في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
العيد ورمزية التغيير
 العيد كفطرة عامة
لا تكاد تجد ثقافة أو أمّة تخلو من الأعياد، ففرح النّاس ببعض أيّام دهرهم تكاد تكون فطرة عامّة عند الجميع. وهو أي العيد إمّا أن يكون في الغالب والأعم رمزا لفخر ومجد أمّة بنصر عسكري، أو بوحدة حيز جغرافي ما، أو بتحرير الإنسان أو الأرض، أو بشكل عام ذكريات تاريخيّة أسهمت في إحداث تحوّلات جذريّة لديها، أو في أحيان قليلة جدّا في الفطرة المعكوسة يكون احتفالا بهزيمة مثل الاحتفال بكربلاء، وإن أتي الاحتفال في شكل بكائيّة تحمل معاني تذكر البلاء الشّديد لأصحاب الحسين رضي الله عنه، أو محاولة البعض للاحتفال بالحملة الفرنسيّة مثلا على مصر واتخاذ ذلك عيدا ثقافيّا باعتبار أنّها هي التي حملت مشعل التّنوير لمصر وينسون أنّه كان احتلالا عسكريّا تمّ العبث فيه بالإنسان المصري وحضارته. 
وتصحيح المفاهيم ليس عملا هيّنا، فلمّا قدم النّبي صلى الله عليه وسلّم المدينة المنوّرة وجد يَوْمَينِ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، قَالَ صلي الله عليه وسلم لأهل المدينة «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكُمْ بِهَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ خَيْرًا مِنْهُمَا، الْفِطْرَ وَالنَّحْرَ»[1]. ومن هنا يبدأ لواء التّغيير وتصحيح المعايير.
رمزية التّغيير في النّقطة المرجعيّة
في الحديث السّابق نجد أنّ التّغيير الجوهري يأتي في تصحيح النّقطة المرجعيّة، فلا فخر يصحّ مطلقا بفخر الآباء والأجداد (وإن كان يصحّ نسبيّا) فالذي أبدل هو الله، وليعلم الجميع أنّ الله عزّ وجلّ يريد الخير والسّعادة والفرح لعباده، بل تغيير النّقطة المرجعيّة تأتي في ربط الفرح والسّعادة الأرضيّة بأصلهما السّماوي، فتصحّح مرجعيّة السّعادة فتكون بعد طاعة لله عزّ وجلّ قدّمها العبد عن نفسه أو الأمّة في شكل جزء منها عن نفسها، لينتهي الفتى عن قوله كان أبي، كان جدي، وليقول ها أنذا وليأتي فرحه بعيده بعد عبادة: فعيد الفطر يأتي بعد عبادة فرديّة جدّا بين الإنسان وربّه وهي الصّيام إلّا أنّها تتمظهر في عنوان جماعي مثل التقاء الأسرة والأسرتين والثلاثة على طعام الإفطار والتقاء أهل الحيّ على صلاة القيام كأعياد صغيرة يوميّة، ثمّ التقاء أهل البلدة كلّهم في صعيد واحد بفرحة كبيرة في صلاة العيد. والعيد الآخر هو عيد الأضحي ويأتي بعد عبادة الأمّة كلّها ممثّلة من كلّ أطرافها بجزء معبّر عنها، تجتمع في مكان واحد وفي زمان واحد، في أنساك متعدّدة كلّها تهتف بالتّوحيد لله عزّ وجلّ. 
تأتي الأعياد في الإسلام لتقضي على فكرة فخر الأمم بمجدها في الحروب واتخاذ ذلك أعيادا، لأنّ في ذلك إعلاء لقيم الصّراع البشري، فقد كان من الممكن أن يحتفل المسلمون بـ «غزوة بدر»، أوّل نصر مؤزّر لهم واتخاذ ذلك عيدا أو بالغزوات الأخرى التي غيّرت مجرى التّاريخ الإنساني، لكن كيف يحتفل جزء من البشريّة بإبادة جزء آخر من البشريّة مهما كانت الأسباب التي دعتهما إلى الاحتراب أصلا، خصوصا وقد لاقي النّبي صلّي الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من المشركين ما لا تستطيع الجبال تحمّله من العنت والإيذاء والتّضييق والتّعذيب بل والحرب، فيأتي النّصر عليهم عيدا، لكن تأتي المعاني العالية من سياق آخر، ففي حديث النّبي صلّى الله عليه وسلم « ... فإذا جبريل في سحابة في السّماء ينادي: يا رسول الله! إنّ الله جلّ وعلا قد سمع ما قاله قومك لك، وهذا ملك الجبال أرسله الله إليك فمره بما شئت، فقال ملك الجبال: يا محمد! مرني بما شئت، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت، فقال النّبي صلي الله عليه وسلم: لا، بل إنّني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحّد الله جلّ وعلا» [2]، في ذلك السّياق أكبر دليل على أن لا تكون الحرب والإبادة هدفا في ذاتها. ويتأكّد هذا المعنى خصوصا في العصر الحديث بعد أن مكّنت التّكنولوجيا الحديثة الإنسان من الفصل البعيد شبه التّام بين القاتل والمقتول أثناء القتال، فلا تثار عاطفة الرّحمة والشّفقة في القاتل تجاه المقتول في أشدّ لحظات البشريّة هولا.
