في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
مسار العلم بين الحتميّة والاحتمال والفوضى
 محدودية الحواس 
تعمل حواس الإنسان في نطاق ضيق جدا من هذا العالم الفسيح، فلا يستطيع إنسان أن يفرق مثلا بين أي كتلة وأخرى بدءا من 1000 كيلو جرام فأكثر أو عشر جرام فأقل معتمدا على حواسه فقط والأمر أيضا قريب من ذلك في المسافات، فلا يستطيع أن يفرّق بين 10 كيلومترات فأكثر أو عُشر الملّيمتر فأقل، وإحساسه بالزّمن لا يبعد عن ذلك أيضا، فلا يستطيع إدراك الفوارق الزّمنية حين يتعدّى حاجز المائة يوم تقريبا وحين تصغر عن كسر بسيط من الثّانية. وبالتّالي فهامش العالم الذي تقيسه الحواس بدون مساعدة من أيّ شئ آخر يمثّل نافذة ضئيلة جدّا من الكون تكاد تكون منعدمة وبلغة الرّياضيات فإنّ ما ندركه من الكون بحواسنا المجرّدة يقترب كثيرا من الصّفر، وإذا دعّمنا الحواس بأجهزة فيزيائيّة للقياس فإنّ هذه النّافذة تمتدّ ولكن قليلا أيضا بالمقارنة بما لا تستطيع الأجهزة قياسه، فيكون ما تقيسه الأجهزة يتراوح من 10 أس سالب 50  إلى 10 أس سالب 60. وحين دخول العالم الذّري فما دونه أو ما يسمّونه «العالم الميكروي» أو دخول العالم الكبير «العالم الماكروي» فليس لك عين ولا جهاز إلاّ النّماذج الرّياضيّة التي تصوغ  تصوّراتك للطّبيعة وإخضاعها للقياس الكمّي الدّقيق هو الحكم الزّمني على صدق هذه التّصورات من عدمه ومع ذلك أيضا فهو ليس حكما نهائيّا باتّا، والمشكلة تكمن في أنّ كلّ التّصورات التي تصاغ في نماذج تفسيريّة رياضيّة للطّبيعة هي بطبيعة الحال محلّية جدّا وعليها قيود كثيرة جدّا. ومن ذلك يعلم أنّ العلم الطّبيعي مع تطوّره وتعقّده، قد يقترب من فهم طبيعة الوجود لكنّه لن يتمكّن أبدا من فهم جوهر الوجود الإنساني فالإنسان ليس مادّة وحسب بل إنّ المادة هي أقلّ شيء فيه، ونحن نواريها التّراب بمجرد خروج السّر الإلهي منها. فلا يوجد سبيل أمام العلم الطّبيعي للإجابة عن الأسئلة الكلّية مثل جوهر وجودنا، فالعلم يبحث في كلّ ما هو غيب نسبيّ أمّا الغيب المطلق فهيهات.
الحتمية السّببيّة 
نجد داخل نطاق الحواس أن كل نتيجة متّصلة بسببها (أو بالأحرى فيما علم من أسبابها) في تناسق وتناغم وترتيب أكثر من بديع، وفي أصول الفقه يدور الحكم مع علّته (سببه) وجوداً وعدماً. فقد وجدنا مثلا أنّه من المستحيل أن تسلك في الطّبيعة أكثر من مسار واحد في آنٍ واحد، وهو ما يؤيّده المنطق بشكل صريح، فأنت إمّا هنا وإمّا هناك، أمّا أن تكون هنا وهناك في آن واحد فهو ما يرفضه المنطق. ويبدو بشكل صريح أنّ مبدأ السّببية هذا هو أحد مبادئ العقل المجرّد التي لا تحتاج إلى مقدّمات أو دليل أو معرفة سابقة في تصديقها، وهي علاقة (سواء كشفت أم لم تكشف بعد)  بين السّبب والمسبَّب (النتيجة)[1]، بينما لا يوجد على المستوى الدّقيق الكمومي أي تمييز بين السّبب والمسبّب. ثمّة حوادث كثيرة جدّا تكسّر السّببية في المستوى الكمومي (لكن في الحقيقة هذا الكسر ناتج بالفعل عن عدم نضوج لميكانيكا الكمّ بالشّكل الكافي). ونرى أنّ مبدأ السّببية هذا قد وفّر الإطار العقليّ الرّاسخ لتأسيس الرّياضيات كلغة للطّبيعة. 
