في الصميم

بقلم
د.لطفي زكري
الأزمة ضرورة لبدْءٍ فكري ثوري
 قد يبدو غريبا للوهلة الأولى الحديث عن الأزمة بوصفها ضرورة. ذلك أنّ الموقف الفكري أمام الأزمات هو غير نظيره أمام الضّرورات. فهو أمام الأزمات موقف مواجهة وسعي إلى المجاوزة بالبحث عن المخارج الممكنة منها. أمّا إزاء الضّرورات فيكون موقفا تبريريّا يعمل على تكريس الواقع القائم، حتّى وإن كان دون مستوى الانتظارات التي يأملها. لكن حين توصف الأزمة بالضّرورة، فإنّ الفكر المتمثّل للفارق بين منطق الأزمات ومنطق الضّرورات يجد نفسه في وضع مفارقي يحمله على معايشة التّردّد في اتخاذ القرار. أي هل يمكنه أن يتصرّف مع الأزمة بخلاف ما يقتضيه منطق الأزمات؟ وهل يستطيع أيضا أن يتصرّف مع الضّرورة بخلاف ما يقتضيه منطق الضّرورات؟ وسواء كان هذا أو ذاك، فهل أنّ القصد من تصنيف الأزمة في قائمة الضّرورات هو البحث لها عن مبرّرات التّسويغ وموانع التّجاوز حتّى يضفي الشّرعية على التّصرفات التي ينقاد لها النّاس في ظلّها أم هو الكفّ عن التّعامل السّلبي المميّز للموقف الفكري السّائد من الأزمة؟
قد يكون من الصّعوبة بمكان أن نفهم وأن نقبل بأنّ ضرورة الأزمة مفارقة تحكم أيضا العقل ذاته، لأنّ وضعه المأزوم لا يعود إلاّ إلى فترات ضروريّة من اللاّعقلانيّة داخل العقلانيّة نفسها. لذلك كان من الضّروري التّمييز في العقلانيّة بين الظّاهرة والماهية، حيث أمكن أن تتّضح الأزمة كفشل ظاهريّ للعقلانيّة. لكن سبب فشل ثقافة عقليّة لا يكمن في ماهيّة العقلانيّة ذاتها، بل فقط في اقترانها بالنّزعة الطبيعيّة والنّزعة الموضوعيّة المميّزتين للعلوم الحديثة. 
لكن كيف يمكن لنجاح هذه العلوم الحديثة أن يكون في ذات الوقت عنوان فشل العقلانيّة ظاهريّا على الأقل؟ أي بأيّ معنى يمكننا الحديث عن النّجاح في الفشل أو عن الفشل في النّجاح؟ وإذا كان للعقلانيّة ماهية تختلف عن مظاهرها، فهل يعني هذا أيضا أنّ للأزمة ماهية ومظهرا؟ وهل يفهم من هذا أنّ التّأويل التّاريخي يتضمّن ثغرة إمّا على جهة الإفراط في تقدير الأزمة، وإمّا على جهة القصور في فهم أسبابها؟ 
حين يغدو العالم فكرة لا متناهية لا يمكن حيازتها إلاّ من خلال سلسلة لا محدودة من العمليّات التّقنية، فإنّ هذا لا يتعارض في الواقع مع مقتضيات هذه المعرفة العلميّة الجامعة التي تشكّل إحدى دعائم النّزعة الموضوعيّة. وتظلّ هذه المعرفة الجامعة مجرّد غاية لا يمكن الاقتراب منها إلاّ على نحو لا نهائي. لكن بالرّغم من هذا التّباعد، فهي تبقى قابلة للتّحقّق إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وضعها ضمن التّقدم اللاّنهائي الذي تراكمه أجيال متعاقبة من الأبحاث النّسقية. وعليه فإنّ الصّورة التي ترسمها العلوم الحديثة عن العالم تخلص إلى النّظر إليه بوصفه وحدة عقلانيّة نسقيّة، يقبل كلّ جزء من أجزائها أن يتحدّد بكيفيّة عقلانيّة.
قد نسلم أمام تشعّب الاختصاصات العلميّة بأنّ تقسيم العالم إلى مجموعات لا متناهية من الحقائق القابلة للتّحقق في مسار لا متناه، كان يتمّ بفعل هذه المعرفة النّظرية-التّقنية إمّا بشكل خالص كما هو الشّأن في الرّياضيات وإمّا بشكل تجريبي ومتدرّج كما هو الحال في علوم الطّبيعة. 
