ. فيخته وشيلنخ يدرسان الفلسفة. إضافة إلى أنها كانت مركز نشاط الرومنسيين الألمان مثل «تيك»  Tieck، «نوفاليس» Novalis، «شليغل» Schlegel ...إلخ. فهي باختصار كانت المركز الثقافي الأكثر حيوية في ألمانيا. ولكنها بعد أن سقطت سنة 1806 في يد نابليون فقدت هذا الدور لصالح جامعة برلين التي افتكت زمام المبادرة. وتحول إليها هيجل نفسه سنة 1818 حيث بلغ أوج شهرته هناك.
[6] الدولة البروسية : تأسست منذ سنة 1225 كمركز لدولة فرسان الرهبنة الألمانية ثم تطورت منذ 1701 لتصبح أهم قوة في الأراضي الألمانية وأزاحت مملكة النمسا عن قيادة الدول الألمانية. جاءت نهايتها على يد الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية حين أمر مجلس قوات الإحتلال المتحالفة سنة 1947 بحل الدولة البروسية.
[7] الشاعرهولدرلين «Johan Christian Friedrich Hölderlin»س(1770-1843) درس الفلسفة واللاهوت في المعهد الديني بتيبنغن Tübingen صحبة كل من هيجل وشيلنج. وفي سنة 1802 بدأت تظهر عليه علامات مرض الجنون. وبداية من 1807 أقام في مشفى خاص في تيبنغن. عاش هولدرلين ثلاثة وسبعين عاما قضى نصفها تقريبا مجنونا. ولكن جنونه لم يكن من النوع الكامل مثل ما حصل مع نيتشة في سنواته العشر الأخيرة.
الموضوع المركزي لهولدرلين هو التساؤل عن دور الشعر في عصره. ويعبر شعره عن الصدق المطلق مع الذات. وقد أشاد هايدغار بهولدرلين وجعله التجسيد الأعلى للشعر. كما أن الشاعر الألماني الكبير ريلكه كان يعتبر هولدرلين من الكبار ويدعوه بسيدي ومعلمي.
[8] لعل أبرز ممثليها فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». وفوكوياما يعتبر أن آخر مرحلة إنسانية يقف عندها العالم هي مرحلة الرأسمالية والديمقراطية الحالية وسيطرة اقتصاد السوق.  وبسيادة هذه المبادئ يصل التاريخ إلى نهايته. إلا أن هذه النظرية ليست جديدة فقد سبق لهيجل أن أشار إليه عندما اعتقد أن التاريخ قد أنهى تحققه مع الدولة البروسية.
[9] في هذا البحث اعتمدنا الطبعتين التالين لمؤلفات هيجل: 
- Hegel, G.W.F.: Phänomenologie des Geistes, Hauptwerke in 6 Bände, Band 2, Felix Meiner Verlag Hamburg 1999
- Hegel, G.W.F.: Phänomenologie des Geistes, Hauptwerke in 20 Bände, Suhrkamp Taschenbuch, 2015
[10] Hegel, G.W.F.: Wissenschaft der Logik, Hauptwerke in 6 Bände, Band 3+ 4, Felix Meiner Verlag Hamburg 1999
[11]  Hegel, G.W.F.: Enzyklopädie der Philosophischen Wissenschaft; Hauptwerke in 6 Bände, Band 6, Felix Meiner Verlag Hamburg 1999
[12]  Hegel, G.W.F.:  Grundlinien der Philosophie des Rechtes oder Naturrecht und Staatswissenschaft im Grundrisse; Hauptwerke in 6 Bände, Band 5, Felix Meiner Verlag Hamburg 1999