فلسطين بوصلتنا

بقلم
محمود جاء بالله
من أطفال الحجارة الى بناة العمارة
 (1) تحية
رحمة لكلّ شهداء فلسطين والرّحمة كلّ الرّحمة لشهداء فلسطين من الأطفال ، تحيّة إكبار وإجلال للصّامدين من أطفال فلسطين في سجون المحتل الغاصب، وتحيّة نضال لكلّ أطفال فلسطين وهم ينحتون مستقبل فلسطين المحرّرة .
(2)  نبذة تاريخيّة : 
 2-1 من هم أطفال الحجارة؟ 
هم علامة بارزة، ولحظة فارقة، وملحمة عاتية، كتبت بأحرف من ذهب لترسم شكلا راقيا من أشكال المقاومة الفلسطينيّة الأبيّة، مقاومة الأطفال الفلسطينيّين لآلة الحرب الإسرائيليّة الغاشمة، كان ذلك خلال الانتفاضة الأولى (شهر نوفمبر 1987)، وهي عملية احتجاج جماعية للأطفال الفلسطينيّين في القرى والمدن الفلسطينيّة تمثّلت في وقوف مجموعات من الأطفال العزّل يصوّبون الحجارة نحو القوّات الإسرائيليّة المدجّجة بالسّلاح . 
الطّفل الفلسطيني لم يرهبه ولم يرعبه العدوّ الغاصب برصاصه الحيّ والمطّاطي، بل تحدّى هذه الآلة بحجارة اقتلعها من أرضه ليقول لسان حاله للعدّو الظّالم: «أنا أقاوم وأرضي تمدّني بزاد المقاومة والأرض كما أنبتت الزّيتون وكلّ الثّمار فهي تنبت حجرا به أقاوم» .
 2-2  الانتفاضة الأولى 
 اندلعت الانتفاضة الأولى  في نوفمبر 1987. شملت الانتفاضة احتجاجا جماعيّا للأطفال الفلسطينييّن  في عدد من المدن والقرى وأطلق عليها اسم «إنتفاضة أطفال الحِجَارَة». وقوف الأطفال العزّل  في وجه آلة القمع الصّهيونيّة وأسلحة موجّهة الى صدورهم العارية ولا يحملون الا حجارة تكاد تقبض عليها أياديهم الصّغيرة، لم تثنهم آلة العدوّ ولم يردّهم تصدّي العدو الغاصب لهم وهو يصوّب نحوهم طلقات موجّهة بعناية لتصيب أماكن حسّاسة من أجسادهم. 
لم يجد الأطفال ما يدفعون به العدوّ ويردّون به هجماته الاّ حجارة اقتلعوها من أرضهم وصوّبوها نحو عتاد وجيش غاصب، المؤلم هو خذلانهم من الحكومات العربيّة وقوى الشّر الدّولية التي عملت جميعها على إخماد الانتفاضة، وكان ذلك سنة 1991 حينها جاءت اتّفاقية «أوسلــو» لتقطّع أوصال المقاومــة وتُخْمِد الانتفاضة الأولى، وفي ظلّهـــا دفـــن الفلسطينيّـــون ما يزيـــد عن 1300 شهيدا باْذن الله تعالـــى وعدد لا يستهان به من الجرحى ولكن ظلّ اللّهيـــب تحت الرّمــاد وظلّت الأيادي على الحجـــارة، وظلّت قلوب الأطفــــال  البريئة تخفق باسم فلسطين وتبشّر بالعودة والانتفاضة من جديد . 
2-3 الانتفاضة الثانية 
لم تمر سنوات عديدة على توقّف الانتفاضة الأولى حتّى اندلعت الانتفاضة الثّانيـــة وسمّيت بانتفاضة الأقصى وكان ذلك في 28 سبتمبر 2000 وذلك عقب اقتحام السّفّاح «أرييل شارون» رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك باحة المسجد الأقصى ممّا دفـــع المصلّين إلى التّصدي له فاندلعت شرارة الانتفاضة الثّانية. 