ومن شأن هذا التّقسيم أن يضاعف آمال الإنسان في السّيادة على الطّبيعة في عصر النّزعة الموضوعيّة، بنفس المقدار الذي يضاعف إمكانات تحقيق الشّروط التي ترفع النّظرية إلى مرتبة علم كلّي موضوعي. لكن أنّى لنا بتحقّق هذا العلم الكلّي ونحن نسبح في بحار لا متناهية من الحقائق الجزئيّة؟ 
لمجاوزة هذ الوضع المأزوم، لا يمكننا أن نتخطّى الأزمة إلاّ بعود إلى العمق الأكثر أوّلية، أي بواسطة التّكرار لما تمّ نسيانه. والسّبب هو أنّ الأزمة لا تهزم إلّا بإعادة اكتشاف ما تمّ حذفه ونسيانه، وهو الذّاتية الأصلانيّة للفرد. لذلك أيضا لا يمكن لهذه الإعادة أن تنجز إلاّ بالعود إلى العالم المعيش. ونعني بالعالم المعيش العالم العيني والمألوف حيث تعاش الدّلالات الثّقافية مباشرة. إنّه العالم الذي نوجد فيه دوما. وهو العالم الذي تعمل المقاربة الموضوعيّة للعلوم على تشويه صورته بمحاولة إقحام طبيعته الشّخصية والرّوحية في بنية نظريّة غريبة عنه تماما. ومن بين جميع العلوم يحتلّ علم النّفس مقاما متميّزا في عودنا إلى العالم المعيش. فهو يمنحنا توضيحا للقدرات الهائلة للعلوم الإنسانية ولإخفاقاتها المتتالية.  
قد يكون صحيحا أن نرى في الأزمة مرحلة من الاحتضار والفوضى والعجز والضياع، لكن لا شيء يمنعنا من النّظر إليها أيضا بوصفها مرحلة طفرة كبرى لمبادئ توجّه التّفكير والممارسة طوال العقود اللاّحقة لها. إنّها مرحلة يعترف فيها العقل صراحة بالعجز أمام انسداد الآفاق وحدّة الفوضى التي تلفها. وقد يرجو مجيء من يعيد بناء الفكر ويخرج به من المأزق الذي تورّط فيه. 
والمفكّر الحقيقي ليس هو ذاك الذي يفرّ من الأزمات أو يهاب مواجهتها، بل هو من يحرص على مطاردتها وتصيّدها ورفع الغطاء عنها، انسجاماً مع المهمّة النّظرية الملقاة على عاتق كلّ مفكر بما يقتضيه المقام من توليد للسّؤال، بما هو تعبير عن استشكال راهنه، أي بما أفضى إليه أو بما سيؤول إليه، وبما أنّ كل نقد ينبني بالأساس على فرط انفلات يبوح به التّمشي التّاريخي، بوصفه مشيرا ومؤشّرا على حدوث أزمة. ذلك أنّ الفكر المأزوم هو الفكر الذي يتناسى أزمته بدل الانشغال بأسبابها وتداعياتها والاشتغال على حلّها والخروج منها. 
أمّا الفكر الشّجاع فهو ذاك الذي يجرؤ على الاعتراف بوضعه ويعي حدود قدرته على معالجته. إنّه الفكر الذي يعود على ذاته وإليها بغاية اقتحام كلّ ما بقي منسيّا في قائمة انشغالاتها. وإذا كان العقل لا يحول دون وقوع الأزمة، فإنّه على الأقل يتحصّن من الانهيار أمامها. ولعلّ هذا ما يفسّر حرصه على رتق الفتق بين الوقائع والماهيات من خلال ابتكاره لضرب من الميتافيزيقا الاستقرائيّة التي يؤسّسها على الوقائع التّجربية خلافا للميتافيزيقا التّأمليّة. وهو مفهوم مثير لأنّه يبرز محاولة إنقاذ الميتافيزيقا بالوقائع أي بما كان سببا في أزمتها. فهل ينبغي إنقاذ الميتافيزيقا من الوقائع أم بالوقائع؟ وهل يكفي أن نفصل بين واقع اتخاذ العقلانيّة طابعا خارجيّا سطحيّا وبين ماهيتها حتّى نتمكّن من إنقاذها؟ 
ليس التّأزيم إذن فعلا مضادّا للبدء والتّدشين الفكرييّن، بل هو يلوح بمظهر الشّرط الضّروري لهما. والمفكّر الحقّ هو ذاك الذي يولد من رحم الأزمة وليس هو من يظهر كالفطر بعد نزول الغيث وانتهاء القحط. ويبدو النّزوع إلى التّأزيم قصدا بيّنا في علاقة العقل بالعلم والفلسفة تاريخيّا. فإذا كان هذا التّأزيم للعلم قد قام على بيان أنّ نجاح العلوم في دراسة الطّبيعة هو عنوان فشلها أيضا، فإنّ امتداده نحو الفلسفة كان من خلال بيان إخفاق الفلسفة النّقدية في بلوغ القصد النّظري من التّمييزات بين أحكام الإدراك (التّفكير) وأحكام التّجربة (المعرفة). هذه شهادة على أنّ لحظة تأزيم الفلسفة هي ذات اللّحظة التي أزّم فيها العلم. وهذا يعني أنّ العود إلى السّابقين لا يشذّ عن هذا القصد التّأزيمي، بل هو بالأحرى الأفق الضّروري له. 
