الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
مستقر الشمس «الجزء 5/5»
 سنواصل الاستدلال على ما افترضنا أنّه مستقرّ الشّمس من خلال تحليل الصّياغة اللّغوية التي جاءت بها الآية موضوع البحث وذلك من خلال التّساؤلات التّالية. التّساؤل الأول الذي يمكن أن يُطرح هو، لماذا تجري الشّمس «لمستقرّ» وليس «الى مستقر»؟ يجوز لغة، كما قال ابن عاشور في التّحرير والتّنوير، أن تكون اللاّم في « لمستقر» لام التّعليل أي تجري لأجل أن تستقرّ. وهذا ما تقوله بالضّبط النّسبية العامّة. فالجريان يؤدّي بالشّمس الى الثّبات بالنّسيج الزّمكاني بعد تحوّل طاقتها الحركيّة الى أمواج ثقالة. إنّ الشّمس تجري لأجل أن ينتهي جريانها بالضّرورة الفيزيائيّة فتثبت كما ينتهي سير المسافر إذا بلغ مكانه فيستقرّ فيه. إنّ تنزيل النّهاية منزلة العلّة مستعمل في كلام العرب وتطبيقا لذلك على الآية يكون الثّبات في النّسيج الزمكاني هو علّة الجريان أي أنّ الشّمس تجري لتسكن. فعلّة الجريان هو الاستقرار وغاية الجريان هو الاستقرار أيضا. 
أمّا التّساؤل الثّاني فيتعلّق باللاّم في قوله تعالى «لها». تفيد اللاّم من جملة ما تفيد التّمليك والاختصاص. إنّ المستقرّ (بمعنى اسم زمكان القرار) الذي ستسكن فيه الشّمس متمكّنة فيه من النّسيج الزّمكاني كما بيّنا، سيكون ذا خصائص تتحدّد بكتلتها ذاتها، فهو لأجل ذلك مستقرّ لها تملكه لوحدها وخاصّ بها اذ يستحيل أن يشاركها فيه أيّ جرم آخر. فلكلّ جرم كتلة وطاقة حركيّة هي التي تحدّد مصيره. لذلك يكون من المحتمل جدّا أنّه، ولأجل أنّ موضع الاستقرار مخصّص للشّمس لا غير، قد جاءت عبارة «لها». فاللام في قوله «لها» يؤكّد الاختصاص وهو صفة لمستقر الشّمس كما يقول ابن عاشور في معرض تفسيره للآية بما تحيل اليه اللّغة من معان .
والتّساؤل الثّالث هو: لماذا وصفت حركة الشّمس بالجريان؟ إنّ الاستعمال القرآني لمادّة (جرى) يفيد بأنّ أكثره كان لوصف حركة الماء وقد جاءت في صيغة «جنّات تجري من تحتها الأنهار». نحن نعلم الآن أنّ الماء يندفع بانسيابيّة في المنخفضات بفعل الجذب الثّقالي ونعلم كذلك أنّ الشّمس في فلكها حول مركز المجرة تندفع بانسيابيّة في منخفضات محفورة في النّسيج الزّمكاني في بعد لا قبل لمداركنا تصوّره نتيجة لفعل الجاذبيّة الثّقالية أيضا. إنّ تدفّق المياه في الأنهار وحركة الأجرام في النّسيج الزّمكاني كلاهما يحدث بتأثير سحب الثّقالة لها وهو ما يمكن أن يفسّر استعمال الجري بالنّسبة للشّمس والأجرام السّماوية والماء وهو استعمال لا يمكن أن يكون محض صدفة بل يكشف عن معرفة دقيقة بكيفيّة عمل الجاذبيّة على الأرض وفي السّماء أي عن المصدر المتعالي للقرآن الكريم. التساؤل الرابع يتعلّق بمسألة تنكير المستقر في الآية لقوله مستقرّ وليس المستقرّ، فهل له ما يبرّره على ضوء ما تبيّن من حقائق علميّة؟ من المعلوم أنّ الأغراض البلاغيّة في استخدام التّنكير متعدّدة. ومن بينها هناك التّعظيم أي أنّ الإسم النّكرة هو أعظم من أن يعين ويعرف. وكما رأينا فإنّ مستقرّ الشّمس هو عظيم بكلّ المقاييس. إنّه منخفض ثقالي ساكن بالنّسبة للنّسيج الزّمكاني في بعد لا يعلم طبيعته ولا موضعه بالنّسبة لبقية مكونات الكون ولا أجله الاّ الله. ففيه يستقرّ هذا المخلوق في النّسيج الزّمكاني بعد رحلة تكون قد دامت مليارات السّنين خسر خلالها كلّ ما لديه من طاقة حركيّة تحصل عليها عند ولادته قبل مليارات السّنين. سيثبت في الزّمكان وستنخفض حرارته الى الصّفر ليصبح قزما أسودَ باردا لا حراك فيه. 
