قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
مجتمع مدني فاعل
 (1)
للمجتمع المدني دور طلائعي في تنظيم المواطنين في أطر تجعلهم أكثر فاعليّة، وقد بيّنا في مقال سابق بأنّ هذا المجتمع المدني زمن الحرّية غيره زمن ما قبل الثّورة، ذلك لأنّ الدّولة سعت دائما للهيمنة على هذا المجتمع وتوجيهه الوجهة التي تريد لتجعل منه أداة من أدواتها في بسط النّفوذ على المجتمع، ولكنّ الثّورة أحدثت تغييرا كبيرا داخل هذا المجتمع ليعرف طفرة في الحجم والدّور غير أنّ ذلك لا يعني أنّ هذا المجتمع قد استقرّ أو أصبحت له الفاعليّة اللاّزمة.
إنّ التّطور الذي عرفه المجتمع المدني من حيث العدد الهائل للجمعيّات النّاشطة أو من حيث تعدّد مجالات النّشاط لا يعني أنّ هذا المجتمع كان فاعلا، إذ أنّه وباستثناء النّقابات وبعض الجمعيّات الحقوقيّة أو الثّقافية وبعض الأحزاب، فإنّ حركة هذا المجتمع لم تكن ذات فاعليّة محسوسة بحيث يدرك أيّ ملاحظ أثرها في المجتمع.
(2)
الثّورة فعل هدم وبناء وهي مشروع تغيير نحو الأفضل ومن ثمّ فإنّ حركة المجتمع المدني يجب أن تكون حركة فاعلة في اتجاه تحقيق أهداف الثّورة. غير أنّنا نلاحظ في الآونة الأخيرة أنّ انحسار الثّورة وذبول إشعاعها قد كان له تأثير في نشاط المجتمع المدني.
سمّيت الثّورة في تونس بثورة الحرّية والكرامة ولذلك كان من المفترض أن يكون للمجتمع مجال خصب للتّعبير عن الحرّية المكتسبة من خلال الانتقال من المطالبة بالحرّية إلى ممارسة هذه الحرّية ممارسة فاعلة على أوسع نطاق ممكن، غير أنّ ارتباط المجتمع بالدّولة نتيجة حقبة طويلة من الاستبداد كان له الأثر العميق في استحكام عقليّة التّواكل عند النّاس وركونها إلى مطالبة الدّولة بإحداث التّغيير المنشود والانتقال بالمجتمع من مجتمع متخلّف في مجالات عدّة إلى مجتمع متطوّر دون السّعي إلى معاضدة مجهود الدّولة في هذا المجال.
(3)
جعلت «ثورة الكرامـــة» من التّشغيل أحد أبرز الوسائل في تحقيق هذه الكرامة كما جعلت منه أهمّ مطلب من مطالبها، ولئن عدّ هذا المطلب مشروعـــا وكان بحقّ أحد العناوين البارزة للثّورة أمام العدد الهائـــل من العاطلين عن العمــل، فإنّ سبل تحقيق هذا الهدف النّبيــل كان أحد الأسباب التي كادت تصيب الثّـــورة في مقتل .
إنّ الاعتقاد السّائد لدى الغالبيّة العظمى من المواطنين كان ومازال يعتبر الدّولة المسؤولة الوحيدة عن التّشغيل وأن الثّورة ستفشل فشلا ذريعا وينحسر مؤيّدوها إذا لم يتحقّق الشّغل لكلّ المحرومين منه. ولم يترك النّاس للثّورة فرصة التقاط الأنفاس إذ تمّ إغراقها بالمطلبيّة منذ الأيام الأولي وكأن لهذه الثّورة عصى موسى عليه السّلام. 
وأمام فشل الدّولة في الاستجابة لهذه المطلبيّة المشطّة وعجزها عن تحقيق مطلب أساسي من مطالب الثّورة بات من الضّروري طرح السّؤال المؤجّل : هل للمجتمع المدني دور في تحقيق أهمّ هدف من أهداف الثّورة وهو التّشغيل؟
(4)
تطوّر دور الدّولة من كفالة المجتمع ورعايته بالكلّية إلى دور التّخطيط والرّقابة وتوفير البنية التّحتية ومن ثمّ فقد أصبح للقطاع الخاصّ مجـــال واسع للمساهمـــة في التنمية والاقتصاد، ولذلك وبدل الاكتفاء بمطالبة الدّولة بتشغيل أبناء المواطنين العاطلين، أصبح من واجب المجتمع المدني أن يلتفت هو أيضا إلى هذه المعضلة التي تهدّد المجتمع بالانفجار والمساهمة الفاعلة في حلّها. 
