وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
القرآن، مرجعية الأمة لاستئناف دورها الحضاري
 لو نظرنا في القرآن لوجدنا فيه السّنن الكونيّة التي تعدّ المبادئ العلميّة وأهمّها الرّياضيات وعلوم الأحياء والعلوم الطّبيعية -أعني بذلك الإنسانية – وأهمّها التّاريخ والعلوم السّياسية التي تتحكّم في سير النّظام الكوني بصفة عامّة. وبذلك فالقرآن الكريم يضمّ علوما متنوّعة. ولكن أليس من البدعة أن نصف القرآن الكريم بأنّه مجمع علميّ؟، فالثّابت أنّ العلم يملك تاريخا، فيه بداية ثمّ تطوّر كأصناف العلوم المختلفة. 
حين نقول بأنّ القرآن علم فإنّنا ضمنيّا قد أقررنا أنّ للقرآن بداية وعندها نخوض في ما خاضه المعتزلة ومختلف الفرق التي قالت أنّ القرآن مخلوق من مخلوقات الله وتلك الجدليّة التي أوقعت المعتصم وأصحابه في الخوض في أمور غيبيّة نهى القرآن الكريم عن الخوض فيها أصلا وذلك مخافة الوقوع في الفتنة إثر تأويل المتشابه فيه وهو ما نصّ عليه القرآن الكريم في قول الله عزّ وجلّ: « هوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ» (1) 
استنادا لهذا المبدأ القرآني، فإنّ الخوض في أمور الغيب يجرّنا إلى نفي العقل المجرّد نتيجة محدوديته في توصيف الأمور وبدلا عنه نقتفي أثر النّقل (قرآن وسنّة) في تحديد الأمور الغيبيّة كالجنّة والنّار. أمّا ما سكت عنه فلا يمكن الخوض فيه لعدم قدرة العقل وصف المحجوب عنه. ما يستنتج إذا أنّ القرآن موضع علم لا علم بحدّ ذاته، ولو كان كذلك فما حاجة الله للعبادة؟ بمعنى الجهد والاجتهاد الانساني لتعمير الأرض بقيم الاستخلاف.
 لقد نهى القرآن عن الخوض في المسائل الغيبيّة، لكنّه أكّد وحثّ على البحث العلمي في جميع الاختصاصات علميّة وطبيعيّة وبعبارة النّص القرآني «الآفاق والأنفس» وذلك بمقتضى قوله تعالى « سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(2). وقد أشاد الدّين الإسلامي بدور العلماء في نهضة الأمّة وفتح الطريق أمامها لتستأنف دورها الحضاري وذلك من خلال أبحاثهم وأفكارهم التي تنير درب العامّة.
إنّ القرآن معجز، لا في إعجازه البلاغي أو العلمي أو التشريعي فقط، بل بكونه تذكيرا للإنسانيّة بمقومات كيانها الطّبيعي والتّاريخي أو المادي والرّوحي. فهو يعتبر الإنسان مسؤولا كفرد وحرّا من الوسيط (علاقة مباشرة بربك) ومن كلّ وصي (علاقة مباشرة بأمرك) وهي ثورة الإسلام الرّوحية ابتداء والسّياسية انتهاء. كما يذهب إلى حدّ اعتبارك حرّا في أن تؤمن به أو تكفر. وهذا كلّه يندرج ضمن سياق الأمانة المعروضة على الإنسان. (3) 
لو كانت وظيفة القرآن، أن يغني الإنسان عن الاجتهاد لاكتشاف شروط الاستعمار في الأرض (بتوفر شرطيّ العلم بقوانين الطّبيعة وسنن التاريخ) بقيم الاستخلاف فيها (بتوفّر شرطي أخلاق التّعامل مع الطّبيعة والتّاريخ والجانب الرّوحي المتمثل في العبادات) والجهاد لتحقيقها لكان ذلك يعني أنّ التّكليف بات أمرا لا معنى له، إذ يكفي أن يحفظ الإنسان القرآن حتّى يكون قد أدى الأمانة ولا معنى لحسابه عن اجتهاده وجهاده وهذا لا يقرّ به إلاّ جاهل بحكمة الله في خلق الإنسان.
