الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
مواقع النجوم :جدلية اللغة والمعارف العلمية (ج2)
 رأينا في المقال السّابق أنّ المادّة «وقع» تدلّ في الأصل على السّقوط والتّثبت. وبيّنا أنّ التّفاسير القديمة التزمت بتلك المعاني واعتبرت ما كان يبدو حقيقة أي حركة النّجم عند الغروب وقوعا. سنواصل في هذا المقال عرض ما قيل في الحاضر حول الكلمة القرآنيّة «مواقع النّجوم» لنقترح ما نراه تأويلا أكثر قربا للحقيقة الفلكيّة وأوفى للمعنى الذي يقتضيه اللّسان العربي. ونبدأ بتلخيص لما وجدناه في تفسير النكت والعيون للماوردي (ت 450 هـ) عن مواقع النّجوم وهي ستة أقاويل«:أحدها: أنّها مطالعها ومساقطها، قاله مجاهد.الثاني: انتشارها يوم القيامة وإنكدارها، قاله الحسن.الثّالث: أنّ مواقع النّجوم السّماء، قاله ابن جريج. الرّابع: أنّ مواقع النّجوم الأنواء التي كان أهل الجاهليّة إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، قاله الضّحاك، ويكون قوله: { فلا أقسم } مستعملاً على حقيقته في نفي القسم بها.الخامس: أنّها نجوم القرآن أنزلها الله من اللّوح المحفوظ من السّماء العليا إلى السفرة الكرام الكاتبين في السّماء الدّنيا، فنجّمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجّمه جبريل على محمد صلّى الله عليه وسلّم عشرين سنة، فهو ينزّله على الأحداث في أمّته، قاله ابن عباس والسّدي. السّادس: أنّ مواقع النّجوم هو محكم القرآن، حكاه الفراء عن ابن مسعود»
في التّأويل الحديث الرّائج، ابتعدت الكتابات عن المعنى الأصلي واتّكأت على الاستعمال الذي فيه تشبيه لكلمة موقع على اعتبار أنّها تعني مكان الحلول وليس السّقوط كما رأينا في الجزء الأول. 
(1) مواقع النجوم هي الأماكن التي تمرّ بها 
في جريها عبر السّماء !(زغلول النجار)
من أين استمدّ القائلون بهذا المعنى تأويلهم؟ ومواقع النّجوم: بالنّسبة لزغلول النّجار «هي الأماكن التي تمرّ بها في جريها عبر السّماء وهي محتفظة بعلاقاتها المحدّدة بغيرها من الأجرام في المجرّة الواحدة‏،‏ وبسرعات جريها ودورانها‏،‏ وبالأبعاد الفاصلة بينها،‏ وبقوى الجاذبيّة الرّابطة بينها» ورغم أنّه يقول في نفس السّطر «واللّفظة مواقع جمع موقع يقال‏:‏ وقع الشّيء موقعه،‏ من الوقوع بمعنى السّقوط‏» فإنّه لن يعير فيما بعد لما قاله أي اهتمام إذ لا يلتزم في بقيّة ما يكتب بما ذكره عن معنى «موقع» لغويّا ليصل إلى نتيجة مفادها أنّ «هذا القَسم القرآني العظيم بمواقع النّجوم يشير إلى سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى إحدى حقائق الكون المبهرة‏،‏ والتي تقول أنّه نظراً للأبعاد الشّاسعة التي تفصل نجوم السّماء عن أرضنا‏،‏ فإنّ الإنسان على هذه الأرض لا يرى النّجوم أبدا، ولكنّه يرى مواقع مرّت بها النّجوم ثم غادرتها‏، وعلى ذلك فهذه المواقع كلّها نسبيّة، وليست مطلقة» ‏وقد أخذ عنه الكثيرون بأنّ مواقع النّجوم هي الأماكن التي تمرّ بها وسال حبر كثير يتكلّم عن أماكن وجود النّجوم في الفضاء واستحالة معرفة ذلك على وجه الدّقة وهذا ما جعلهم يستنتجون عظمة القسم.
