اقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
من عبق ثورة تونس نحو أسس بديلة لمنوال التّنمية
 (I) منطلقات واستنتاجات
ننطلق من المتّفق عليه لنخرج باستنتاجات تنير لنا درب التّنمية في وطننا:
* المنطلق الأول: التّنمية ليست نموّا لاعتبارات ثلاثة على الأقل، فإن كان النّمو ذا بعدٍ كميٍ واحدٍ يختصّ به المجال الاقتصادي ويُقاس بمؤشّر يُعرف بنسبة النّمو السّنوي بالاعتماد على «سنة مرجع» ضمن أجل قصير لا يتعدّى سنة، فإنّ التّنمية ذات أبعاد كمِّيّة ونوعِيّة منها المادّي والنّفسي المعنوي ومنها الاجتماعي وهي تمسح مُجمل مجالات الحياة لذلك نتحدّث عن تنمية اقتصاديّة وأخرى بشريّة وصولا الى التّنمية المستدامة ويتطلّب تحقيقها آجالا متوسّطة وبعيدة..
من جهة أخرى يُعتبر النّمو وسيلة والتّنمية هدفا ولذلك يكون الاعتماد على مؤشّر نمو الدّخل الفردي لقيس التّنمية كمؤشّر وحيد غير مُجدٍ لذلك تمّ الأخذ بعين الاعتبار في معرفة مُستوى التّنمية لدى الشّعوب كلّ من الأمن والحرّيات السّياسية والاجتماعيّة وحرّية إنشاء المشاريع سواء في المجال الاقتصادي أو في المجال الاجتماعي إضافة لمؤشّرات  مُستوى الحياة ومستوى التّفاوت داخل المُجتمع عبر مؤشّر جيني ومُؤشّرات مُستوى التّعليم وصحّة سُكّان البلد.
ومن بين التّجارب الواقعيّة التي تثبت أنّ الاعتماد على مؤشّر نموّ الدّخل الفردي لقيس التّنمية كمؤشّر وحيد غير مُجدٍ تجربة المدينة الهنديّة «كيرالا» ذات 32 مليون ساكنا وما حقّقته من نتائج ايجابيّة في التّنمية رغم محدوديّة الدّخل الفردي لسكّانها.(https://forums.graaam.com/444749.html )
وفي المُقابل نجد حالة مجموعة من سُكّان الدّول التي سجّلت نسب نموّ اقتصاديّ عالٍ ودخل فردي مرتفع كحال السّود في الولايات المتّحدة الأمريكيّة الذين لهم أمل حياة ضعيف جدّا ومستهدفون باستمرار في أمنهم الجسدي والتّنموي عموما، مسجّلين بذلك مؤشّرا ضعيفا للتّنمية البشريّة رغم ارتفاع قيمة الأجر الفردي بالنّسبة للبلدان التي ينتمون اليها والتي تصنّف ضمن الأعلى في العالم.( https://www.youtube.com/watch?v=4kWroi7bY2E)
الاستنتاج : «النّمو ذو قيمة اقتصاديّة والتّنمية ذات قيمة إنسانيّة»
* المنطلق الثاني: تعريف التّنمية على أنّها فعل اقتصادي واجتماعي وبيئي يتّخذ من النّمو الاقتصادي والإدماج الاجتماعي وحماية البيئة هدفا وهو فعل ذو خلفيّة فكريّة ثقافيّة، كما أنّ هناك قبول على أنّ التّنمية مسار تنمو فيه الحرّيات الحقيقيّة للأفراد وتُقوّى عبره قدراتهم للاستفادة من الفرص المتاحة وذلك تطويرا لقيمهم والاستفادة منها وصياغة نمط حياة خاصّ بكل واحد منهم. 
الاستنتاج: نظرا للاختلافات الفكريّة والثّقافيّة بين الشّعوب، فإنّنا أمام تعدّد نماذج التّنمية لذلك لن يكون لنا كتونسيّين إلّا نموذج تنمية خاصّ بنا.
* المنطلق الثالث: نتيجة تنوع أفراد المجتمع، فإنّ رفاهيتهم ليست ذات بعد مادّي فقط بل متعدّدة الأبعاد كتصوّرات الحياة الجيّدة لديهم.
الاستنتاج: لن تفرض التّنمية على أحد نمط حياته بل تعينه على اختيار النمط الذي يُرضيه ضمن إطار يتشارك الجميع في بلورته. وبما أنّنا في مناخ عالمي تواصلي يصبح الحديث عن بلورة إطار عالمي مشترك ذا أهميّة.