تبدأ القصّة الكبرى  للتّصور الإنساني للطبيعة عند فلاسفة اليونان من أنّها مكوّنة من عناصر أساسيّة أربعة هي: الأرض والماء والهواء والنّار. ومع عدم دقّة هذا التّصوّر إلّا أنّها وافقت التّصنيف الحديث لحالات المادّة الأربع، وهي الحالة الصّلبة «الأرض»، والحالة السّائلة «الماء»، والحالة الغازيّة «الهواء»، وحالة البلازما «النّار». ساد هذا التّصور إلى نهاية العصورالمظلمة تقريبا حتّى أسّس «جاليليو» منهجيّة البحث العلمي وأستأنف «نيوتن» الطّريق، ومع تأسيس حساب التّفاضل والتّكامل واكتشاف قانون الجذب العام وربطه مع معادلات الحركة أسّس «نيوتن» منهجا للحتميّة الميكانيكيّة للطّبيعة، لكن ينبغي أن يعلم أنّ البشريّة أخذت أكثر من مليون عام (هو عمرها) حتّى وصلت إلى تصوّر أنّ دفع الأجسام يتناسب مع التّغيّر في سرعتها وهو أمر غير بديهي وليس مع سرعتها وهو الأمر البديهي. كانت هذه المعادلات بمثابة الماكينة التي يدخل فيها بعض المعلومات مثل الكتلة والقوّة وبعض الشّروط الابتدائيّة على الموضع والسّرعة، فتسمح لنا بالتنبؤ بمسار بل وبموضع الجسم عند أيّ لحظة زمنيّة لاحقة، فقد كان الزّمن عند «نيوتن» مطلقا لا يعتمد على شيء «فيما يسمي بلغة الرّياضيات متغيّر مستقل» بينما أتى بعد ذلك أنصار ميكانيكا الكمّ ليعرّفوا الزّمن الكلاسيكي على أنّه نتيجة إحصائيّة فقط لنسق ترتيب الأحداث في المستوى الماكروسكوبي. وبنهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين ظنّ الفيزيائيّون أنّ الفيزياء كعلم قد أغلق «The physics as a science has been closed» ولم يعد هناك مبحث إلاّ تهذيب وتدقيق النّتائج، ولم يمر على هذا الكلام سوى سنوات قليلة حتى أُعلن عن تصورين جديدين للطّبيعة وهما النّسبية الخاصّة والعامّة لأينشتين وميكانيكا الكم لبلانك، بالإضافة إلى بداية ظهور حساسيّة الأنظمة للشّروط الابتدائيّة وهو ماسمّي بعد ذلك بعلم الفوضى (وسنفرد لذلك جزءا من المقال) وأعلن الفيزيائيّون على إثرهما أنّ الفيزياء كعلم لا بدّ من إعادة صياغته «The physics as a science should be reformulated» على أساس من نقد الحتميّة وبداية صياغة النّموذج الاحتمالي الذي أتحفتنا به ميكانيكا الكمّ، في حين ظلّت النّظرية النّسبية على منهج الحتميّة بخلاف أنّ الزّمن أصبح متغيّرا من مكان لآخر في الكون بل ومعتمدا على الحركة بل وغير متميّز عن المكان بل يختلط الزّمان والمكان في نسيج واحد. ومع اختلاف الحالات الأربع للمادّة إلا أنّها تنطوي على بنية واحدة وما يفرق بينها هو القرب بين هذه المكونات الأساسية «الذّرات» وطبيعة الرّوابط بينها، فليست إلاّ تمثيلات مختلفة لنفس الشّيء ذاته، وتساءل الفيزيائيّون هل الجسيمات المختلفة التي تكوِّن الذّرات هي أيضًا تمثيل لجسيمات أوّلية يتكوّن منها الوجود المادّي؟ وبالفعل توصّلوا عن طريق التّجربة إلى أنّ المادّة ما هي إلاّ جسيمات أوّلية تسمّى «الكواركات» و«الليبتونات»، والتي تشكّل إلى هذه اللّحظة من معرفتنا اللّبنة الأساسيّة لهذا الوجود! وتتفاعل تلك الجسيمات الأوّلية فيما بينها عن طريق أربع قوى أساسيّة هي الجاذبيّة والكهرومغناطيسيّة والقوى النّووية القويّة والقوى النّووية الضّعيفة. فهل تتصرّف أحفاد الأحفاد «الكواركات» و«الليبتونات» مثل جدود الأجداد السيارات ومياه الأنهار وحركات الرّياح وحتّى الأقمار والكواكب.