وهنا بالذات يظهرالبون الشّاسع بين مفهومين أساسييّن بين ما يسمّى بالديّاني (الذي يتمسّك حرفيّا بالنّص القرآني دون جهد في تفسيره) وما يسمّى بالائتماني (الذي ينظر في الأحكام الفقهيّة المنصوص عليها في القرآن فيشرّع بدوره أحكاما توصل إلى تحقيق نفس الهدف المنشود من الآيات)(4) وبذلك نسعى لفهم مقاصد القرآن الكريم باعتباره تشريعا لتشريع الإنسان لقوانينه وليس تشريعا لقوانين الإنسان والفرق بيّن(5) ونعني بتشريع القرآن لتشريع الإنسان، أنّ القرآن حدّد الخطوط العريضة التي لا يمكن لأحد تجاوزها، كما أنّه حدّد مفهوم الحقوق والحرّيات التي هي من فطرة الإنسان وطبيعته الجوهريّة. إلاّ أنّه لم يشرّع كلّ وضعية على حده وأوكل ذلك الأمر إلى الإنسان. فمن يقول مثلا «إن القرآن دستور للدولة» فكلامه مردود عليه، ذلك أنّ النّبي محمد عليه الصّلاة والسّلام قد كتب دستورا –وضعيّا- حين اتّخذ من المدينة دولة له.
إنّ مضمون الّرسالة الخاتمة (القرآن الكريم) هي استراتيجيّة تحقيق الأخوّة الإنسانيّة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» (6) بمعيار وحيد هو المساواة أمام القانون ولا تمييز بين العباد عند الله  إلاّ بالتّقوى « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (7)
والتّقوى هي القانون الذي ينظّم العلاقات الاجتماعيّة، فيحرّم ارتكاب المحظورات التي تشكّل تهديدا لسلامة المجتمع ولأمنه العام ويحثّ على مكارم الأخلاق والتقيّد بها حتّى ينتقل المجتمع من الحيوانيّة (قانون الغاب) إلى البشريّة (المدينة الفاضلة التي دعى لها جميع الفلاسفة) وكلّما كان الإنسان يجتهد في تزكية نفسه واتّباع المسموح (الفطرة) واجتناب المحظور (النّكوص إلى الحيوانيّة) فقد اهتدى إلى سواء الصّراط.
ما  يشير إليه القرآن في آياته، إذن، هو الموقف العلمي من المسائل العلميّة التي هي قيد البحث والموقف الفلسفي من المسائل الفلسفيّة في حدود المحكم من الكتاب لتجنّب الخوض في الغيب بغير علم. ومحاولة النّظر في الآيات باستعمال منهجيّة الشكّ الغزاليّة (الشكّ المؤدّي لليقين بالمعارف الدّينية) وبذلك تكون وظيفة القرآن جعل الإنسان يصل إلى المضمون العلمي فيتحرّر من الزّيغ الفكري وذلك لا يكون إلاّ باستعمال النّقل والعقل معا.
لا خلاف أنّنا نؤمن بأنّ المرجعيّة صالحة لكلّ زمان ومكان، إلاّ أنّ التكلّس في تفسير النّص الدّيني (تفسيرا لغويّا فقط) أو حتىّ التّفلسف في تفسيره وتأويل آياته عن جهل بالغيب لهو من الموبقات الفكريّة التي تجعل الأمّة الإسلاميّة قابعة في أدنى المراتب في العصر الحديث، فلا أمّة ترقى إلى سلم الحضارة دون رقيّ فكري. فإهمال إنتاج الفكر يعدّ من الأسباب الرّئيسية في تأخّرنا الثّقافي والقيمي. فمن ذا الذي ينفض غبار المعرفة بالحدود المنصوص عليها في الآية 7 من آل عمران نهيا والآية 53 من فصّلت أمرا ؟  
الهوامش
[1] سورة آل عمران - الآية 7
[2] سورة فصلت - الآية 53
[3] راجع مقال إعادة البناء لشروط لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف لأبي يعرب المرزوقي -الموقع الرسمي لأبي يعرب المرزوقي https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com
[4] راجع «كتاب روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية» للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن
[5] راجع مقال الإسلام أو العلاقة بين الطبائع والشرائع لأبي يعرب المرزوقي -الموقع الرسمي لأبي يعرب المرزوقي https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com
[6] سورة النساء - الآية 1
[7] سورة الحجرات - الآية 13