وما يثير الدّهشة هو أن يستعمل في الآية لفظ مستقرّ وليس موضعا مثلا أو مكانا أو أيّ كلمة أخرى تفيد محل الثّبات والسّكون. فثبات الشّمس النّهائي في النّسيج الزّمكاني سيكون ملازما لانخفاض حرارتها الى أدني الدّرجات نظرا لطول المدّة المطلوبة لحصول الاستقرار وهذا التّلازم بين السّكون والحرارة المنخفضة لا نجده الاّ في الجذر (قرر) كما بيّنا في الجزء الأول وهو تلازم لا يعلمه الّا من أحاط بكلّ شيء علما. إنّ عظمة الظّاهرة الكونيّة وعلاقة جريانها بمآلها النّهائي لا يمكن أن يخبر عنه فضلا عن أن يصفه الاّ من تتوفّر فيه تلك الصّفات المناسبة للمقام من تقدير وعزّة وعلم وهو الله القدير العزيز العليم.
خاتمة
يبيّن هذا الذي ذهبنا اليه في هذا المقال مثله مثل ما كتبنا في مقال سابق عن «مواقع النّجوم» أنّ الصّياغة القرآنية في وصف الظّاهرة الفلكيّة والاخبار عنها قادرة، حسب اجتهادنا، على استيعاب ما ثبت من حقائق علميّة تتعلّق بالظّاهرة موضوع الآية المعنيّة بالبحث.  لقد التزمنا فقط بما تدلّ عليه الألفاظ من معان أصليّة وما تجيزه الصّياغة اللّغوية والسّياق من دلالة وما ثبت من الحقائق العلميّة لقراءة الآية قراءة على ضوء المعارف الحديثة. إنّ الشّمس تتحرّك مندفعة بسرعة كبيرة أي كان المرجع الذي نعتمده لوصف حركتها، أي أنّها تجري. بل إنّها تجري على «سطح» الزّمكان في بعد آخر «تحفره» بكتلتها ولا قبل لعقلنا على تصوّره. إنّه تمدّد محلّي في النّسيج الزّمكاني تتحرّك فيه نحو أجلها المحتوم. وهذا البعد هو تموّج ثقالي يشبهه العلماء بالتّموجات التي تعتري سطح الماء. ولذلك فهي تسبح «فوق» محيط الزّمكان الكوني ولا غرابة عندها أن بثت أمواجا فذلك حتمي عند السّباحة. ألا نرى بأمّ أعيننا تموّجات فوق سطح الماء منتشرة حول أيّ جسم متحرّك؟  لقد كتبنا فوق بين مزدوجين لأنّ الفوق والتّحت لا ندرك معناهما الاّ في فضاء ذي أبعاد ثلاث أما البعد الرّابع فهو البعد النّاتج عن تمدّد الفضاء وهو بعد لا قبل لمداركنا على تصوّره، أمّا استقرارها في النسيج الزمكاني فهو علة جريانها. كما تجيزه الصّياغة اللّغوية للآية وتفسّره النّسبية العامّة التي تقرّر صدور أمواج ثقالة عن الشّمس تتحوّل بموجبها طاقتها الحركيّة الى تمدّدات وتقلّصات في النّسيج الزّمني حتّى تفقدها بالكامل، فتسكن متمكّنة من النّسيج الزّمكاني أي أنّها تجري لتستقرّ بمعنى تثبت وتسكن وتتمكّن من النّسيج الزّمكاني. وهي عند بلوغها ذلك بعد مليارات