إنّ تعدّد الجمعيّات داخل المجتمع يعني في ما يعنيه حاجة ملحّة لوجودها استجابة لهدف ما يرجى تحقيقه ومن ثمّ فإنّها تحتاج في أدائها لعملها إلى موارد بشريّة تنسجم مع طبيعة دورها من حيث التّكوين أو من حيث النّشاط المنوط بها ولذلك فإنّها ستلعب دور المشغّل لآلاف العاطلين عن العمل مادام لهذه الجمعيّات فاعليّة حقيقيّة ومادام عملها جدّيا ينطوي على حرفيّة ويقوم عليه أناس يتّصفون بحسّ مواطنيّ ينأى بهم عن التّواكل أو الاستعراض.
ولا يقتصر الأمر على الجمعيات الصّغرى والمتوسطة والتي يمكن أن تتعدّد مجالات تدخّلها لتشمل نواح عدّة من الثّقافة إلى التّعليم والبيئة والصحة وغير ذلك، ولكن أيضا تلك التي تهتمّ بالعمل والإنتاج دون غيرهما من مثل الجمعيّات التّنموية أو تلك التي تهتمّ بالمشاريع الصّغرى أو جمعيّات تحصيل الزّكاة أو الشّركات الأهليّة الصّغرى والمتوسّطة وكلّها آليات من إبداع المجتمع المدني بإمكانها المساهمة في التّشغيل المباشـــر أو عن طريق المساعدة في البحث عن فرص العمل الفرديّة والجماعيّة.
(5)
نحن على أبواب انتخابات بلديّة والكل يطمح أن تكون انتخابات مفصليّة وأن يكون لها تأثير ايجابي في نسق التّنمية داخل الجهات، غير أنّ العمل البلدي يظلّ عملا متّصلا بالدّولة من حيث الموارد البشريّة والمادّية أو من حيث الإشراف، ومن ثمّ ودون التّقليل من أهمّية البلديّة كمؤسّسة مدنيّة في خدمة المواطن، فإنّ بالإمكان التّفكير في تفعيل دور المجتمع المدني في العمل على النّطاق المحلّي من أجل أن يكون أكثر فاعليّة في النهوض بهذا المجتمع من جميع النواحي. إنّ تنمية المجتمعات المحلّية لا تتمّ فقط بالمشاريع التي تتولاّها البلديّات ولكنّها تكون أكثر جدوى إذا تمّت بواسطة هذه المجتمعات نفسها وللخدمة الاجتماعيّة مقاربة علميّة فاعلة فى هذا المجال وهي طريقة خدمة المجتمع.
طريقة خدمة المجتمع طريقة من طرق الخدمة الاجتماعيّة يستطيع المجتمع المحلّي من خلالها أن يرصد بنفسه جميع مشكلاته ثمّ يقوم بتبويبها حسب الأولوية وحسب الإمكانيّات المتاحة لتوفير الحلول ثمّ يقوم بتجميع موارده البشريّة والمادّية التي يمكن توظيفها في حلّ المشكلات ثمّ يتولى إعداد خطّة عمل لمواجهة كلّ مشكلة مستنفرا جميع طاقاته البشريّة والمادّية. 
ولأنّ طريقة خدمة المجتمع طريقة مهنيّة، فإنّ للأخصائيّين الاجتماعيّين دور محوريّ في تنزيلها في الواقع ولكن دورهم ينحصر أساسا في مساعدة المجتمع المحلّي على التّنظم الدّيموقراطي وإفراز قيادات محلّية فاعلة ومساعدة هذا المجتمع في رصد موارده وحسن توظيفها، ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ المجتمع المحلّي لا يستطيع النّهوض بأعباء التّنمية المحلّية وحده ولا بدّ له من الاستعانة بالموارد التي يمكن أن تتيحها له الدّولة أو الجماعات العموميّة أو المجتمع المدني، غير أنّ هذا سيكون بقدر الحاجة وبطرق أكثر جدوى من الناحيتين الزّمنيّة أو المادّية.
(6)
المجتمع المدني ليس مجتمعا للاستعراض أو للاهتمام بقضايا دون أخرى ولكنّه التّعبير الصّادق عن روح المجتمع الحقيقية وعن طموحه المادّي والرّمزي . ومتى ما أتيح للنّاس مجال للعمل التّطوعي النّافع كان لهم إسهامهم المحسوس كلّ في مجاله ولذلك بالإمكان التّساؤل عمّا إذا كانت أزمة المجتمع المدني هي نفسها أزمة المجتمع الذي يتواكل ويتّكل كلّيا على الدّولة؟ و هل بالفعل مازال هذا المجتمع يتلمّس خطاه أم أنّه أخطأ الطّريق.