ونجد في موقع «جامعة الإيمان» مقالا لعادل الصّعدي يردّد فيه نفس الفكرة يقول فيه «ما كان الإنسان يستطيع قياس الأبعاد التي بينه وبين النّجوم، في الوقت الذي كان يستخدم فيه مقاييس بسيطة تعرف بالفراسخ أو الأميال، وعلى أشدّ الأحوال قياس تلك المسافات وتقديرها بالأيّام، لكن لمّا جاء العلماء في العصر الحديث وأخذوا يدرسون النّجوم والأجرام السّماوية الأخرى، وجدوا أنّ السّماء تتكوّن من تجمّعات هائلة من النّجوم والكواكب والأجرام الأخرى، وأسموا كلّ تجمع من تلك التّجمعات بـ(المجرّة). واستطرد في الحديث عن مكوّنات السّماء والأبعاد الفلكيّة بينها وحركاتها المعقّدة ناقلا كلّ ذلك عن النّجار ليصل إلى نفس النّتيجة.
وفي موقع «موسوعة الكحيل للإعجاز العلمي» لعبد الدّائم الكحيل يؤكّد هذا الأخير في أوّل فيديو له من سلسلة حلقات تليفزيونيّة على أحد ضوابط الإعجاز العلمي بأنّ «دلالة الآية يجب أن تتّفق مع الحقيقة العلميّة حتّى يتحقّق الإعجاز» ويعطي مباشرة مثالا على ذلك وهو مواقع النّجوم. فيبدأ بالحديث عن حركة النّجوم وسرعاتها الكبيرة وأبعادها الهائلة ممّا يعني تغير مواقعها (يقصد أماكنها) باستمرار مع استحالة معرفة أين هي الآن بحكم أنّ الضّوء الصّادر عنها يتطلّب وقتا كبيرا ليصلنا، وعند وصوله إلينا تكون قد غيّرت موقعها بدون أن يشير ولو قليلا إلى المعنى اللّغوي للفظ «موقع» الذي يبني عليه تأويله. فالكحيل يعبّر صراحة بأنّ كلّ ما يتعلّق بأماكن وجود النّجم من حركة ومسافة وغيرها يتناول تحت عنوان موقع وكأنّ المسألة بديهيّة وهو ما لا تسمح به اللّغة التي أكّد عليها في البداية.
نختم بموسوعة فضيلة الدّكتور «محمد راتب النّابلسي» حيث يتجسّد انفصال المعنى اللّغوي بالكامل عن مضمون مصطلح «مواقع»، فنتساءل عندها ما علاقة المصطلح القراني بالمصطلح العلمي حتّى نتكلّم عن الإعجاز. يطرح الكاتب السّؤال التّالي:«ما هي المعاني التي تلتفّ حول موضوع مواقع النّجوم» ؟ فيجيب «لهذه المواقع معانٍ ثلاث: المعنى الأول؛ المسافة الشّاسعة بين هذه المواقع،المعنى الثّاني؛ هو تعدّد هذه المواقع وأمّا المعنى الثّالث فهو تنوّع الكتل في هذه المواقع». أين معنى الوقوع في كلّ هذه المعاني التي تلتف حوله؟. إنّها حقّا تلتفّ على المعنى الحقيقي وليس حوله!
لقد بيّنت المعطيات الفلكيّة فعلا أنّ أيّ محاولة لتحديد موضع نجم ما بالنّسبة لبقية النّجوم هو أمر صعب حقّا كما يزداد صعوبة بقدر ما يكون أبعد. وأنّ كلّ ما يمكن أن نتوصّل إليه في تعيين مكان نجم بالنّسبة لأيّ مرجع نختار في الفضاء هو بالضّرورة معلومة عفي عليها الزّمن لأنّ لا سبيل للانتقال الآني للضّوء من النّجم إلينا. إنّنا نعيش في كون تفصلنا عن حقيقة ما يقع (بمعنى يحدث) فيه أربعة سنين على الأقل. فمعرفة مواضع النجوم وأماكنها، وليس مواقعها، بالنّسبة لبعضها البعض وبالنّسبة إلينا كيف هي الآن مسألة لا حلّ لها. فلو أقسم سبحانه بمواضع النّجوم أو أماكنها لوافقنا القائلين بأنّ الحقائق العلميّة تجلّي عظمة المقسوم به أي المواضع أمّا أن نعتمد على معنى مستحدث يحمله مصطلح «موقع» الذي يعني موضع جسم بالنّسبة لمنظومة مرجعيّة لنقول بتطابق القول الإلهي مع الحقيقة المتمثّلة في استحالة معرفة أين توجد النّجوم الآن أو في أنّ ما نراه ما هو إلاّ موقع مرّ به النّجم، فذلك ما لا يمكن قبوله لتضادّه مع اللّغة. فليس في اللّسان العربي ما يفيد أنّ الموقع هو المكان الذي مرّ به جسم متحرك، حصانا مثلا يجري ونقول أنّه مرّ بالموقع الفلاني إلاّ أن يكون الموقع هو مكان وقوع جسم ما قبل مرور الحصان به وليس موقعا للحصان نفسه.
