وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
أمانة الإستخلاف، غاية خلق الإنسان
 كثيرا ما تتكرّر في القرآن الكريم قصّة خلق الإنسان بأنماط سرديّة مختلفة، تارة يتحدّث عن نوعيّة المادّة التي خلق منها وتارة أخرى يحدّثنا عن حدث إستكبار الشّيطان ورفضه السّجود لآدم بتعلّة أنّ مادة الخلق الخاصّة به –النّار- أرفع قدرا من مادّة خلق آدم –الطّين- وكثيرا ما تختتم هذه المحاورة بين قطبي الخير والشّر –الله والشّيطان- بطرد الأخير من رحمة الله لتكبّره وتعنّته جهلا وإعراضا منه.
استخلاف آدم الرّمزي لله في الأرض جعلت من الملائكة كائنات حائرة تراوح بين طاعة الله المجبولة عليها أصلا وبين تساؤلات مفادها الشّك في أحقيّته بالاستخلاف رغم كونه يفسد في الأرض ويسفك الدّماء. إلاّ أنّ الله بواسع حكمته أعطى لآدم هبة المعرفة التي تجعل منه قادرا على تحمّل أمانة الإستخلاف « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (1)
ومن عدله تعالى أنّه عرض هذه الأمانة على كلّ الموجودات فلم يقبلها إلاّ الإنسان، وظلم نفسه بقبولها لأنّها ليست مهمّة سهلة.  فالاجتهاد في النّظر والجهاد في العمل فيهما (التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر بعبارة النّص القرآني في سورة العصر) هما شرطا الأهليّة لأنّ المطلوب من الإنسان فيها ليس واجب النّتيجة في حدّ ذاتها بل واجب الوسيلة –فقط- بالمعنى القانوني للكلمتين بشرط الصّدق فيهما أي الإخلاص.(2)
أجمعت كلّ قصص خلق الإنسان في جزئها الأول الخاصّ بحيرة الملائكة أنّه كائن لا يرجى منه خير ولا يمكن له بناء حضارة إنسانيّة بسبب إفساده في الأرض وسفكه للدّم. ولهذا كلّما ذكر القرآن الإنسان إلاّ وأردف له أوصاف الظّلم والجهل، الخسران المبين، الطّغيان، ... أمّا حين يذكر القرآن بني آدم نجد أنّه يرفق لهم أوصاف التّكريم والتّفضيل لهم في الأرض على سائر المخلوقات بما فيها السّماوات والجبال (3) .
ولعلّ الإختلاف بين الإنسان وبني آدم هو العلم المساهم في بناء الحضارة الإنسانيّة لتكون حضارة كونيّة تساهم في تحقيق الرّسالة الجوهريّة في الأرض لكلّ فرد ألا وهي رسالة الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. فحين علّم الله آدم «الأسماء كلّها» أصبح آدم عالما بالأمور التي تخوّله بناء الحضارة الإنسانيّة. فالعلم إذن هو المعيار الفاصل بين التّكريم والذمّ وبين التّشريف والتّقزيم وبين أحقّية تكليفه والظّلم المعرقل للإنتاج الفكري والعلمي.
لذلك نجد أنّ معيار الظّلم قد يخلّف نتائج كارثيّة على الآفاق  والأنفس فيظهر الفساد في الأرض؛ برّا وبحرا وهي نتيجة طبيعية لظاهرة الفساد تمثّل سنّة من سنن الله في الأرض (4) والفساد ظاهرة اجتماعيّة تعبّر عن حالة من الانحطاط القيمي والإنحلال الأخلاقي التي تجعل الفرد يفعل المحظور دون مراعاة للمثل العليا المؤطّرة للمجتمع، ولذلك أرسل الله رسلا وأنبياء يدعون النّاس لعبادة الله ولتكريس القيم المثلى في المعاملات.
من المعلوم أنّ الإنسان خُلق للعبادة بصفة عامّة، والعبادة تتمحور حول معرفة الله، ولا يمكن للإنسان الجهول أن يعرف الله إلاّ في صورة انتقال صفته الإنسانيّة (بما هي جهل وظلم) إلى صفته الآدميّة (بما هي تكريم بالعلم رفعة الشّأن) فتقتضي معرفة الله أن يطّلع كلّ فرد في خبايا نفسه حتّى يتمكّن من ملامسة جوهره الصّافي المدفون فيه (الموهبة) فيكرّس حياته كلّها في سبيل تطويرها والإفادة منها، فهي تمثّل  جوهر رسالته الآدميّة. 