شيطان لابلاس
ظلّت الحتميّة السّببية تسيطر على العلماء الأوروبييّن بدءًا من عصر النّهضة في عام 1453م وحتّى نهاية القرن التّاسع عشر، وتجلّت هذه السّيطرة في فكرة طرحها الفلكي الرّياضي الفرنسي «بيير سيمون لابلاس» عام 1814م، بافتراض وجود كائن خيالي عاقل في مقدوره معرفة ماضي الكون ومستقبله، بناء على معرفة وضع وسرعة كلّ جزئية فيه. وبتعبير آخر يرى «لابلاس» أنّ الحالة الرّاهنة للكون هي نتاج للحالة الماضية وسببا للحالة القادمة، وإذا وجدت قوّة تستطيع معرفة جميع القوى التي تحرّك الطّبيعة في لحظة معينة وجميع مواضع الأشياء التي تتألّف منها الطّبيعة وقدرة هذه القوّة على تحليل البيانات، فبالنّسبة لهذه القوّة لن يكون هناك شيء غير مؤكّد وسيكون المستقبل تماما مثل الماضي ماثلا أمامها [2]. الخطر في هذا التّصور هو جمود العقل على حتميّة الوصول إلى هذه الحالة، بحيث لا يكون ثمّة مجهول في هذا العالم بالنّسبة للإنسان فهذا خطر على العقل الإنساني «فإذا وجد الإنسان فثمّة مجهول ما بالنّسبة له»، أمّا إذا وضع هذا التّصور كحالة نهائيّة (خارج حدود الإنسان كإنسان لكن ربّما تكون على أطراف وجوده)،  يسعي الإنسان للوصول إليها بتعديل التّصورات يوما بعد يوم، فهذا ممّا لاغبار عليه بل ينبغي أن يُعلم أنّ الحتمية نفسها ليست ناتجة إلاّ من سلسلة كبيرة جدّا من التّقريبات للواقع.
ظهور علم الفوضى
في ظلّ الحتميّة اعتقد الإنسان أنّ كلّ شيء في الكون يتحرّك وفق نظام دقيق ومحدّد وهذا من باب الاعتقاد العلمي صحيح، لكن هل من سبيل لمعرفة هذا النّظام الدّقيق والمحدّد في كلّ شيء؟، ألا تحدث ثورات غير مرتقبة في هذه النّظم؟، هل هذه الثّورات فوضى كما يعتقد البعض؟، في الواقع هذه الفوضى ما هي إلا مسارات غير خطّية تتكرّر وتتداخل بنسق معيّن غير متماثل تماما، ولكنّه منظم جدّا. أحيانا يبدو وكأنّ هناك نقطة جذب محدّدة تنطلق منها وتعود إليها. إذا ألا يمكن سنّ قوانين تحكم هذه الفوضى وتطوّرها؟. إن أمكن ذلك فمازلنا قريبين من معنى الحتميّة. وبالفعل تمّ صياغة نماذج تحكم أيّ شيء في الكون عند ثورته وتتنبّأ بمستقبله أثناء ثورته، تتجلّى إحدى نجاحاتها في تحديد طيف الكتل الذّريّة الخارجة من التّفاعلات النّووية.