لقد كان الأمريكان يحتفلون بتدمير أحياء كاملة في بغداد «الحضارة والتّاريخ» وهم يرون عناقيد القنابل وأطنان المتفجّرات تضيئ سماء بغداد وتحصد أرواح آلاف البشر من الرّجال والنّساء والأطفال والشّيوخ، والجنود الأمريكان يردّدون مبتهجين بالتّدمير ويقولون «Like christmas»
رمزية التّغيير بالخروج عن المألوف.
تزداد الرّمزية في التّغيير في الخروج عن المألوف، فالصّلوات التي كانت في المسجد كرمز لاجتماع النّاس في عبادة كالصّلاة، تأتي صلاة الجمعة مثلا كعيد أسبوعي ولها آداب وهي تتمّ داخل المسجد أيضا، ولكن بتغيير في الشّكل، فهناك خطبة وركعتين فقط وجهر في قراءة النّهار. لكن في صلاة العيد يأتي الفضاء الحرّ الخالي من الجدران والأسقف ليكون هو مسجد العيد، ليقول للإنسان في رمزيّة واضحة أنت بين الأرض والسّماء ترخي بصرك إلى الأرض تارة فتتذكّر أصلك الذي منه خلقت وهو التّراب الذي تجلس عليه بعيدا عن الفرش الوثيرة، وتحلّق ببصرك إلى السّماء تارة أخرى فتذكر مكان إقامتك الأولى «وطننا الأم» الذي أهبطت منه بمعصيتك وأنّه من الممكن العودة إليه بالمرور من دار الاختبار بسلام. والفرح الحقيقي في العودة إلي أرض الوطن الأمّ وهي «الجنّة». 
في صلاة العيد في الفضاء الحرّ الفسيح معنى جميل وهو أنّ هذا الفضاء في مظهر الرّحمة يتّسع للجميع ومهما امتلأ تشعر وترى أنّ هناك متّسع كبير لأناس آخرين، وكما يقول الرّافعي «وليس العيد إلاّ تعليم الأمّة كيف تتّسع روح الجوار وتمتدُّ، حتّى يرجع البلد العظيم وكأنّه لأهله دار واحدة»[3]. وثمّة معنى آخر لطيف وجميل من كونك في تلك اللّحظات «بين الأرض والسّماء» هو أنّ التّغيير في الأحداث العامّة لن يحدث إلاّ بقدر معقول من الوحدة والارتباط مع أهل الأرض في ظلّ التّسامح والتّراحم الذي أمر به الله ربّ السّماء.
تأتي الصّلاة في العيد أوّلا ثم الخطبة ثانيا على خلاف صلاة الجمعة، ثم يأتي التّخيير في الجلوس للخطبة أو الانصراف، يقول عبد الله بن السّائب رضي الله عنه: «شهدت العيد مع النّبي صلي الله عليه وسلم، فلما قضى الصّلاة قال: إنّا نخطب فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحبّ أن يذهب فليذهب»[4] ، فكأنّ بعض الحكمة من التّغيير هي عدم السآمة والملل كما يقول البعض. لكن أيضا في ممارسة التّغيير المستمر ستستكشف أنماطا جديدة، وهي وإن وجدت في العبادة بتوقيف وفي مساحات قليلة، فكأنّ ذلك إشارة لتغيير حياتك وتطويرها بدون توقيف فلا يحدها إلاّ الإطار القيمي فقط مع حرّية واسعة للتّحرّك بداخله. ولنتذكر «دَعْهُمَا يا أبا بكر فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيد»[5]. ولنتذكّر أيضا أنّ النبي صلي الله عليه وسلم لمّا خرج إلى المصلى يوم العيد لم يصلّ قبل العيد ولا بعده سنّة قبليّة أو بعديّة، فعن ابن عباس «خرج يوم أضحى أو فطر فصلّى ركعتين لم يصلّ قبلهما ولا بعدهما»[6] وذلك على خلاف معظم الصّلوات الأخرى وهذا إعلان بعهد جديد ينطلق من حرّية واسعة بدء من الصّلاة في الهواء الطّلق الخالي من القيود وانتهاء بممارسة تعبديّة فيها قدر كبير من حرّية الممارسة.
