في الصميم

بقلم
حسين السنوسي
نهايات الجولة الأولى
 1. أحاول أن أتذكّر الأيّام والأسابيع الأولى من الرّبيع العربي فيبدو لي أنّ دهرا طويلا مرّ عليها. أبحث في ذاكرتي فأرى -أوّل ما أرى- حاجز الخوف قد سقط وألسنة النّاس قد تحرّرت. أرى الشاعر العربيّ جدّا تميم البرغوثي يقول: 
«سئمت بلاد المسلمين طغاتها *** فجدوا بلادا للطغاة سواها» 
ثمّ بالعامّيّة المصريّة: « ياصبح طلّعت روحنا لجل تيجي ياخيّ».
2. أرى أيضا وجوها جديدة تغزو بلاتوهات التلفزيون معلنة إلغاء المسافة بين تونس الواقع وتونس الرّسميّة. كان هذا هو الجانب العمليّ للثّورة : دخلت الميدان قوى فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة كانت ممنوعة لمدّة ستّين سنة على الأقلّ. بعض هذه القوى كانت تمثّل -فكريّا وطبقيّا وجهويّا - ما يمكن تسميته بتونس الجديدة صاحبة المصلحة في التّغييرالتّي تحلم بوحدة الأمّة وبتحرير فلسطين وبأن تطأ القدم العربيّة أرض المرّيخ إضافة طبعا -وهذا مرتبط بذاك- إلى توفير الخبز والكرامة لكلّ بيت. 
3. كانت أيّاما من أيّام الوطن. بعضنا ظنّ أنّ أحلام روّاد النّهضة ستتحقّق أخيرا وأكثرنا تفاؤلا قال إنّها بدايةّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة الثّانية. كانت دواعي الأمل بسيطة إلى حدّ السّذاجة : هذه الأمّة -وهذا القطر بالذّات- تملك من الكفاءات ما لا يعدّ ولا يحصى، فبسقوط سدّ الإستبداد ستتمكّن هذه الكفاءات من التّعبير عن نفسها في ميادين السّياسة والإقتصاد والفكر، فإذا فعلت ذلك -وهي لابدّ فاعلته- فستكون بداية النّهضة -أوليست النّهضة هي الهدف الأسمى والأكمل للثّورة ؟ 
4. كان المتفائلون يعلمون أنّ العدوّ في الدّاخل والخارج «لا يريد» وأنّه قادر على إفساد اللّعبة وأنّ الإستبداد حيوان متعدّد الرّؤوس لكنّ الأمل في تلك الأيّام كان أقوى من الحذر لذلك لم يعر المتفائلون والحالمون اهتماما كافيا للأضواء البرتقاليّة التّي كانت تشتعل في كلّ مكان.
5. متى بدأت الصّعوبات الحقيقيّة تحديدا؟ يبدو لي أنّ هناك محطّات عديدة قادت الرّبيع من الأمل إلى الفشل ثمّ إلى ما يشبه اليأس ومن المدّ الثّوري إلى جزر ثوريّ مضادّ أقوى منه وأوسع.
6. هذه المحطّات شديدة الإختلاف في طبيعتها كما في مكان حدوثها ومدّتها لكن يجمع بينها التّأثير الكارثي على مسيرة الثّورة وتناسقها ومعنويّات من كانوا يؤمنون بها.
7. أولى هذه المحطّات هي التّدخّل الغربي في ليبيا الذّي كان مسمارا أوّلا وضخما دقّ في نعش ربيع العرب. يكفي أن نسأل «لماذا الثّورة ؟» لكي ندرك أنّ ما حدث كان خطوة عملاقة إلى الوراء رغم تبريرات الشّيخ القرضاوي وحديث البعض عن حلف الفضول وتظاهر البعض الآخر بأنّهم لم يدركوا التّناقض الصّارخ بين ما تفترضه الثّورة وما كان يمارس باسمها.
8. لماذا تقوم الشّعوب -والشّعوب العربيّة بالذّات- بالثّورة ؟ لأنّها تريدها طريقا إلى «الخبز والحرّيّة والكرامة الوطنيّة». يعني إنهاء التّبعيّة ونظم الحماية ونهب الثّروات ثمّ تأسيس علاقات جديدة مع الآخرتقوم على النّدّيّة. العكس تماما هو الذّي حدث في ليبيا.
9. عدةّ أسباب رشّحت ليبيا لتكون الحلقة الأضعف التّي منها بدأ العدّ التّنازلي. أوّلها تبعيّة جزء من المعارضة اللّيبيّة لمخابرات أجنبيّة وثانيها غطرسة النّظام الليبيّ السّابق ودمويّته وهذا ما اتّخذته القوى الغربيّة تعلّة للتّدخّل.