ظهرت الفوضي كعلم في عام 1886 م عندما أعلن ملك السّويد والنّرويج «أوسكار الثّاني» عن مسابقة علمية كان منظّمها الرّياضي «جوستا متاج ليفلر» والمحكّمون بعض عباقرة هذا العصر ومنهم «فيرشتراس، كيلي، تشيبتشيف، هيرميت» ورصدت جائزة مالية ضخمة لمن يقدّم حلاّ لمسألة الأجسام الثّلاثة، أي لمن يجيب عن التّساؤل الآتي هل النّظام الشّمسي مستقرّ أم لا؟ هل ستظلّ الكواكب وخصوصا الأرض في الدّوران حول الشّمس أم سيأتي يوم (ومتى هو؟) تخرج فيه الأرض عن مدارها. وقد فاز «هنري بوانكاريه» بالجائزة بعد أن إكتشف حساسيّة النّظام الشّمسي للشّروط الابتدائيّة، فكل تغير بسيط في الشّروط الابتدائيّة يؤدي إلى نتائج غير متوقّعة بل وربّما كارثيّة على مستقبل النّظام فيما عرف بعد ذلك بتأثير الفراشة والذي وضعه عالم المناخ «إدوارد لورينتز» من MIT في عبارته المشهورة «من الممكن أن تسبّب رفرفة فراشة بجناحيها وهي في الصّين إعصارًا بأمريكا».
الاحتمال آداة الحساب في العالم الميكروسكوبي
تضيع المعاني المستنبطة من الحسّ العامّ عند دخول نفق الجسيمات الذّرية فما دونها، يسلك أحفاد الأحفاد سلوكا مختلفا تماما عن سلوك جدود الأجداد بل ومحيّرا جدّا لهم. فإذا ما حاولت معرفة مكان وكمّية تحرّك إليكترون بدقّة متناهية لن يكون لك ذلك أبدا إلاّ بمقايضة، فالدّقة المطلوبة في أحدهما سيكون على حساب الأخرى فيما عرف بعد ذلك بمبدأ عدم اليقين لفيرنر هيزنبرج، وهكذا في أزواج المتغيّرات المترافقة مثل الطّاقة والزمن. وحاول «نيلز بور» تفسير ذلك بأنّ الجسيمات تحت الذّرية لا تتحرّك بشكل سببيّ حتميّ [3]، وإنّما بشكل احتمالي، لو افترضا أنّنا شاهدنا الجسيمات النّهائية للمادّة من خلال ميكروسكوب له قوّة تكبير بما يكفي فإنّها ستبدو متحرّكة، لا كقطارات تجري بسلاسة على قضبانها، بل كحيوانات الكنجر وهي تقفز في أحد الحقول[4]، وقبل أن تقفز الكنجر لا يوجد في عالم الظّواهر (التي تمّ رصدها حتّى الآن) ما يميّز الحيوانات التي ستقفز من تلك التي لن تقفز، فيحتمل هذا ويحتمل ذاك. 