(II)  تسلّط مُقاربة تقليدية للتّنمية ذات طابع اقتصادي
لا يُمكن الحديث عن الكيفية التي تمّ اتباعها لتحقيق التّنمية في بلدنا دون الحديث عنها في العالم وذلك لأنّنا بلد تابع وثانيا لأنّنا لم نحقّق بعد القدرات التي تجعلنا أسيادا على أنفسنا.فعلى المستوى العالمي تمّ خلال العقود الستّة الأخيرة اتّباع استراتيجيّات مختلفة عُرِفت باستراتيجيات التّصرف نظرا لتحكّم الطّابع الاقتصادي في منوال التّنمية وقد تأثّرت بلادنا خاصّة بالاستراتيجيّة الأولى التي تعتمد على الدّولة والآن تبحث لها عن موقع ضمن الاستراتيجيّة الثّانية التي تعتمد على القطاع الخاصّ والحال أنّ العالم اليوم يتّبع الاستراتيجيّة الثّالثة التي تعتمد على شركات عابرة للقارات تتحكّم في مجريات الأمور وتضغط لتكون استراتيجيّات الدّول خادمة لأهدافها، فما هي هذه الاستراتيجيّات وما هي حدودها؟: 
 • الاستراتيجية الأولى (TOP DOWN) 
تُنفِّذها الدّولة وهي تنازليّة تعتمد على المركزيّة المسقطة وتتّخذ المال محورَ العمليّة التنمويّة وذلك بالاعتماد على الاستثمارات الضّخمة كأداة لتحقيق الرّفاه ومنطلقة من الإلمام بالظّرفيّة الاقتصاديّة وتحليل الاقتصاد الكلّي وجغرافيا القطاعات الاقتصاديّة .
حدودها:  
- التكاليف الثّابتة المرتفعة.
- أزمات التّشغيل والاقتصاد والماليّة العموميّة.  
- أزمة قيم وأزمة ديمقراطيّة(ضدّ الثقافة) وتهميش مزدوج سواء على مُستوى تنظيم العمل أو على مُستوى الاستهلاك.
• الاستراتيجية الثانية ( BOTTOM-UP ) 
يُنفّذها القطاع الخاصّ وهي تصاعديّة اتخذت من الذّات الاقتصاديّة محورا للعمليّة التنمويّة وذلك من خلال تنميتها وصولا الى اكتساب أهليّة التّصرف للضّغط على التّكاليف وهي استراتيجيّة مستقلّة عن الظّرفية الاقتصاديّة وتنطلق من بيانات أسواق الأوراق الماليّة للشّركات. 
حدودها:
- توظيفها من طرف النّيو ليبيراليّة للإبقاء على ميزان القوى التّقليدي دون وضع النّظام الاجتماعي وطبيعة علاقات السّلطة موضع شكّ. 
- تدهور الخدمات العامّة من صحّة وتعليم وبيئة.
• الاستراتيجية الثالثة ( RESEAU MODELE)
تُنَفِّذها الشّركات العابرة للقارّات والتي تقوم على القدرة على التّقدير السّريع للأمور وهي تعتمد نموذج الشّبكة الذي يرى أنّ نجاعة العمل يتمّ عبر إحكام شبكة معلومات ما بين الشّركة الأمّ وفروعها المبثوثة في كل أصقاع العالم وحسن تقدير مآلات الأمور وتتّجه نحو العالميّة بالحدّ من المخاطر ممّا يجعلها تولّي أهمّية قصوى لكلّ من إدارة المعرفة وإدارة المخاطر التي تتّخذ من المعلومة قاعدة ارتكاز لها.
حدودها:
- حماية الذّات الاقتصاديّة لهذه الشّركات والدّول التي تمثّلها من المخاطر المحدقة من كلّ جانب.
-  ضعف الاهتمام بالمستضعفين في العالم بل يصل الأمر الى استغلالهم.
