بهدوء

بقلم
البحري العرفاوي
في الذكرى السابعة ... هل أنجبت «الثورةُ» ثوريين؟
 بين الثقافي والسياسي 
تسريبات ويكيليكس واحتراق محمد البوعزيزي رحمه الله عاملان مهمان في فهم ما حصل ويحصل في بلادنا وغيرها تحت عنوان «الربيع العربي» ... لسنا ممن يستبسط تأكيد حصول «ثورة» ولا من الذين يربطون كلّ الأحداث بعوامل خارجيّة... من المهمّ جدّا تحمل المثقّفين لمسؤوليّة تدقيق قاموس الخطاب السّياسي بما يسهم في بناء وعي عميق هادئ ومستقبلي حتّى لا نغرق في خطاب شعبوي استرضائي يمتطيه السّياسيون في عمليات التّسول الإنتخابي والغنائميّة السّياسية...وحتّى لا تختلط المفاهيم ولا تلتبس المسائل على العامّة بحيث تصبح «الثّورية» في متناول الحمقى والفارغين والزّائفين وذوي السّجلات السّوداء وحتّى لا يتدافع المسكونون بـ «عقدة الفتح» يمنّون على الشّعب بما لم ينجزوا ويريدون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا...الوعي السّياسي الذي يُشيعه المثقّفون الأحرار هو الذي يحمي «الشّعب» من مشاريع الإختراق الحزبي يحرص بعض السّياسيين على «تملك» الجماهير بها بحيث يسلبونهم إرادتهم واستعداداتهم الإنسانية للتفكير والنقد والشّك والإعتراض.
إذا كان الخطاب السّياسي يُبشّر دائما بالإكتمال فإنّ الخطاب الثّقافي يحذر دائما من الخيبات.
في الذكرى السابعة ... 
هل أنجبت «الثورةُ» ثوريين؟
يحتفل التونسيون هذه الأيام بالذّكرى السّابعة لهروب رمز النّظام القديم ولتفجّر أشواق النّاس وأحلامهم ولارتفاع أصواتهم واتّساع دائرة حرّياتهم... سبع سنوات كاملة مضت والتّونسيون يشتغلون على مفردة «الثّورة» ويخوضون حراكا وتفاعلا لم يعرفوه من قبل وعلى كلّ المستويات سياسيّا وإعلاميّا وثقافيّا ونقابيّا وحتّى عبثيّا... والسّؤال المركزي بعد هذه السّنوات السّبع هو: هل أنجبت «الثّورة» ثوريّين؟
سبع سنوات هي مدّة زمنيّة مهمّة لإحداثِ قَدْرٍ من التّغيير في الأفكار والرّؤى والقيم وفي العلاقات وموازين القوى، وهي فترة تبدو أيضا كافية لإحداث درجة غير يسيرة من القطع مع الماضي بما هو عقليّة وقيم وممارسات وبما هو شخوصٌ ورموز سياسيّة تداولت على المناصب والوظائف ومراكز القرار، هل استطاع التّونسيّون في هذه السّنوات السّبع إنجاز نقلة نوعيّة على المستوى القيمي  والعلائقي والهيكلي وعلى مستوى ظروف النّاس المعيشيّة ؟ هل استطاعوا تفكيك الجهاز القديم واستبداله بجهاز جديد؟ وهل استطاعوا في النّهاية استعادة إرادتهم المغتصبة من بين أيدي المستبدّين والمزوّرين والمفسدين ولوبيّات المال والتّهريب والإرهاب؟.
ونحن نحتفل بهذه الذّكرى علينا ألاّ نجعل من احتفالنا مجرّد سهر وطرب وامتداح لشجاعة الشّجعان وفروسيّة الفرسان وألاّ نكتفي بالتّرحم على الشّهداء، إنّما علينا طرح الأسئلة الحدَث وتقييم حصاد سنوات سبع ساخنة وحبلى بالأحداث والمفاعيل،علينا تأمّل المسافة الفاصلة بين ما هو كائن وما كان منتظرا أن يكون، بين شعارات من سدّوا الشّوارع على الإستبداد حتّى أخرجوه وبين ما انتهى إليه المشهد السّياسي اليوم وخاصّة بعد آخر انتخابات برلمانية .
ما الذي تحقّق للفقراء والمُعدمين والمعطلين؟ ما الذي كسبته الجهات المنسيّة وقد سالت فيها دماء شبابها غير تشويهها بلوثة «الإرهاب» وتحويلها إلى منطقة عسكريّة مغلقة؟ ما الذي تحقّق لضحايا عقود من الاستبداد ولذُرّيات الشّهداء والمفقودين والمُحطمين؟ ما الذي حقّقته «العدالة» للمظلومين وهم يشاهدون ظالميهم يستعيدون السّيطرة على المشهد من جديد بل ويتوعّدون ضحاياهم باستئناف جرائمهم ضدّهم؟
أسباب الفشل لا يمكن ردّها دائما إلى مؤامرات الآخرين وإنّما علينا أن نتّهم أنفسنا بالتّقصير والعجز وسوء التّصرف وضعف الحكمة وافتقاد الرّؤية. وفي السّياسة لا وجود لضحايا، إنّما يوجد فاشلون وعاجزون أو فاقدو تجربة ودراية، وهذه مناسبة لكي يُحاسِبَ المعنيّون بالثّورة أنفسهم بشجاعة وصرامة وموضوعيّة ولكي يراجعوا «نظريّتهم» في «الثّورة» وتمشّياتهم في معالجة الأوضاع وفي الخروج من «الماضي» إلى «المستقبل» ومن «القديم» إلى «الجديد». 