قد يكون من الطّبيعي ذمّ الانسان لجهله وتكريم آدم لعلمه إلاّ أنّ صفة الظّلم تمثّل المعيار الذي يحدّد من خلاله كيفيّة استغلال العلم بما يمكّن الآدمي من الانتفاع به أو يمكّن الإنسان من ظلم نفسه حتّى يصبح العلم أداة تخريب وعنصر هدم في الحضارة الإنسانيّة. والواضح أنّ الظّلم يعد المعيار الثّاني الذي يحقّق استخلاف الآدمي لله في الأرض مستثمرا ما رزقه وما قدر له من الأقوات في الأمور التي تحقّق نهضته وأعمار الأرض.
 وما يجب الإشارة إليه أنّ قصّة الخلق كثيرا ما تقترن بالمحاورة بين الخير (الله سبحانه وتعالى) والشّر (الشّيطان الرّجيم) ومن خلالها نكتشف أنّ أول معصية تتمثّل في التكبّر وتضخيم حبّ الذّات والأنا في نفسيّة الشّيطان واقتصار مقارنته بينه وبين الإنسان على المادّة التي خلق منها؛ فالشّيطان مخلوق من نار بينما الإنسان قد خلق من طين. وهذا التّكبّر وقلّة العلم جعل من الشّيطان مطرودا من الرّحمة.
فالإنسان كونه مستعمرا في الأرض يهدف إلى علاج العلاقة الطّبيعة وعلاقة التّاريخ لسدّ حاجاته العضويّة والرّوحية وتلك هي آيات الآفاق والأنفس (5) وهي العلم بقوانين الطّبيعة الرّياضيّة وبسنن التّاريخ السياسيّة  وذلك هو لسان التّواصل الكوني الذي يتواصل مع الإنسان،  فكونه أهلا للاستخلاف مشروط بكونه أوّلا مجهّزا للاستعمار في الأرض وحرّ في أن يحقّق شروط الأهليّة للاستخلاف أو أن يرفضها فيتحمّل مسؤوليّة هذا الرّفض لكأنّه سقط في امتحان الحرّية.(6)
فالحرّية الحقيقيّة إذن، هي حرّية الاختيار الموجودة في هذا العالم والتي كرّسها الإسلام كجوهر للدّين في كل الأديان (حرّية روحية، حرّية أن تختار المعبود الذي ترضاه نفسك لعبادته دون قيد أو شرط- وسياسيّة –أن تختار من يخدم دولتك دون وصاية أو حقّ إلهي). تلك الحرّية هي أمانة الإستخلاف التي تعتبر غاية خلق الانسان الكفور دون علم بشروطها ومقوماتها الرّوحية والمادّية.   
فعبادة الله تقترن أساسا بعمارة الأرض واستخراج ثرواتها بقيم الاستخلاف الكوني الذي يجعلك ترتقي من مقام الحيوانيّة « حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت» (7)  إلى مقام الإنسانيّة والتّخلص من الأنا الطّاغية في المجتمع الإنساني. فجوهر «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (8) هو استعمار الأرض ومن هنا يمكن أن نفهم مقولة «حياة المؤمن عبادة». 
فالطاقة التي يستعملها الانسان في قيامه بأيّ فعل لا بدّ لها أن تتحوّل في نهاية المطاف إلى كتلة توزن في ميزان العدالة الإلهيّة، تلك المعادلة الحسابيّة لا يستطيع أحد فكّ شيفرتها إلاّ في صورة وجود معادلة فيزيائيّة تجمع بين قوّة الطاقة والكتلة (m= E/c²) حيث أنّ الكتلة تساوي (E=mc² ) ولعلّ في نسبية أنشتاين حلّا لتلك المعادلة. 
وهو ما يجعل كتلة الطّاقة في كلّ فعل تساوي لـ 0،000.. إذ أنّ كلّ فعل ستكون كتلته صغيرة وبذلك نفهم علاقة قلّة عبادة الإنسان لله مقارنة بالملائكة وسائر المخلوقات الموجودة في الكون. وتبقى كلّ الأعمال مقيّدة بتوفّر شرط النّية التي من خلالها يكون العمل إمّا خالصا لله وحده فتكون طاقته مضاعفة وإمّا مشوبا برياء فيكون الفعل معلولا.
الهوامش
(1) سورة الأحزاب - الآية 72
(2) أبو يعرب المرزوقي، إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
(3) الإسراء 70
(4) الروم 41
(5) فصلت 53
(6) أبو يعرب المرزوقي،  نفس المصدر السابق
(7) مثل شعبي تونسي
(8) سورة الذاريات - الآية 56