كما فشلت الميكانيكا الكلاسيكية فشلا ذريعا في تفسير مشكلة النّفق الكمومي وهو عبور جسيم لحاجز ذي طاقة جهد أكبر من طاقة حركة هذا الجسيم،  لكن أمكن «دي برولي» من حلّ هذه المعضلة بفرض أنّ الجسيمات المتحرّكة تتمتّع بطبيعة مزدوجة[4] طبيعة موجيّة وطبيعة جسيميّة، فالموجات يمكن أن تسلك أحيانا كالجسيمات، وأحيانا كالموجات[6]. يسلك هذا الجسيم المتناهي في الصّغر مرّة كأنّه جسم كبير يخضع لقوانين الميكانيكا الكلاسيكيّة مثل ما في ظاهرة المفعول الكهروضوئي، وأحيانا لا، ومن ثمّ تمّ اللّجوء إلى نمذجته كموجة مثل ما في ظاهرة التّداخل. حدّد «إروين شرودنجر»[7] مفهوم الدّالة الموجيّة لتمكّننا من حساب احتمال وجود إلكترون في مكان معين، فهل يمكن حقًا أن تؤدّي الحسابات إلى احتمال وجود الجسيم في عدّة أماكن في آن واحد؟، أسئلة كبيرة تخرج بنا من الفيزياء إلي الميتافيزياء حيث تبدأ فكرة الأكوان المتوازية في الظّهور. والعجيب أنّه لا يدرى على وجه التّفصيل من وجهة نظر الرّياضيات ماهية الدّالة الموجية؟ فهل هي شيء مادّي ملموس؟ أم أنّها مجرّد أداة للحساب وللتّنبؤ بنتائج القياسات المعمليّة، نعوّض بها جهلنا بتفاصيل الكون المتناهي في الصّغر؟
تتجلّى هذه الثنائية العجيبة في تجربة الشّق المزدوج، حيث تُطلَق فيه إلكترونات مفردة خلال حاجز ذي شقّين، إذ تبدو الإلكترونات وكأنّها تعبر خلال الشّقين على النّحو نفسه الذي تعبر به الموجات الضّوئية، محدثةً نمطًا لنطاقات تداخل على الجانب الآخر من الحاجز، لكنّ محاولة مراقبته تُسبّب إنهيار دالّته الموجيّة وبذلك يتخلّى عن سلوكه الموجي ويختار العودة للتّصرف بشكل جسيم، هذا الانهيار يزداد بشكل كبير كلّما بدأت الجسيمات في الاندماج، حينها تفقد الأجسام الكبيرة خواصّها الكموميّة، وتتصرّف بشكل كلاسيكي. وكأنّ «الالكترون» يشعر بوجودك ومراقبتك له، أو أنّ معرفتنا بهذا العالم المتناهي في الصّغر مازالت وربّما ستظل متناهية في الصّغر وتحتاج لقرون عديدة حتّى تُصقل معرفيّا وتُعالج عيوبها عيبا عيبا حتّى نصل لنموذج قريب من الحتمية يتلاءم والحسّ العام مثل النّموذج الذي افترضه «دي برولي» في 1920م و«طوره دافيد بوم» في 1950م. 
هذا الجهل بهذه الدّالة صار نعمة عندما خضع معظم الفيزيائيّين لأسلوب «احسب ولا تسأل» كما يقول «جين بيريكمونت» لأنّ ذلك أدَّى بالفعل إلى تطوّرات هائلة في شتّى مجالات الفيزياء الحديثة، حتّى شاعت مقولة «دعونا لا نشغل أنفسنا الآن بالأسئلة الكبرى».
البصمة الكموميّة جزءٌ من المعركة الكبرى
كانت المعركة تحتدم يوما بعد يوم بين «أنصار الحتميّة» متمثّلين في «ألبرت أينشتين» وبين «أنصار الاحتمال» متمثلين في علماء فيزياء الكمّ الذين تبلور رأيهم فيما عرف تاريخيا باسم تفسير كوبنهاجن (بلانك، شرودنجر، هيزنبرج، بور وآخرين). كان تفسير كوبنهاجن يقول أنّه لا يمكننا معرفةُ شيءٍ حول موقع الجسيم حتّى نقوم برصده، بل إنّ البعض يقول إنّ الجسيمات غير موجودة في الواقع أصلا حتّى نلاحقها بعملياتنا الرّصديّة، وعند رصدنا لها