كيف استطاعت «الدّولة العميقة» ابتلاع القوم وهم يحتفلون، وهم يتنافسون، وهم يتقاسمون الأمجاد والمكاسبَ؟ كيف ومتى اشتغلت تلك «العميقة» ولم يرها أحدٌ ولم تنتصب في السّاحات والملاعب حتّى حصدت أصوات ضحاياها فحملوها على أعناقهم يمتدحون مصّاصي دمائهم ويلهجون بالشّوق إلى عودة سلطانهم؟ كيف خسر المعنيّون بـ «الثّورة» مكانتهم السّياسيّة في أوّل محطّة انتخابيّة هامّة وبعد أربع سنوات من الخطاب والتّنظير والتّحشيد؟
لقد أصيب الكثير من الحالمين ومن الحماسيّين بالصّدمة والخيبة وحتّى ببعض اليأس وقد انتاب الكثيرين شكّ في صفاء معدن الشّعب وخاصّة متساكني الشّمال الغربي كما تملّك الكثيرين خوفٌ من عودة سنوات الأحزان والأوجاع بسبب عودة رموز الإستبداد...إنّنا لا نخشى المستبدّين قَدْر خشيتنا من المهزومين الخائفين وقدر خشيتنا من الانتهازيين الذين سارعوا إلى احتلال مقاعد أماميّة عشيّة 14 جانفي 2011 وتكلّموا في «الثّورة» بخطاب أجوف ريائي منافق كاذب، إنّهم هم من شوّش على ثقافة الثّورة وهم من روّج خطابا سطحيّا أجوف فزيّفوا الوعي وأشاعوا الوهم وغالطوا العامّة حين استسهلوا القول بنجاح «الثّورة» ولم يتحمّلوا مسؤوليّة التّنظير لها ومسؤوليّة استنبات الوعي وإشاعة الأفكار والمعاني وتصليب الإرادة ودعم روح المقاومة الثّقافية والأخلاقيّة من أجل مستقبل أرقى وأنقى... الواهمون يومها هم الخائفون اليوم، الغنائميّون  يومها هم المُحبطون اليوم، المنافقون يومها همُ الجبناء اليوم.
إنّنا لم نفاجأ بتعثّر المسار لإيماننا دائما بكون المقدّمات لها مآلاتها الحتميّة ولسنا مهزومين اليوم ونحن نحيي الذّكرى السّابعة  لسؤال «الثّورة».
سنظلّ نخوض معركة الأفكار والمعاني والقيم وسنظلّ نستحثّ السّير على بصيرة باتجاه مستقبل مختلف أرقى وأنقى وسنظلّ نستنبتُ معاني الحياة والكرامة والعدالة ونؤجّج أشواق الحرّية ونُذكّي إرادة التّحرّر،سنظلّ مسكونين بالسّؤال وبالأمل والأشواق لا نيأس ولا نخاف ولا نتردّد في قول ما يجب وكما يجب ومتى يجب، وسنظلّ مؤمنين بكون الحقّ لا ينال من كونه حقّا ضعفُ أنصاره وكون الباطل لا يستحيل حقّا بسبب كثرة أتباعه.
إنّ الثّورة رؤية ومسار وذهابٌ مبصر إلى مستقبل دائم، إنّ الثّورة ليست شجرة يُمكن أن تُجتثّ أو تحرق ولكنّها دفقُ ماء من بين صخور جبال لا تنحني ولا تغير أمكنتها.
أسئلة «الثورة» أو الشعارات والمسارات 
إذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مُرادها الأجسامُ
يمكن أن يذهب المفسّرون لبيت أبي الطّيب المتنبي مذاهب شتّى ولكنّنا سنذهب فيه إلى ما يُعبر عن حال من كانت انتظاراتهم كبيرة من «الثّورة» ومن قرؤوا الحدثَ انطلاقا من أحلامهم وليس من واقعهم...عشيّة هروب رمز النّظام السّابق تدافعت إلى المشهد السّياسي والإعلامي وجوه لم نرها من قبل ولم نسمع لها صوتا وتكلّم سياسيّون وفنّانون وإعلاميّون بنبرات الثّوار الأشاوس ورووا بطولات ومعارك ونضالات تجعل منهم مشاتل من مانديلا الذي لم يتكلّم كما تكلّموا ولم يتعال كما تعالوا.