ولأنّها اقتصادية، فقد انتجت هذه المقاربة للتّنمية ستّة أنواع من النّمو غير مرغوب فيها ذكرها تقرير التّنمية البشريّة لعام 1996 واعتبرها غير مجدية وهي «نمو البطالة الذي لا يولد فرص العمل والنّمو المتوحّش الذي يُسهم في تعميق التّفاوت بين الأفراد والفئات وكذلك الجهات (عدم المساواة) والنّمو الأخرس الذي لا صوت له أي الذي يحرم المجتمعات المحلّية الأكثر تعرّضا للمخاطر من المشاركة، والنّمو المنبتّ الذي لا جذور له في الاقتصاد المحلّي ويرتكز على نماذج منقولة من مكان الى آخر، والنّمو الذي لا مستقبل له الذي يقوم على الاستغلال المفرط للموارد البيئيّة والنّمو الذي لا يرتقي بنوعيّة الحياة» 
الاستنتاج: طغيان البعد الاقتصادي على التّنمية واستراتيجياتها خلال العقود السّتة الأخيرة ونتائج المُقاربة التّقليديّة كانت الإنسانيّة ضحيّتها، فهي نتائج تُؤكّد كلّها انتفاء البُعد الإنساني فيها أو في أحسن الحالات عدم إيلائه المكانة التي يستحقّ. كما أنّ التّغيير الذي لحق استراتيجياتها تمّ دون تغيير جوهريّ لأسس التّصور للتّنمية القائمة على النّفعية المادّية والفرديّة وليس على نفع النّاس متعدّد الأبعاد والإنسانية جمعاء ودون تغيير الجذور الفلسفيّة المادّية لمفهوم الحرّية المرجوة كإطار للتّنمية.
(III)  إطار وأسس مقاربة بديلة للتّنمية 
تعتبرالحرّية كإطار لمقاربة بديلة للتّنمية أهمّ مكسب للثّورة في تونس، الاّ أنّنا كتونسيّين لم نستثمرها بعد أحسن استثمار ولم يُدرك كثير منّا أنّ الحرّية مكسب ثمين لا يُمكن العبث به أو التّرويج للاستغناء عنه أو مقايضته بالتّنمية.
فالتّنمية مسار والحرّية ضمنه أداة باستمرار أمّا الإنسان فهو جوهرها وهذا يتطلّب الاهتمام به وبصياغة علاقات بشريّة على أسس بديلة بعيدة عن الفرديّة والصّراع وقائمة على الإنسانيّة والتّعاون ونظرة للزّمن أكثر رحابة وهذا لن يتمّ ما لم نُغير الأرضيّة الفلسفيّة والعقديّة للحرّية.
والنّمو الاقتصادي ضمن هذا المسار مطلوب ولكن مزاوجته بالتّقليص من التّفاوت بين الأفراد والفئات والجهات حيويّ لتحقيق التّنمية ولنا في التّجربة اليابانية خير مثال. 
وليس الهدف من التّنمية استمرار حالة معينة من «الرّفاه الوطني الخام» ولكنّه تمكين كلّ فرد من استمراريّة رفاهه المتعدّد الأبعاد عبر احترام حرّياته الفرديّة والجماعيّة وبالاعتماد عليها وعلى تقوية قدراته وإتاحة الفرص أمامه.
 كما أنّ تحسين حالة الرّفاهة للسّكان لا يتوقّف على نموّ الإنتاج وتراكم رأس المال، بل يشترط أيضا توسيع الحرّيات الأساسيّة كهدف ذي أولويّة ومُوَجّه مُحَدّد للتّنمية، فنحن مطالبون بالقيام بمحاولة جريئة للمصالحة بين الإنشغال بتحقيق النّمو وتوفير المتطلّبات الإنسانيّة والأخلاقيّة. 
فالحرّية ذات الخلفية الإنسانيّة والأخلاقيّة هي إذا إطار التّنمية البديل الذي نراه أمام الآثار السّيئة للحرّية اللّيبيراليّة وأمّا محور التّنمية فهو الإنسان بكل أبعاده تحقيقا لكرامته وأفضليته على كثير من الخلق- والأرض مجالها وما يستوجب ذلك من إعمارها والحفاظ على ثرواتها وعدم الفساد فيها وفق مقاربة الإستخلاف، مقاربة على نقيض كلّ من مقاربة الخلافة ومقاربة الملك ممّا يستوجب إعادة صياغة تهيئة ترابيّة بديلة لا تكرّس التّفاوت كما هي عليها الآن والتي تجعل ببلادنا أربع ولايات فقط مستأثرة بالاستثمارات.
