وجهة نظر

بقلم
محمد أمين هبيري
الثورة الموسية زمن الطغيان الفرعوني
 يبيّن لنا القرآن الكريم في عديد المواضع عنجهيّة «فرعون» وتعنّته وإعراضه عن المنهج الصّحيح في ممارسته للسّلطة؛ فهو الذي طغى وتجبّر، وهو الذي آذى الضّعفاء واستحيى النّساء، وهو من حرم «بني إسرائيل» من الحقوق والحرّيات السّياسية والمدنيّة حتى أنّه سنّ قانونا جائرا يقضي بقتل الذكور من الولدان، وهو من وصلت عنجهيّته إلى قوله « أنا ربكم الأعلى»  فاتّخذ من نفسه إلها سياسيّا يعبد في الأرض ويحارب إله السّماء. ففرعون هو أعلى الهرم السّياسي ويحمل صفة الطّغيان وهو ما يطلق عليه ظاهرة الحكم الإله. يقول الله تعالى : «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (1)
كلّ ديكتاتور أو حاكم طاغ لابدّ له من أعوان، يخدمونه ويشرّعون فساده السّياسي حتّى تكون أعماله - وإن كانت مطنبة في الفساد- مقبولة ومباركة، فيحلّون ما أحلّه الحاكم ويحرّمون ما أحلّته الفطرة السّويّة فتختلط بذلك المعايير، وتذوب القيم العليا في دنس الطّغيان العقائدي. تلك هي وظيفة رجال الدّين في زمن الطّغيان؛ وهي وظيفة «هامان» زمن طغيان «فرعون». «فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ»(2) وبذلك فإنّ السّلطة السّياسية لا يمكنها أن تنشر أفكارها ومعتقداتها إلا بالاستعانة بالسّلطة الدّينية.
عندما تتوحّد السّلطة السّياسية مع السّلطة الدّينية، تُخلق عدّة ظواهر في المجتمع تعزّز الطّغيان الفرعوني، أهمّها الظّاهرة القارونيّة بما هي ظاهرة الطّغيان الاقتصادي. تساهم هذه الظاهرة في تدعيم الطغيان السياسي ماليّا فتساعد على حماية السّلطة وفي المقابل تعمل على امتصاص ثروات الشّعب وقدراته وتحقّق أرباحا خيالية تؤدّي بالضّرورة إلى تحقيق ثروة طائلة. 
أمّا عامّة الشّعب أو «المستضعفون في الأرض» بعبارة القرآن فهم يأتمرون بأمر السّلطة السّياسيّة تحت طائلة القتل، كما يأتمرون بأمر السّلطة الدينية تحت طائلة التّكفير والمروق. ويأتمرون بأمر الظاهرة القارونيّة تحت طائلة قطع الرزق والبطالة. وبذلك يحرمون من حقوقهم وحرّياتهم المدنيّة والسّياسية والدّينيّة المعروفة في عصرنا الحالي. لهذا اشتمل التّعبير القرآني كلّ الأوصاف المناسبة لحالة الشّعب زمن البطش الدّيكتاتوري.
لو تدبّرنا المصطلحات القرآنية حين تحدّثت عن «فرعون» و«هامان» و«قارون» لوجدنا أنّها قد أطلقت أوصافا لا أسماء. فاسم «فرعون» الحقيقي حسب المؤرّخين هو «رمسيس الثاني» واسم «هامان» هو «تحتمس» أمّا اسم «قارون» فهو «أمنحوتب». فالقرآن الكريم أسند من خلال «فرعون» و«هامان» و«قارون» أوصافا سياسيّة لممارسي الطّغيان في جميع العصور منذ زمن موسى إلى نهاية الزّمن والتّاريخ.. 
أمّا موسى، فهو يمثّل ذلك الشّاب الطّموح الثّوري الرّاغب في تغيير الوضع السّياسي والاقتصادي والاجتماعي بما يمكّن عامّة شّعبه من حقوقهم الفكرية والمدنيّة والسّياسية ويحقق العدالة الاجتماعيّة بين فئات المجتمع وطبقاته المختلفة . فالثّوري لابدّ له من أن يكون متفاعلا إيجابيّا مع محيطه، فيتحدّث لغتهم ويشاركهم أفكارهم. ولعلّ قوّة الثّوري تكمن في كلّ هذه الخصائص التي تجعله فردا مخلصا لشعبه، محبّا لوطنه، شاعرا بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقه للتّغيير. ولينجح الثوري في مهامه يجب أن يحيط به أصدقاء يؤمنون به وبفكرته حتّى يتمكّنون جميعا من تحقيق الهدف المحدّد وهو مثال أخ موسى، نبي الله هارون عليه السّلام.