10. بعد ليبيا جاء دور سوريا. كانت هذه هي المحطّة الثّانية. هناك أيضا بدأ التّحرك هادئا وسلميّا لكنّ تحالفا ضمنيّا بين الإستبداد والإستعمار الجديد، بين الرّجعيّة والرّجعيّة، بين الطّائفيّة والطّائفيّة فتح أبوابا للجحيم لم تغلق إلى يوم النّاس هذا.
11. الوضع في سوريا أدّى إلى ولادة كائن خرافي يحمل اسما مخيفا لم يقف عند حدود الشّام ولا عند حدود العراق المجاور بل تمدّد كالسّرطان وانتشر في دار الإسلام وخارجها وأسرف في القتل -قتل العزّل أساسا- وفي الحرق والهدم.
12. لا بدّ أن نشير أيضا قبل أن ننهي الحديث عن هذه المحطّة إلى أنّ تعامل «النّظام الثّوري» في تونس مع الأزمة السّوريّة كان على درجة استثنائيّة من الرّداءة وتميّزبالإرتجال وبغياب الحكمة والمهنيّة فأضاف ذلك عاملا آخر لإضعاف المدّ الرّبيعيّ وممثّليه.
13. إذا كانت المحطّتان الأوليان للتّراجع قد أسالتا دماءا غزيرة وأزهقتا أرواحا كثيرة، فإن المحطّة الثّالثة لم ترق إذا صحّ القول «إلّا» دم رجل واجد ولم تزهق «إلّا» روحا واحدة، لكنّ نتائجها كانت استثنائيّة ونجاحها -من وجهة نظر «الفاعل الحقيقي» للجريمة- كاملا.  
14.  مثّل اغتيال السّياسي اليساري شكري بالعيد صدمة بالغة القسوة للتّونسيّين وطعنة في ظهر الثّورة وفتح الباب أمام ما سيحدث بعد أقلّ من سنتين: عودة النّظام القديم -في ثوب جديد-. إضافة إلى هذا فإنّ دلالات هذه الجريمة كانت مضاعفة: أوّلا «الثّورة المضادّة» مستعدّة لاستعمال كلّ الوسائل للوصول إلى أهدافها وثانيا : يبدو أنّ الفاعل الحقيقيّ للجريمة يملك ما يكفي من القوّة لمنع الحكومات المتعاقبة من كشفه.
15. يعود المسار الثّوري يوم تجرؤ حكومة تونسيّة على الإجابة على سؤال «شكون قتل شكري؟». هذا سؤال من أسئلة الثّورة.    
16. نعود إلى محطّات التّراجع. في بداية شهرجويلية 2013 انقلب وزير الدّفاع المصري على رئيسه المنتخب معلنا بذلك النّهاية الفعليّة للرّبيع العربي والعودة إلى المشهد القديم (حكم العسكر والقوى القديمة بصفة عامّة) والممارسات القديمة  (الإيقافات والتّعذيب والحكم بالإعدام) واللّغة القديمة (اتّهام الخصوم بالإرهاب مثلا).
17. إذا كان الإنقلاب المصري هو الإنجاز الحقيقي للـ «ثورة المضادّة» وكان كلّ ما سبقه مجرّد تحضيرات فإنّ ماتلاه لم يكن أكثر من «رتوش» تمّ بها إتمام الصّورة النّهائيّة للمشهد الجديد.
18. في تونس  فشلت محاولات نقل السّيناريو المصري رغم عنف الحملة التّي قام بها البعض في سبيل ذلك ورغم جريمة أخرى ارتكبتها «الثّورة المضادّة» (اغتيال الحاج محمّد البراهمي) . أدّت الحملة في النّهاية إلى تكليف حكومة تكنوقراط وبعد ذلك بسنة ونصف وصل حزب نداء تونس إلى الحكم -كما كان لا بدّ أن يصل (الرّتوش المذكورة في النقّطة السّابقة) - فنزل بذلك السّتار على الرّبيع العربي أو على الأقلّ على الفصل الأوّل منه.
19. مضى اليوم على فتح القوس الثّوري سبع سنوات وعلى إغلاقه أربع سنوات وهذه مدّة كافية للملاحظة ومحاولة الفهم.
20. الملاحظة أوّلا. لم يتحقّق هدف واحد من الأهداف التّي اعتبرت أو كان يمكن اعتبارها أهدافا للثّورة. الإقتصادات العربيّة في أسوإ حال. التّجزئة والتّبعيّة تعمّقتا. «الحرقة» صارت الأمل الوحيد لكثير من الشّباب. على المستوى الإعلامي عادت إلى الواجهة نفس الوجوه ونفس الخطابات التي ظننّا أنّ الثّورة قامت ضدّها. على مستوى القيم انتعشت كلّ القيم السّلبيّة بدون استثناء. على المستوى الثّقافي لا يملك الذّي يشاهد التلفزيون إلّا أن يعبّر عن اشمئزازه من اللّغة الرّكيكة التّي يستعملها الجّميع تقريبا-من الصحافيّين والسّياسيّين والمثقّفين إلى لاعبي كرة القدم وفنّانات الدّرجة العاشرة.