تتشابك حالتها مع حالتنا، فيما سمّي بتشابك الدّوال الموجيّة، وهوعند اقتراب جسيمين دون ذريين من بعضهما فسوف يتفاعلان وتصبح خصائصهما متشابهة وسيكون هناك تشابك كمومي quantum entanglement  بينهما حيث إذا أبقيت أحد الجسيمين في الأرض ووضعت الثاني في القمر سيبقى التّشابك والتّفاعل موجودا بينهما مهما كانت المسافة «كأن يكون كلّ جسيم قد وضع بصمته في الآخر» حتّى إن كانت المسافة الفارقة بين الجسيمين تساوي مئات السّنوات الضوئية. إنّ كلّ ما يحدث للجسيم الذي في القمر يمكنه أن يؤثّر على الجسيم الذي في الأرض والعكس بالعكس، أيضًا عندما نحاول إجراء قياسات على أحد الجسيمين فإنّ قياساتنا ستحدّد الحالة الكموميّة للجسيم الثّاني بشكل آني مهما كانت المسافة بين الجسيمين، ممّا يعني أنّ المعلومات سوف تسافر بسرعة أكبر من سرعة الضّوء، قد تشعر إنّ الأمر ضرب من الخيال لكنّ اليوم تمّت تجربة التّشابك الكمومي وتمّ إثباته أكثر من مرّة وأصبح من إحدى الحقائق الموجودة في الطّبيعة ويعمل العلماء على تسخيره لأهداف تخدم البشريّة مثل الكمبيوتر الكمومي، والنّقل الآني وغيرها. هذا التّشابك غير موجود في الميكانيكا الكلاسيكيّة التي لا تقبل أن تؤثّر الأجسام في بعضها إلاّ إذا كانت متلاصقة أو عن طريق الحقول التي بينها مثل الحقل الكهرومغناطيسي أو التّثاقلي. وبدلًا من قبول هذا التّأثير الشّبحي في ميكانيكا الكمّ، مالَ «أينشتاين» إلى الاعتقاد بأنّ الدّالة الموجيّة للجسيمات غير مكتملة، وخمَّن أنّه قد تكون هناك بعض المتغيّرات الخفيّة التي تحدّد نتائج القياس، ولا تستطيع نظريات الكَمّ رصْدها. يقول «أينشتين» ساخرا هل تعتقِدُ حقّاً بأنَّ القَمرَ موجودٌ فقط عندما ننظُرُ إليه. 
ثمّة معركة أخرى، ففي عام 1935 أرسل «شرودنجر» خطابا إلى «أينشتاين» يقترح عليه تجربة ذهنيّة وصفها كالتّالي: تخيَّلْ قطة وُضِعَت في صندوق من الصّلب، ووُضِعَّت معها مادّة مشعّة في الصّندوق نفسه، تطلِق نواتج إشعاعيّة باحتمال قدره %50 في السّاعة، ويرافق المادّة المشعّة جهاز سيقوم بتسميم القطّة حال رصده لأيّ نشاط إشعاعي. وحيث إنّ التّحلّل الإشعاعي عمليّة كميَّة، كتب «شرودنجر» أنّ قواعد نظريّة الكَمّ تفرض أنّه بنهاية السّاعة، يجب أن تكون الدّالة الموجيّة داخل الصّندوق خليطًا متساويًا بين قطّة حيّة، وأخرى ميّتة. مرّة أخرى يتبنّي تفسير «كوبنهاجن» أنّه ما لم نفتح الصّندوق وننظر داخله، فالقطّة بالفعل حيّة وميّتة في آن واحد، وعند فتح الصّندوق سينبثق عالمان متوازيان، أحدهما يحوي قطّة حيّة، والآخر يحوي جثّة قطّة ميّتة. على خلاف تصوّر الحتميين، فالقطّة داخل الصندوق إمّا حيّة أو ميّتة سواء فتحنا الصّندوق أم لم نفتحه وجهْلنا بالحقيقة سببه فقط أنّ الصندوق مغلق. وترجيح أحد التّفسيرين صعب جدّا من النّاحية التّجريبية لأنّ الاختلافات بين النّماذج التّفسيريّة واسع جدّا وهونفس حالة الصّعوبة التي تكتنف معرفتنا بمصير الكون هل سيتمدّد للنّهاية أم سيعود وينكمش وهل سيتكرر فيكون كونا متذبذبا.