تكمن أزمة العقل النّقدي في الدّغمائية المتخفّية تحت شعار النّقد. ذلك أنّ الفكر النّقدي كان يرى أمامه مهاما ضروريّة يتعيّن عليه الاضطلاع بها، لكن الكيفيّة التي نحاها بها بحجّة أنّه يمكن الاستغناء عنها، تبيّن بوضوح أنّه لم يكن يدرك المعنى الحقيقي والكامل للمشكل النقدي. ذلك أنّ الرّغبة الجذريّة في تكوين نظريّة علميّة، وهي الرّغبة التي شكّلت التّقدم الكبير في الفكر الحديث، لم تجد في النّقد مناسبة استئنافها، بل وجدت فيه سبب عطالتها. لكن إذا كان هذا هو فعلا القصد من العود إلى السّابقين، فهل ينبغي علينا أن نفهم المنزلة التي خصّ بها السّابقون على جهة اعتبارهم مرجعا في هزم الأزمات التي تمرّ بها العلوم والفلسفات أم على جهة اعتبارهم أفقا للتّأزيم الضّروري في الاضطلاع بالبدء أو التّدشين الفكري؟
الآكد هو أنّ التّفكير صار ممكنا منذ اللّحظة التي تخفّف فيها الفكر من جميع أحكامه واستعاد وضع السّذاجة السّابق لها. فالسّذاجة هنا ليست وضعا سلبيّا دالاّ على بساطة التّفكير والافتقار إلى الذّكاء والحُنكة والنّباهة والدّهاء وسهولة الانخداع، بل هي حالة ذهن يقظ أزال كلّ الحجب التي كانت تغشي الأشياء وتمنعه من الذّهاب إليها بذاتها. أي ذهن استعاد وضعه الأصلي في علاقته بذاته وبالعالم من حوله. 
فالتّفكير يبدأ حيث يصمت المفكّرون، لذلك كان على الفكر أن يكفّ عن جميع صور الحكم أو اتخاذ المواقف حتّى يتسنّى له مباشرة الأشياء بذاتها كما هي في عالم الحياة. إنّ ما يعيق التّفكير هو الوقوف على عتبات الأنساق الفكريّة ومداومة الإصغاء إلى المفكّرين بدل الإصغاء إلى الأشياء في انعطائها المباشر والسّاذج. فالسّذاجة بهذا المعنى لم تعد عائقا يحول دون التّفكير بل صارت أولى الضّرورات التي يقتضيها الاضطلاع به. 