السّنين سوف تكون قزما أسودَ لا طاقة حراريّة فيه، أي جسما باردا. وهو ما يحيل اليه الجذر (ق ر) في المستقرّ، كما أنّها ستكون في مستقرّ تكون هي قد حدّدته بكتلها وليس غيرها أي أنّه مستقرّ لها ولها فقط. فالشّمس تجري لمستقرّ لها في الزّمكان وهو ما يجعلنا نقول بما أنّ الصّيغة «مستقرّ» تعني في نفس الوقت اسم مكان واسم زمان القرار فهي بالتّالي «اسم زمكان» الاستقرار بالمعنيين الحركي والحراري. إنّ مصطلح «اسم الزّمكان» نزعم أنّه يطلق لأوّل مرّة وهو بالتّعريف إن جاز لنا ذلك «الحدث الذي ينتظر الشّمس في آخر مراحل وجودها في هذا الكون» كما تخبرنا به المقاربة العلميّة بتوافق مدهش مع الصّياغة القرآنيّة. فالحدث أو الحادث لا يمكن أن يدرك حسّيّا كما تقول النّسبيّة العّامة بل يمكن فقط وصفه رياضيّا أي حسابيّا.
ما بعد الخاتمة 
إنّ الحقائق التي توصّل اليها العلم الحديث حول الكتل الضّخمة كالنّجوم والفضاء وما ينتج عن التّفاعل بينهما في شكل ظاهرة الجاذبيّة يمكن على ضوئها قراءة الآيات التي تقول بأنّ الشّمس والقمر والأرض والنّجوم كلها تسبح في فلك وتجري لأجل مسمّى. يكفي أن نستحضر المعاني الأصليّة للألفاظ المستعملة وما يمكن أن تؤدّيه الصّيغ البلاغية من معان حتّى يحصل الانطباع وكأنّ الآيات تلك تتنزّل علينا الآن. تذكّرني هذه القراءة التي توصّلنا اليها بجواب «لورانس كراوس» صاحب كتاب «كون من لا شيء» عن سؤال يتعلّق بمسألة ما إذا كان العلم يتوافق مع الدّين حيث يقول «إنّ العلم لا يتوافق مع كلّ المذاهب الصّارمة لكلّ أديان العالم الرّئيسة، بما يشمل اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، الى جانب بعض الأديان الصّغرى، مثل المورمونيّة والبوذية. وهناك سبب جيّد لهذا: لقد كتب هذه المذاهب أشخاص لم يعرفوا كيف يسير العالم. وباستثناء المورمونيّة، الحديثة، فقد كتبت كلّ الأديان حين لم نكن نعرف أنّ كوكب الأرض يدور حول الشمس» (ص 246) فماذا عسي «كراوس» أن يقول هو ومن يذهب مذهبه لو علم بأنّ الآيات القرآنيّة قادرة على استيعاب الحقائق العلميّة عند فحصها بما تقتضيه اللّغة وعرضها على ما يقوله العلم الحديث؟ والغريب في جوابه هذا هو كيف يسمح لنفسه أن يشهد شهادة زور (إن صحّ التّعبير) ويقول أنّ محمدا كتب القرآن وهو الذي يدّعي التّمسك بالمنهج العلمي القائم على وضع كلّ شيء موضع تحقّق، فهل تحقّق من زعمه قبل أن يقول موقفا يتناقض مع ما من المفروض أن يلتزم به وهو الأمانة العلميّة!.