لعلّ من بين الخصائص التي تجب أن تتوفّر في الثّوري أيضا، اللّين والرّفق في الخطاب حتّى يتمكّن من إقناع الدّيكتاتور بطريقة سلميّة «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ»(3). كما أنّ ثقافته الواسعة تمكّنه من المحاججة الفكريّة وهي من بين نقاط القوة التي تمكّن الثّوري من الإطاحة بالسّلطة السّياسية بالطريقة السلمية المنشودة في كلّ حركة إصلاحية. أمّا في صورة تعنّت الطّاغية فإنّ نهايته تكون مأساويّة كنهاية فرعون المعلومة للجميع.
يقال أنّ « لكلّ فرعون، موسى» ولكلّ طاغية، ثوريّ. فقد ثار موسى على فرعون زمن طغيانه وجبروته، وعلى آثاره اقتدى جميع الثّوار في كلّ أرجاء العالم وفي كلّ الأزمنة. فمنذ موسى عليه السّلام مرورا بثورة الرّسول الأكرم على الطّغيان العقائدي القريشي وصولا لثورات التّحرّر من الأنظمة المستبدّة. ويحظى المبدأ الكوني في الطغيان بصفة عامّة والطّغيان السياسي بصفة خاصة بنفس السّردية التّاريخية؛ إشباع النّفس بهوى السّلطة يعقبها بطش وتؤطّرها القوّة حتّى يخلق الطّغيان السّلطوي، تنشئ هذه العوامل ظروفا سياسيّة وأوضاعا اقتصاديّة متأزّمة حتّى ينفجر الثّائر مطالبا بالعيش الكريم.
إنّ الأمّة الإسلاميّة، بعد تشرذمها وتفتّتها إلى محميّات لا وطنيّة، تمّ الاستيلاء عليها من طرف طغاة اعتبروا أنّ الدّولة ملكهم الخاصّ وأنّهم مخلّدون في الأرض، فعاثوا فيها فسادا واستولوا على أموال الشعوب ونهبوا ثرواتها وسجنوا المعارضين وأعدموا المطالبين وعذّبوا المحتجّين. كل ذلك جعل الشّعب يخرج عن صمته ويطالب بالتّحرر من سلطويّة الدّيكتاتوريين. ذلك أنه لا بد من اندلاع الثّورة في شعب ظلم طيلة سنوات وصفت بالعجاف.
ولعلّ الثورات التي قامت في البلدان العربية منذ سنة 2011 والتي امتدت إلى اليوم هي من بين أهم النتائج التي خلّفها الاستبداد. بدأها الشّعب التّونسي ثم انتقلت إلى مصر، فليبيا، ثم اليمن وسوريا. فلا يخفى على أحد ديكتاتورية بن علي أو حكم القذافي الاستبدادي أو إجرام نظام الأسد السّوري وطغيان صالح اليمني وفساده. وممّا لا شكّ فيه فإنّ نهاية كلّ طاغوت تكون مذلّة كنهاية «رمسيس الثاني» على يد «موسى» النبي وهي نفس نهاية فراعنة القرن الواحد والعشرين على أيدي شعوبهم المقهورة.    
إنّ معنى البيت الشعري الذي ألّفه الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي « إذا الشّعب يوما أراد الحياة .. فلا بدّ أن يستجيب القدر» هو مقصد الآية الكريمة « إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (4)  فالذي يريد أن يحيا حياة كريمة لابدّ أن يعمل على تغيير نفسه حتّى يغيّر محيطه. وهذه سنّة من سنن الله وقانون طبيعي من القوانين التي تخضع إليها الأمم. ولعلّ القدر سينصف الأمّة التي تتمسّك بأصلها وتنفتح على عالمها وعصرها حتّى تتمكّن من التّحديث والتّطوير الخالق للثّروة الاقتصاديّة والنّهضة الفكريّة.