مزاوجة بين مفاهيم النّظريّة النّسبية والكّميّة
أوجد «أينشتين» تناظرا بديعا بين الجاذبيّة والهندسة، لذلك أصبحت الجاذبيّة وانحناء الفضاء الرّباعي الأبعاد شيئا واحدا، لكن لا يظهر هذا الأثر إلاّ على مستوى الكتل الكبيرة جدّا مثل الشّمس والكتل الأكبر منها. فإذا أردنا فحص جاذبيّة الجسيمات الصّغيرة جدّا مثل الجسيمات دون الذّرية فإنّ ذلك يستعصي دراسته من خلال مفاهيم «أينشتين» بهندسة الفضاء، لكن من الممكن تكميم الفضاء الرّباعي الأبعاد نفسه أي تقطيع الزّمان والمكان والتّخلي عن كونهما متّصلين. تسمّى هذه المحاولات بالجاذبيّة الكموميّة. نتوقع أن تصف الجاذبية الكموميّة درجات الحرّية الأساسيّة للطّبيعة، لذلك فإنّ فهم هندسة الفراغ رباعي الأبعاد عند مستويات الطّاقة متناهية الصّغر ربّما يخبرنا بذلك. ينقلنا هذا المفهوم إلى قضايا فلسفيّة جديدة، ماذا يعني اعتبارنا أنّ المكان والزّمان متقطّعان؟، هل تكون الطّبيعة مجرّد مشاهد كارتونيّة وُضع بعضها بجانب بعض مع وجود فراغات بينها لا تحتوي على شيء؟ أي لا تمثّل إلاّ العدم المطلق، لماذا لا ندرك تلك الفراغات؟. البعض يقول أنّ الإجابة بسيطة: لأنّ هذه الفراغات أصغر بكثير من أن ندركها بحواسنا، ولكن ربّما تتقدم تكنولوجيا القياس الميكروسكوبي فيمكننا ذلك. هل هذا يعني أنّ الطّبيعة ككل تحتوي على الوجود وعدم الوجود في آن واحد. الإجابة عند البعض نعم، إذا أثبتنا أنّ الزّمان والمكان متقطّعان، لكن هناك وجهة نظر أخرى هي أنّ الوجود يخلق باستمرار دون توقّف فاللّحظة الحاضرة تُخلق ثمّ تموت فتخلف وراءها فراغا ثمّ تُولد اللّحظة الملاصقة التي كانت في المستقبل منذ لحظة قبل أن تولد وهكذا. 
أقل غموضا وأكثر غرابة 
بدلا من سحابة الاحتمالات التي تمطرنا بها الدّالة الموجيّة وتطوّرها الزّمني في معادلة «شررودنجر»، اقترح «دافيد بوم» امتدادا لأفكار «دي برولي» أنّ الجسيم يسلك مسارا سرياليّا وله مواقع محدّدة في مساره حتّى وإن لم نرصده، لكن من الممكن رسم صورة جيّدة عن موضعه وربّما تحديده من خلال معرفة بعض الشّروط الابتدائيّة واقتراح معادلة تسمّى بمعادلة الموجة الدّليلة أو الموجّهة والتي تعتمد بدورها على الدّالة الموجيّة، تنتمي هذه النّظرية إلى طائفة الحتميّة على خلاف ميكانيكا الكمّ النّظرية، لكن وفي الوقت نفسه أتحفتنا برؤية جديدة لتجربة الشّق المزدوج كالتّالي: إنّ كل إلكترون يكون كراكب موجة يشغل مكانا محدّدا من الموجة مقابل كلّ لحظة زمنيّة، وبالتّالي عند وصول الموجة إلي الحاجز الموجود به الشّقين فإنّ الالكترون يخرج من شقّ واحد  في حين  تعبر الموجة الحاملة له من الشّقين، ممّا يؤدّي إلى الحفاظ على نفس النّتائج في النّموذج النّظري لميكانيكا الكمّ لكن برؤية جديدة حتميّة. يطرح هذا النموذج تصوّرًا مقبولًا لتأثير الموجات الدّليلية في النّطاق الذّري، حيث يوضح ذلك «فورت» قائلا: «أخبرتنا الفيزياء الكلاسيكية أن تأثيرات كهذه لا يمكن أن تحدث، وها نحن نثبت إمكانيّة حدوثها.