لا سبيل لتجاوز أزمة العلوم الحديثة التي صاحبت اتساع دائرة انتشار التّداول التّقني وهيمنة النّزعة الموضوعيّة إلاّ بالعود إلى مبادئ العقلانيّة وماهيتها والإعراض عن الانحرافات التي أصابت تطبيقاتها. وما العقلانيّة إلاّ تجسيدا أعلى لهذه المعرفة التي ترفع العقل إلى مقام الحكم والقانون الخاصّ بها. وإذا كان العقل المحض هو حقيقة الذّات، التي هي مقرُّه البدئي، فإنّ وظيفتها الأنطولوجيّة هي وظيفة هذا العقل عينه، أي التّفكير بوصفه فهما للفهم. لذلك كان على كل تفكير محض أن ينطلق من فهم الفهم، أي من تمعين للعقل بما يفعله أوّلاً. وهذا التّمعين يميّزه من ثقافة الابستمولوجيا كونُه لا يتوقّف عند طرح السّؤال: ماذا عليَّ أن أفهم؟ بل نجده يتعدّاه إلى سؤال: ماذا يعني أن أفهم؟ وقد يتضامن السّؤالان معاً، عندما لا نرى توحيداً تطابقيّاً بين الذّات والعقل. فهنالك مساحات من الذّات لا محلّ للعقل فيها، كما أنّ هناك للعقل آفاقاً، قد لا تستثير شغفاً لدى الذّات. لكن مواجهة الأزمة لا تفرض على الذّات المأزومة مجرّد الفهم، بل تستثيرها أيضا إلى تعميق هذا الفهم بالقدر الذي يساعد على تخطّي الأزمة. ذلك أنّ أساس أزمة العلوم هي أزمة الفهم الذّاتي للإنسان. لا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلاّ بتعميق الفهم الذّاتي للإنسان.
هكذا يظلّ الإنسان بمثابة المفهوم المرجعي الذي يلجأ إليه المفكّر كلّما اشتد اختطافه إلى ساحات متاخمة لحدوده الأصليّة واستشعر عدم قدرته على فهم ذاته. لكن هذا اللّجوء لا يعني بالضّرورة أنّ الإنسان كتجريد أقنومي يقيم بمنأى عن كلّ المؤثّرات، ويمكنه أن ينجو دوماً من عين الاختطافات التي تعرض لها تاريخ الذّات، وخاصّة عندما يتمّ تصريفها من خلال مفردات السّياسة اليوميّة في النّطاق المحلّي أو في النّطاق العالمي. 
من هنا كان لا بدّ من لحظة تمعين وإعادة تمعين للّفظ، والكشف عن مدى براءته المفهوميّة وتحرّره من كلّ التّوظيفات البراغماتيّة التي تتقاذفه من كلّ الجهات. فليست تداوليّات النّزعة الإنسانيّة مخلصة دوما لثقافة الإنسان باعتباره معياراً لذاته. إنّ ألفاظه وأسماءه ومشتقّاته هي من الشّيوع والعموميّة، بحيث يغدو الإنسان عينه محتاجاً لإعادة التّعريف بعد كلّ استخدام لمفرداته، كخصائص أو كدلالات. فحالات التّحريف التي تعتري الإنسان من خلال استخداماته اليوميّة اللاّمتناهية للأشياء والمفاهيم لا علاقة لها بحقيقة أن للإنسان تعريفاً لا متناهياً أبداً. وهذا ما يجعلنا نلج المدخل الآخر الذي نقصده بدئياً لاستئناف حوارٍ مع هذا التّعريف الذي لا نهاية لمعرفته في المحصلة.
إذا تأتى لنا تعميق الفهم الذّاتي للإنسان بتجاوز سطح الوقائع إلى الماهيات، فإنّ أمل الخروج من الأزمة يبقى قائما. لكنّ هذا الأمل في الخروج لا يعني بالضّرورة كثرة الخيارات أو تعدّد الإمكانات، بل يعني أنّ المفكر وقد صار مفكّر أزمة لا يقف عند تشخيص الأسباب التي أدّت إليها بل يذهب إلى استشراف تداعياتها وإمكانات تجاوزها، لذلك يضعنا في مفترق طريقين: 
أولاهما: الأفول وإعلان المنتهى بالسّقوط في مهاوي الانحطاط والبربريّة بفعل نسيان المعنى العقلاني للحياة. ويمثل هذا الإمكان سبيلا لخروج لاعقلاني من الأزمة طالما أنّ الأفول حالة من الغياب أو التّلاشي والاضمحلال التّدريجي الموصل إلى المنتهى (الموت). إنّ الأفول يعني استحالة الوجود إلى حريق يبيد آخر ما تبقى من بذور الإيمان أو إلى نار يأس من القدرة على الاضطلاع برسالة إنسانيّة. وحينها يكون ماء الحياة قد جفّ في مختلف شرايين المجتمع وتكون النّار قد حوّلت الوجود المأزوم إلى رماد تلفظ فيه النّار آخر أنفاسها. 