21. لولا خشية الوقوع في التّبسيط المانوي لقلت إنّ الجولة الأولى من الرّبيع العربي انتهت بانتصار قوى الشّر على اختلاف مشاربها على قوى الخير.
22. أقول هذا ثمّ أستدرك. كسبنا من الرّبيع العربي-في تونس أساسا- مكسبا لا يمكن تجاهله : حرّية الكلمة أو على الأقلّ سقوط حاجز الخوف.
23. أستدرك ثمّ أعود. هذه الحرّيّة يستعملها دعاة الهدم والذّين قامت «ضدّهم» الثّورة أكثر من البنّائين و الذّين قامت من «أجلهم» الثّورة. هي حريّة محدودة يوضع المتمتّعون بها تحت الرّقابة وترسم لهم حدود لا يتعدّونها. في انتخابات 2014 مثلا كانت الحدود واضحة : إذا فازت في الإنتخابات الجهة التّي تعلمون فستعود الإغتيالات وقد «نضطرّ» لنقل السّيناريو المصري. هي أخيرا حريّة الكلام. كدت أقول «حرّيّة الثرثرة». أمّا حرّيّة الفعل فمسألة أخرى.   
24. بعد الملاحظة لا بدّ من محاولة الفهم. لماذا فشل الرّبيع العربي ؟ فشل في ماذا؟ في تحقيق أهداف الثّورة. وهل كانت للثّورة أهداف ختّى تتحقّق ؟ ألم تكن الثّورة تحرّكا عفويّا لا قيادة له ولا وجهة ؟
25. سقوط النّظام القديم لم يكن يرجى منه أن يحقّق «أهداف» الثّورة بل «شروطها». وشروط الثّورة كتغيير عميق نحو الأفضل هي تحرير الطّاقات والخروج من السّلبيّة وانطلاق المبادرة -فرديّة كانت أو جماعيّة- نحو فتوحات جديدة في كلّ الميادين.
26. هل حصل هذا؟ لا، بل لعلّ العكس هو الذّي حصل و يكفي أنّ نضرب لذلك مثالا واحدا يتعلّق بملفّ أساسيّ هو ملفّ البطالة. 
27. تميّزت معالجة هذا الملفّ في الأشهر الأولى للثّورة بقدر لا بأس به من الشّعبويّة العبثيّة على المستويين الإقتصادي والتّنظيمي إذ أنّ الإنتدابات في القطاع العامّ لم تراع حاجيّات المؤسّسات ولا إكراهاتها.
28. في المقابل كانت انتظارات بعض العاطلين تنطلق من أنّ العمل (أو بالأحرى الوظيفة) حقّ لا تنازل عنه. من هنا جاءت التّسمية الغريبة التّي أطلقها بعضهم على أنفسهم : المعطّلون (بفتح الطّاء) وهي تسمية اتّهاميّة تضع مسؤوليّة «التّعطيل» على طرف محدّد : الدّولة. 
29. أين الخلل إذن ؟ في بداية الثّورة سمعت صديقا يقول «إنّ مستقبل البلاد متوقّف على ما سيفعله رجال الأعمال» وأقول تصديقا وتدقيقا إنّ مستقبل هذا البلد الطّيّب -والأمّة عموما- متوقّف على تطوير روح المبادرة والمغامرة والفتح والإكتشاف في ميادين الإقتصاد والعلم والتّكنولوجيا أوّلا وأساسا.
30. نلخّص هذه النّقطة قبل المرور إلى ملاحظة سريعة نختم بها هذا الحديث. ماكان للثّورة أن تنجح والمجتمع الذّي قامت فيه لا يملك قدرا كافيا من العقلانيّة وروح المبادرة وثقافة العمل-على الأقلّ في مستوى النّخب التّي ينتظر منها أن ترسم خارطة الطّريق. 
31. ملا حظة أخيرة ما كان بالإمكان أن نكتب في هذا الموضوع دون أن نثيرها: كان الربيع عربيّا في امتداده ثمّ صار إسلاميّا في مضمونه عندما أمكن للنّاس أن يختاروا من يمثّلهم ومن يحكمهم لكنّ الكثيرين في الدّاخل والخارج لم يريدوه عربيّا ولا إسلاميّا. قد يكون من المهمّ أن نبحث في هذا التّناقض عن بعض أسباب الخيبة. 
32. للحديث شجون وقد تكون له بقيّة.