هناك مجموعة أخرى من النّماذج التي تَعتبِر الدّالة الموجيّة كيانًا حقيقيًّا، وُضعت في ثمانينات القرن الماضي، لمحاولة شرح خصائص مختلفة لافتة تميِّز الأجسام الصّغيرة عن الكبيرة. فيتساءل «أنجلو باسي»، الفيزيائى في جامعة تريستا: «لماذا يمكن للإلكترونات أن تُوجَد في مكانين مختلفين في آن واحد، في حين لا يتسنّى هذا الأمر للطاولات، والكراسي، والأشخاص، والقطط؟». تفسر نماذج إنهيار الدّالة الموجيّة هذا الأمر حين تفترض أنّ الدّالة الموجيّة للجسيمات حقيقيّة، ولكنّها قد تفقد خصائصها الكموميَّة تلقائيًّا، وتحصر الجسيم ـ مثلًا ـ في مكان واحد فقط. يتمّ تصميم هذه النّماذج على نحو يجعل احتمال حدوث هذا الأمر متناهي الصّغر بالنّسبة إلى الجسيمات المفردة، ممّا يؤدّي إلى هيمنة التّأثير الكمومي على المستوى الذّري، إلاّ أنّ احتمال الانهيار يزداد بشكل كبير كلّما بدأت الجسيمات في الاندماج، حينها تفقد الأجسام الكبيرة خواصّها الكميَّة، وتتصرّف بشكل كلاسيكي. إحدى الطّرق التي يمكن بها اختبار هذه الفكرة هي البحث عن السّلوك الكمِّي لجسيمات ذات أحجام أكبر. ولو صحَّت نظرية الكَمّ القياسية؛ فلن يكون السّلوك الكَمِّي محدودًا بالحجم. وقد قام الفيزيائيون بالفعل بإجراء تجارب تداخل الشقّ المزدوج باستخدام جزيئات كبيرة.[8] أمّا لو صحّت نماذج الانهيار، فسيختفي التأثير الكمومي عند تجاوز كتل معينة. لذا تخطّط مجموعات علميّة مختلفة للبحث عن مثل هذه الحدود الفاصلة، باستخدام الذّرات الباردة، والجزيئات، والكتل المعدنيّة، والجسيمات النّانوية، على أمل أن تظهر النّتائج في غضون عقد من الزّمن. يقول «ماروني» بصدد ذلك: «تكمن عظمة كل هذه الأنواع من التجارب في أن نظرية الكمّ ستخضع لاختبارات عالية الدّقة بدرجة لم يصل إليها العلماء من قبل».
المراجع
[1] المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ص 96، ، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983م.
[2] زكريا إبراهيم «مشكلات فلسفية: مشكلة الحرية « ص 100.، مكتبة مصر، 1963م.
[3] وأنا أرى مرة أخرى أنّ ذلك راجع لعدم نضج النّموذج بعد ويحتاج لعقود لبلورة التّصورات بل وفصلها إجرائيا عن القضايا الفلسفيّة الكلّية 
[4] جيمس جينز، «الفيزياء والفلسفة» ، ترجمة جعفر رجب ص 174.، دار المعارف، 1981، مصر.
[5] إبراهيم محمود أحمد ناصر، عفاف السيد عبدالهادي، أساسيات ميكانيكا الكم؛ ص 355، العبيكان للنشر، 2013م.
[6] ريموند تشانغ، «الكيمياء العامة: المفاهيم الأساسية»، ترجمة فواز عزت الخليلي ، جلال احمد زهره، عماد هاني الدجيلي، ملك ابراهيم القادري، احمد قاسم حسين، العبيكان للنشر، 2014م.
[7]  Schrödinger, E. Phys. Rev. 28, 1049 -1926.
[8] Eibenberger, S., Gerlich, S., Arndt, M., Mayor, M. & Tüxen, J. Phys. Chem. Chem. Phys. 15, 14696–14700 -2013.