ثانيتهما: الانبعاث بإعلان البدء بالعمل على نهضة الإنسانيّة عن طريق إحياء روح التّفكير بالكفّ عن إنعاش أي فكر تاريخي. وهو إمكان يحرّكه التّفاؤل الشّديد بقدرة العقل على حلّ المشكلات التي صاحبت أزمة البشريّة بفعل هيمنة النّزعة الطّبيعية والموضوعيّة (العلميّة). بيد أنّ هذه الثّقة في قدرة العقل على تحقيق الانبعاث الذي ينقذ البشريّة من الاستمرار في معايشة أزمة تزداد حدّة مع كلّ نجاح علمي أو انتصار تقني لا تعني بأيّ حال أنّ المهمّة يسيرة. 
إنّ منطق الانبعاث هو استعادة الحيــاة من حريق الإبــادة الذي يشعلــه انعدام الإيمان أو انحساره في مختلف مجالات الفعل اليومي للإنسان المعاصر، ومن النّار الكامنة لليأس من الرّسالة الإنسانيّة للعقل الذي تربع على عــرش العالـــم وأخذ على عاتقــه مسؤوليّــة توجيه أحداثه منذ القرن السادس عشــر، ومن رماد العياء الكبير الذي أصــاب الذّات أمام التّقنية المفترسة. لذلك لا يبدو يسيرا أن تنبعث حياة داخليّة جديدة وفعاليّة روحيّة جديدة كعربــون لمستقبــل بعيد يكون في حجم انتظارات الإنســان. لكن اليقيــن من وجـــود الحيّ الذي لا يشمله الموت يترك أمام هذا العقل فتحة أمل لتحقيق انتظارات البشريّة منه. هذه الفتحـــة هي الــرّوح. 
بيد أن هذا المخرج الثّاني لن يكتب له التّحقق إلاّ بفضل بطولة العقل بوصفها سلاحا للتّحرر من النّزعة الطّبيعية التي كانت وراء مختلف تمظهرات أزمة الوجود الإنساني. وحتى يتمكّن الفكر من تجاوز هذه الأزمة التي أوقعته فيها النزعة الموضوعيّة، كان على الفكر أن يبلور الشّروط الضّرورية لإعادة بناء مفهوم الإنسانيّة لا بوصفها تحديدا جغرافيّا وإنّما بوصفها غائيّة تاريخيّة لأهداف عقلانيّة لا متناهية.  لكن ذلك هو ذاته ما يشكّل قوام العالم الإنساني الذي يبقى عالما عقلانيّا في صميمه، عالما وجد نشأته في أفكار العقل. بيد أنّ شرط هذا الفهم هو أن ندرك أنّ الأزمة الرّاهنة كانت حلاّ سيئا لمشكلات الحياة المعاصرة. ذلك أن أزمة الوجود الإنساني التي نتحدث عنها اليوم بكثير من الحسرة والتي تشهد بها أعراض لا يحصيها العدّ لتدهور الحياة، لم تكن قدرا أعمى، ولا قضاء مستغلقا ومحتوما، بل إنّها تصبح مفهومة ومدركة على خلفيّة غائيّة التّاريخ التي يمكن كشفها عقليّا. 
إنّ إحياء هذه الرّوح العقلانيّة ومن ثمّ منح الفكر وجاهةَ الكشف عن جذر العسر والموطن الذي تراكم فيه حتّى استحال إلى أزمة، يبقى أملا محفوفا بالعديد من الإكراهات التي تحول دون جعله واقعا. إنّ الإنسانيّة مدعوة إلى بذل جهود مضنية حتّى تتخطّى الوضع المأزوم الذي تمرّ به، وهي مجبرة على تقديم تضحيات في سبيل إحياء الرّوح العقلانيّة. لذلك ينبغي الحذر من تقاليد التّوصيف المدحي للعقل والدّعوة إلى السّؤال عن ماهيّة صلاحيّة العقلانيّة منذ أن ارتدّت إلى مثاليّة مجرّدة ومبتورة من جذورها الواقعيّة والحسّية. وهو سؤال يستهدف الفكر التّنويري للقرن الثّامن عشر صراحة. أي قرن العقل الغازي الذي يبدو من منظور نقدي سببا في انحطاط الكائن العاقل وسقوطه في عقلانيّة جافّة ومجفِّفة وعقيمة، ليس أبلغ في التّعبير عنها من وصف العقلانيّة الأداتيّة. 