المشاركة الجماهيرية في التّغيير
ينبغي في الأحداث العامّة أن يتفاعل كلّ النّاس معها، فلا أحد يحتكر الحقيقة لنفسه مهما علت رتبته في الثّقافة والفكر، وفي لحظات التّغيير العامّة قد تأتيك الفكرة الجبّارة من طفل صغير رأيته يفعل شيئا بفطرته، فألهمك فكرة لم تكن لتمرّ على خاطرك أصلا لولا شهودك لذلك الطّفل، ألم يلهم الغراب ابن آدم في دفن جثّة أخيه في التّراب؟.
ورغبة من النّبي صلى الله عليه وسلّم في أن يشارك الجميع في الفرح والخير والبشر، أمر بإخراج حتّى أولئك النّسوة اللاّئي ليس عليهن صلاة ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، وكأنّه استشراف من النّبي صلّى الله عليه وسلّم لواقع النّساء ومحاولة حجبهن عن المشاركة العامّة، فدعا النّبي صلّى الله عليه وسلّم كلّ النّساء للخروج، الطاهرة منهنّ والحائض، البكر المخدّرة منهن والثّيب، الصّغيرة والكبيرة، من وجدت ثيابا ومن لم تجد فتستعير من غيرها، والغريب أنّ ذلك على خلاف المحبوب من صيانتهن عن مواطن الزّحام والمشقّة حيث كانت صلاة العيد في الخلاء خارج المدينة، فعنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ . قَالَ : لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» [7] ، كل ذلك إعلان لقيم عالية مثل حرّية المشاركة الجماهيريّة في التّغيير وأنّه ليس حكرا على أحد دون أحد وليدلي كلّ إنسان رجلا كان أو امرأة بدلوه وليأخذ بحظّه في هذه العمليّة العظيمة. وإن كان في الخروج وقت الفجر للنّساء والأطفال قدر من المشقّة خصوصا أنّ ذلك كان خارج المدينة لكنّ المشاركة في الأحداث العامّة ينبغي أن يتحمّل من أجلها المشاق، وبعد حفظ الله ورعايته لعباده تأتي تحصيل الأسباب المادّية، فيعلم كلّ إنسان خرج للمشاركة أنّه ساهم في تأمين الآخرين، بل ساهم في التّغيير بنفسه وإنجاح ذلك الحدث الكبير. 
وفي الغسل والتّطيب ولبس الجديد قبل الغدو إلى مصلّى العيد معنى عظيم وهو أن يخرج الإنسان دوما أحسن ما عنده بل ويجتهد في أن يقدّم أفضل شيء يستطيع إنجازه، ويتأكّد هذا المعني في المشاركات العامّة في الأحداث الجسام، فلا يتوقّف المعنى عند تطهير الجوارح بل لابدّ من تعدّيه إلى تطهير القلوب بالتّسامح في أبهي صورة. «فالعيد إنّما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه»[3]. 
المراجع 
[1]  حديث نبوي شريف، من حديث أنس رضي الله عنه عند أحمد وأبو داود وهو في جزء أبي الطاهر.
[2]  حديث نبوي شريف، رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة.
[3] مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، الجزء الأول، «المعنى السياسي في العيد» المكتبة العصرية- بيروت (1/27).
[4]  حديث نبوي شريف، من حديث عبد الله بن السائب، رواه أبو داود وصححه العلامة الألباني في الإرواء برقم  (629).
[5]  حديث نبوي شريف، رواه البخاري من حديث عائشة.
[6]  حديث نبوي شريف، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ.
[7]  حديث نبوي شريف، رواه مسلم في صحيحه، كِتَاب صَلَاةِ الْعِيدَيْن، من حديث أُمِّ عَطِيَّةَ.
[8] مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، المرجع السابق.