لم تُطرح في البداية «أسئلة الثّورة» من حيث معانيها وأهدافها ومساراتها وأخلاقها ومن حيث أصدقاؤها وأعداؤها...من أين تنطلق الثّورات؟ من العقول والضّمائر والمفاهيم والسّلوكات أم من الشّعارات والصّرخات والإنفعالات؟ كيف نُسهم في تحقيق الثّورة؟ عبر التّوغل في الأعماق وابتداع المعاني والأفكار وإحياء القيم وتمتين الوشائج الإجتماعيّة وإثراء قاموس الخطاب بمفرداتٍ مُحِيية وبناءة وفعالة أم عبر الطّفح السّياسي والمبالغة في الضّجيج والعراك واختلاق الخصومات وادعاء البطولات؟
لم يكن السّياسيون المشتغلون في «الثّورة» على رؤية واحدة بل ثمّة من لم يكن يمتلك رؤية ولا مشروعا...لم تكن مطالب النّاس متشابهة ولم تكن تأويلات دماء الشّهداء تصدر عن مشكاة واحدة...ثورة من على من؟ ثورة من منِ أجل ماذا؟ لم يكن التّونسيون يقفون على أرضيّة صلبة ولم يكن الهدف واضحًا، كانوا كما لو أنّهم يتحركون على منزلق طيني تتغيّر التّحالفات والصّداقات والشّعارات والمواقف بحسب المصلحة وموازين القوى وبحسب تأثيرات الدّاخل والخارج. تلهج القواعد أمام بعض القادة بضرورة الحسم الثّوري ويذكرون الأزلام والجلادين يُقسمون أنّهم لن يمروا.. يتكلّم بعض الزّعماء في النّهار عن المحاسبة والعدالة ثم يلتقون في اللّيل مع «الخصوم» باسم الواقعيّة والتّسامح والمصلحة الوطنية...يُجَمع الزعماء الحشود الشعبية في الساحات والشوارع ولكنهم لا يُفعّلونها في معاركهم ولا يحسمون بها خصوماتهم بل ولا ينتصرون بها لشعارات الثورة... بعض الزّعماء يبدؤون بـ «الكبس» ثم يرتخون ويتحوّلون إلى عقلاء يهدئون الأجواء ويصلحون ذات البين ولا يجيبون عن أسئلة الجماهير: لماذا حشدتنا إذن؟ ولماذا تخلّيت عنّا؟ ومن هم الخصوم ومن هم الأصدقاء للثّورة؟ ومن ثار على من؟.
كنا أشرنا منذ الأيام الأولى لفرار رمز النظام السابق إلى أنّ الأوهام الكبيرة ستخلف صدمات في عقول وأنفس الواهمين... لقد صُدِم الحالمون حين رأوا «الثّورة» تحني هامتها لـ «الأزلام» وتتفاوض من أجل الحفاظ على عنوانها فقط حتّى وإن أفرغ من مضامينه بحيث تُصبح الثّورة بغير جماهير وغير شرعيّة وغير مناضلين وبلا ثوريين...
تُصبح ثورة بملامح وتعريفات جديدة وخصوصيّات لم تسبقها إليها ثورة من ثورات التّاريخ، إذ يتصالح الجميع مع الجميع ويركب الكلّ في سفينة «الفرقة النّاجية» ولا يَغرق أحدٌ لا في البحر ولا في سوء أعماله...ثورة لا تحاكم ولا تسجن ولا تعدم ولا تمارس الحسم الثّوري بل ولا تفصل بين القدامى والجدد .. يتحوّل المهجّرون والسّجناء والمعذّبون إلى «سلطة» ... فاشلة...ويتحوّل جزء من المنظومة القديمة إلى جزء من «المعارضة» تتباهى بإسقاط السّلطة ...ويُستصنع على عجل تاريخ نضالي لرهط من الحمقى والمخنثين يُواجهون به رجالا هشم الاستبداد شبابهم وعنفوانهم وانتصرت لهم «الثّورة» التي استنصرتهم ... سلطة من إفرازات «الثّورة» ولكنّها بغير سلطان، فلا تنفذ قرارا ولا تُطاعُ ولا تصنع خبرا ولا تردع متهتكا... «ثورة» يُهانُ فيها من دفع من أجلها ثمنا ويُكرمُ فيها التفهاءُ والفارغون.
لقد صُدم الكثيرون وهم يرون مسار الثورة يتحول إلى «خارطة طريق» ودرب الجماهير يتحول إلى «طاولة حوار» وهتافات الشّعب تتحول إلى «رباع راعٍ» واستحقاقات الثورة تتحول إلى «توافق»... ثم تتالى الصّدمات: خروج المُنتَخبين من الحكم/ محاكمة شباب الثّورة/ عودة مفردة «الإرهاب»/ مراجعة التعيينات / ضبط مواقيت المساجد... وهي إجراءات تعود بالتّونسيين إلى ذاكرة الخيبة حين ارتدّ صاحب البيان عن بيانه.