بدأت  أيادي المقاومــة تجمع الحجــارة ليسقطوهــا على رؤوس الجنــود الصّهاينـــة، وعمّ الغضب كلّ أرجاء فلسطين وتحرّكت الشّعوب العربيّـــة وكـــلّ القــوى المحبّـــة للسّـــلام في العالـــم للمطالبة بتحرير فلسطين وحرّية شعبها وحماية أطفالهـــا. استشهد خلال هذه الانتفاضة ما يزيد عن 4412 شهيدا معظمهم من الأطفـــال والنّســـاء وجـــرح ما يقـــارب 48500 وعرف حينها قطاع غزّة والضّفة الغربيّة هجمة صهيونيّة كبيــرة وعمليّـــات اجتيـــاح متكـــرّرة، ولم يحترم الكيان الغاصب أيّ معاهدة ولا أيّ قرار دولي وسُجّل تواطؤ مخزٍ من بعض الدّول العربية، وكان أن وُلِد من رحم هذه الانتفاضة المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة بصواريخ محلّيــة ، ومن جعل من الحجــارة سلاحـــا ما كان ليعجزه أن يلين له الحديد ويصنع منه سلاحا لرجم العدو . 
(3) المقاومة من الحجارة الى الصواريخ الراجمة
توقفت الانتفاضة الثّانية سنة 2005 وبعد ثلاث سنوات (2008) انطلقت عمليّة «الرّصاص المصبوب» وهي عدوان صهيونيّ همجيّ على قطاع غزّة راح ضحيّته 1450 فلسطينيّا على الأقل ( 926 مدنيّا، 412 طفلا و111 امرأة ) وجرح ما يزيد على 4350 شخصا معظمهم من الأطفال والنّساء.
كان هدف الاحتلال هو القضاء على المقاومة وعلى صواريخها قصيرة المدى  (75 كلم كحد أقصى)،  ولكن كلّ هذا لم يزد المقاومة الاّ إصرارا على تطوير مدى الصّواريخ الى أن بلغ مداها 175 كلم في حرب 2012 على غزّة وتحقّق ما لم يكن في حسبان العدوّ أن تتحول المقاومة من الحجارة الى الصّورايخ الرّاجمة وأيقن الجميع أنّ أطفال الحجــارة وإن توقّفت أياديهم عن رمي العدوّ بالحجارة، فإنّ العقول ظلّت تشتغل لصناعـــة صواريــخ  لترجم العــدو. وبينما كــان القريب يصف المقاومــة وصواريخها بالعمل العبثي كان غيره يصـــرّح قائلا « أنّ المقاومة الفلسطينيّة تمكّنت من إحداث تغيير استراتيجي في الصّراع وتوازن في الرّعب والرّدع  مع الاحتلال  وأنّها أحدثت تغييرات استراتيجيّة في المنطقة بأسرها والقضيّة  الفلسطينيّة برمّتها». 
الصّواريخ تغيّر الوضع على أرض المعركة، فالأيادي التي رمت العدوّ بالحجارة على بعد أمتار في مواجهة جنود مدجّجين  بالسّلاح، ما كان ليعجزهم رمي صواريخ عن بعد أميال عديدة وصلت الى تلّ أبيب والى حيفا. ومازالت المقاومة تخبّئ المزيد وتصنع صواريخ أطول مدى لترعب العدوّ وبذلك تسفه المقاومة أحلام من تخندقوا مع العدوّ لتصفية  قضيّة شعب مضطهد وأرضه محتلّة. 
 وإن كان العدوّ ومن يقف معه احتفلوا بمرور مائة سنة على «وعد بلفور» وهم يمنّون النّفس بتصفية نهائيّة لقضية فلسطين، فإنّنا احتفلنا بمرور ثلاثين سنة على انطلاق شرارة انتفاضة أطفال الحجارة ولسان الحال يقول أنّ القضيّة التي تحملها قلوب الأطفال البريئة  لن تموت. 
أهل غزّة لم يثنهم الحصار الخانق من العدوّ والشّقيق عن حفر أنفاق تفكّ عزلتهم. الأرض التي ارتوت بدماء الشّهداء ما كانت لتضيق على أهل غزّة ونسي العدو ومن طبّع معه أنّ حصار الأجساد لا يعني محاصرة العقول والقلوب.