بيّن إذن أنّ تجذير نقد العقل التّنويري الذي كان موضوعا لاعتراضات كثيرة في القرن التّاسع عشر، إنّما هو تحذير من الضّياع في متاهات النّزعة الموضوعيّة واستنفاذ كلّ الطّاقة الفكريّة والمادّية في الاستجابة لشروطها ومطالبها. فلا يكفي أن ننقد النّزعة الصّورية بالكشف عن قصور العقل النّقدي في سعيه إلى تمثّل التّعالق بين المعقول والواقعي على نحو ما ذهب إليه الفكر الجدلي، بل يتعيّن الاعتراض على الموضوعيّة الطّبيعية وعلى كلّ موضوعيّة أخرى حتّى ولو تعلّق الأمر بالرّوح. 
فقد كان عيب السّابقين كامنا في وضع الرّوح في الطّبيعة أو بجانبها بدل نقل الطّبيعة ذاتها إلى الدّائرة الرّوحية حتّى لا يبقى الأنا شيئا معزولا بمعيّة أشياء أخرى في عالم معطى سلفا، والحال أنّ الوجود في هذا العالم ليس مجرّد وجود بين الأشياء، بل هو أيضا وجود مع الآخرين وضدّهم. فليس أخطر على الذّات من العزلة والشّعور بالعياء في بناء عالم الحياة الضّروري للعيش بين الآخرين سواء بالتّفكير معهم أو ضدّهم. وليس العياء عجزا عن الفعل بل هو ضرب من اليأس النّاتج عن الشّعور بانسداد الآفاق أمام التّضخم اللاّمحدود لعالم الأشياء مقابل الانحسار المخيف للانشغال بقضايا المعنى والعني والتّمعين. وحتّى لا تسقط الإنسانيّة في هذه السّلبية كان عليها أن تستبدل روح الشّيخوخة ووهنها بروح الشّباب وعنفوانه، فلا تقدم نفسها عجوزا راضية بقدر الموت، بل فتاة ثائرة ومقبلة على الحياة. 
لكن هل يعني هذا الاستبدال أنّ العالم فضاء خاصّ بالأقوياء ولا مكان فيه للضّعفاء؟ وإذا كانت مفردات العجز والعياء والارتخاء ومشتقّاتها أدوات غير مناسبة لصياغة خطاب يستعيد المهمة الأصليّة التي كفّ عنها الفكر وفشل في محاولات استئنافها، فهل يبرّر ذلك ارتداد الموقف الفكري من الأزمة إلى موقف عاجز عن تمثل الحياة في عالم للجميع؟  
يبدو للمتأمّل في التّحالف العلمي التّقني أنّه كلّما ازدادت العلوم الحديثة إغراقا في النّزعة الموضوعيّة وفي تعميم التّقنية، كلّما ازدادت بعدا عن عالم الحياة إلى الحدّ الذي تقترن معه السّمة الأساسية لأزمة العلوم الحديثة بنسيان متزايد للمظاهر النّسبية والذّاتية التي تمتلئ بها الحياة، بحيث يزداد العالم العلمي بعدا عن الإنسان ليغدو في النّهاية مجرّد بناءات معزولة عن الحياة أي مجرّد أفكار في ذاتها منفصلة تماما عن مسؤولية الإنسان. فهو لا يبدو تحالفا من أجل عالم الحياة بل ضده. 
ولعل هذا ما يفسر ضرورة العود إلى سذاجة الحياة بوصفها وضعا أصليّا وأصيلا، يسبق كلّ صور الاصطناع وذاك هو المعنى الأعمق لبدء فكري ثوري. ويشكّل هذا العود السّبيل الوحيدة والممكنة للتّغلب على السّذاجة الكامنة في علميّة الفكر ذي النّزعة الموضوعيّة، لكن من خلال تأمّل يعلو فوق سطح هذه الأرض. فلا سبيل لإحلال الذّاتية محلّ النّزعة الموضوعيّة بدون المرور من عالم الحياة الذي يبقى الأصل الأول والمبدأ الذي لا محيد عنه. 
بيد أن ردّ الاعتبار لعالم الحياة لا يعني هنا الإغراق في الموقف الطّبيعي، لأنّ ذلك من شأنه أن يردّنا مرّة أخرى إلى النّزعة الطّبيعية التي أردنا القطع معها. وإذا كانت هناك ضرورات تفرض الانطلاق من عالم الحياة، فلأنّ الهدف يظلّ هو بلوغ هذه الذّاتية.