مقاربة يكون ضمنها الكلّ راع والكلّ مسؤول عن رعيته، فعلى الإنسان كلّ من موقعه الأخذ بزمام التّنمية باعتباره مستخلفا في هذه الأرض ومستأمنا على خيراتها كما يعتبره الدّين الإسلامي وهذا لن يتمّ ما لم يتحرّر ممّا تمّ ترسيخه تاريخيّا في ذهنه ووجدانه من الاستسلام لما صُوِّر له على أنّه قدرا مقدور سواء الانقياد الى النّخبة أو الانقياد الى الملك(الحاكم) والتي تعود جذوره الأولى الى العهد العباسي ونظريّة الخلافة حين كان الاختيار للنّخبة المشفوع بالبيعة لتحديد من يتكفّل بشؤون النّاس أو الانقياد الى الملك(الحاكم) الذي رسّختها نظريّة الملك منذ عهد بني أميّة وكرّست هذه العقليّة الإستسلاميّة الغير حرّة استراتيجيّات التّنمية التي سادت ولا تزال منذ الحرب العالميّة الثّانية.
من جهة أخرى على الجميع العمل على جعل اقتصادنا مدمجا للكفاءات ولن يكون ذلك إلآّ باقتصاد منتج للقيمة وقائم على الابتكار وامتلاك المعارف التكنولوجية.
أما محور العلاقات البشريّة البديلة فهو التّعارف بين بني البشر والتّعاون فيما بينهم على أن يعيش الجميع حياة طيّبة قوامها السّلم بعيدا عن الصّراع ومنطق الغلبة والاصطفاف الى هذا المحور الدّولي أو الاقليمي أو ذاك وبالاعتماد على آليتيّ التّدافع درءًا للفساد والتّنافس وتحقيقا للجودة مع استحضار اليوم الآخر كيوم للحساب وذلك عزاء للمظلومين والمقهورين ضحايا استراتيجيات التّنمية المُتتالية وتقليصا من عدد المُتسبّبين في صناعة اللاّ تنمية في وطننا وفي العالم بأسره ممّا يتطلّب تغيير النّظرة للزّمن ليصبح مداه لا ينتهي بالموت والتّعامل معه على أنّه مجال استثمار لضمان المستقبل قبل الممات ونجاح المصير بعده.
(IV) الآفاق
لتحقيق التّنمية في وطننا نحن في حاجة للدِّين الإسلامي كما نحن في حاجة للعلم، فإن كانت حاجتنا للعلم تفرضها علينا الحاجة لمعرفة الكيفيّة التي نُدير بها أمورنا ونُلبي بها حاجاتنا من سلع وخدمات، فإنّ حاجتنا للدِّين تفرضها علينا الحاجة الى أن يهدينا القادر الى الصّراط المستقيم في الحياة أمام تعدّد السّبل والاستراتيجيات التي فرّقت بين أبناء الوطن الواحد وجعلت الحياة عسيرة.
وحاجتنا للدّين تفرضها أيضا حاجتنا لمعرفة كُنه الأمور وجوهرها ومعنى الأشياء ودلالاتها وحاجتنا الى الطّاقة الرّوحيّة والقيم النّبيلة من أخوّة وتعارف وتعاون دون أن نصل إلى الحديث عن الإيثار والتّضحية لعلّنا نقدر على مواجهة التّحديات التّنموية ورفعها.
وبما أنّنا مسلمون نؤمن بأنّ الوجود كلّه أوجده الله وكذلك الخلق والرّزق والموت والإحياء وما يعنيه ذلك من قدرة واقتدار لله، فلِما لا نُجرّب التّنمية بمحاكاة القادر الذي كرّم الإنسان وسخّر له ما في السّماوات والأرض وأصبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؟
لماذا لا نُجرّب التّنمية بحثا عن حياة طيّبة للجميع يكون محورها الإنسان الذي جعله الله القادر محور الوجود ككل؟ لماذا لا نُجرّب التّنمية التي تكون غايتها كرامة الإنسان يحرِّكُنا ايماننا بأنّنا مُستخلَفون في هذه الأرض ومستأمنون على إعمارها والحفاظ على ثرواتها بعمل ما ينفع النّاس وبعدم الفساد والإفساد فيها؟
ولماذا لا نُعمّق في نفوسنا ونشيع بين النّاس حتميّة اليوم الآخر وحتميّة المحاسبة والجزاء لما فيهما من عزاء للمظلومين والمقهورين ضحايا استراتيجيّات التّنمية المتتالية وتقليصا من عدد المُتسبّبين في صناعة اللاّ تنمية في وطننا وفي العالم بأسره؟.