(4) المقاومة ترسم طريق العودة  الكبرى 
المقاومة الفلسطينية في تصاعد والسّير مستمر، الخطوات الأولى خطّها أطفال الحجارة ليكسّروا حاجز الخوف ويتصدّوا لجيش طالما قالــوا عنه أنّه لا يقهر ولقد رأينا جنـــودا تبكي من الخـــوف، وما كان غدرهــم وقتلهـــم لأطفال فلسطـيـــن ليوقف مسيرة أطفـــال فلسطين، ومقتــل «محمد الــدرّة» سنة 2000 خيــر دليــل، فقد جاءت «عهد التميمي» المولــودة سنـــة 2001 لتأخذ المشعـــل عن «محمد الدرّة» (طفل يموت وطفلة تحيا).
«عهد التميمي» مولودة في رام الله والدّرة مولود في قطاع غزّة وكأنّ القدر يمدّ جسر التّواصل بين كلّ شبر في فلسطين وكأنّ كلّ القلوب اجتمعت لتنبض بحبّ فلسطين. «عهد التميمي تحدّت العدوّ وهي يافعة (16 سنة) ووقفت بكلّ جرأة لتصفع جنديين مسلّحين وبذلك تعلن أنّ الأيادي التي حملت الحجارة وصنعت الصّواريخ قادرة على صفع العدوّ دون خوف أو تردّد. 
«عهد التميمي» تقول للعدوّ ولكلّ من طبع معهم: «أنتم وطّنكم في أرضنا وعد بلفور،وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وانا قطعت على نفسي عهدا أنّنا قرّرنا العودة مهما يكن» . 
انطلقت مسيرة العودة الكبرى في ذكرى يوم الأرض 30 مارس 2018 لتستمرّ الى تاريخ ذكرى النّكبة 11 ماي، وبإذن الله ستتواصل دون توقّف. جاءت هذه المسيرة بمشاركة كلّ الفصائل الفلسطينيّة في التحام مع القوى الشّعبية لإقرار مبدأ العودة وتطبيق الفقرة رقم 11 من القرار الأممي 194.
جاءت مسيرة العودة الكبرى لتنبّئ العالم أنّ جيل أطفال الحجارة قد كبر وبدأ يخطّط للعودة. مسيرة لم يثنها عدوان جيش الكيان الغاصب ولن تزيدها دماء الشّهداء إلاّ إصرارا على مواصلة السير في درب العودة .
(5) من أطفال الحجارة الى بناة العمارة 
إنّ مسيرة بدأها أطفال حملوا بأياديهم الحجارة وفي قلوبهم حبّ فلسطين وأحلام العودة الى الدّيار، ما كانت لتتوقّف بالرّغم من خذلان القريب والشّقيق والمطبّع مع العدو. مسيرة خطّها أطفال بحجارة رجمت العدوّ وسفهت حلم من تخلّى عن القضيّة وكذّبت من ادّعى زيفا مناصرة القضيّة وفوّتت الفرصة عمن أراد تصفيتها. مسيرة كانت لها أكثر من محطة ، طفل استشهد وهو قابض على الحجارة لم تفارقه حتى عند دفنه ليقول للجميع « الشّهيد ترك وصية، لا تخلٍّ عن القضية»، مرورا باغتيال «محمد الدرّة» ليقول للجميع ولأطفال فلسطين « اصبروا آل فلسطين فالعودة آتية ولو بعد حين»، الى «عهد التميمي» وهي تصفع جنود العدو لتقول للعدو وللجميع « لن ترهبونا، لن نخافكم، نحن أطفال فلسطين، نحن شعب الجبارين» وصولا الى مسيرة العودة لتقول الحشود للعالم كلّه « سنعود لنفتح الأبواب  الموصدة على أرض فلسطين ونخرجكم أيّها الصّهاينة منها صاغرين». 
الجميع يصيح «نحن أطفال الحجارة، نحن بناة العمارة». سندخل فلسطين، كلّ فلسطين، لنعمّر الدّور ونزرع الأرض وننشر البذور لتزهر أرضنا، فقد ارتوت بدماء الشّهداء. 
نحن أردنا حياة كريمة على أرضنا ولن يخذلنا القدر.  
« إذا الشعب يوما أراد الحيـــــــــــــاة      فلابد أن يستجيب القـــــــــــدر»