بعد أن بيّنا أنّ اللّغة لا تسمح باعتبار الأماكن التي تمرّ بها النّجوم في حركتها المعقّدة مواقع إذ ليس هناك سقوطا ولا تثبّت، فما هي المواقع إذن التي أقسم بها الله وأكّد أنّها عظيمة؟ لمحاولة الإجابة على السّؤال سنلتزم حرفيّا بمعنى كلمة «موقع» وسنعتمد على المعارف المتعلّقة بالنّجوم في بيئتها الفضائيّة كما تصفها النّسبيّة العامّة. لذلك سنبدأ بتعريف سريع بالفضــاء الذي توجد فيه النّجــوم. ثم نعرض ما تقوله النّسبية العامّة حول تفاعل الفضاء مع النّجــوم. وسنركّـــز على تطوّر ذلك التّفاعــل مع تطوّر النّجم وخاصّة في آخر مراحــل حياتها لنصل بحول الله إلى ما نعتقد أنّها مواقع تستحقّ التّعظيــم الإلهــي لأنّهــا تعكــس حقيقــة عظمتــه سبحانـــه.   
(2) مواقع النجوم
أ- الزمكان
كانت السّماء والأرض قبل القرن السّابع عشر عالمين مختلفين جوهريّا في تصوّر الإنسان للأرض. جسّد بطليموس هذا التّصور في نموذج للكون تحتلّ الأرض مركزه ويحيط بها ثماني كرات شفّافة تتحرّك عليها الكواكب والشمس والقمر. أمّا النّجوم فكانت ثابتة على كرة خارجيّة. مع منظار غاليلاي في بداية القرن 17 اكتشف الإنسان أنّ الأرض ليست مركزا للكون إذ تبيّن أنّ لكوكب المشتري مثلا أجراما تدور حوله. أمّا مع نيوتن فتوحّدت السّماء بالأرض. فقد بيّن أنّ ظاهرة سقوط الأجسام على الأرض وحركة الأجرام السّماوية تخضع لنفس القانون. وليس هناك أيّة حاجة لوجود كرات سماويّة لتفسير حركة الكواكب وبقائها معلّقة في الفضاء لا تسقط. نشأ إذا تصوّر جديد للكون يعتمد على قانون الجذب العام. تتحرّك الأجرام في هذا الكون في فضاء لانهائي أزلي وثابت من دون أن يكون لتلك الحركة تأثير على ذلك الفضاء. إنّه وسط لا مبالٍ ولا تاريخ له. فمثلا لو تصوّرنا ماذا يحدث إذا زالت الشّمس فجأة من الوجود حسب هذا النّموذج فستكون الإجابة أنّ زوال الشّمس المفاجئ سينعكس آنيّا على الأرض التي ستضطرب و تخرج من مدارها وتهيم في الفضاء. فقوّة الجذب ألثقالي تنتقل آنيّا بين الأجسام حسب نيوتن مهما كانت المسافة بينها. في فضاء نيوتن اللاّمبالي واللاّنهائي واللاّتاريخي يمكننا أن نتحرّك في اتجاهاته الثّلاثة لكن لا نستطيع التّحرك في الزّمن الذي يترجم تغيّر الأحداث، فهو يظهر كطريق باتجاه واحد. إنّ حياة أيّ كائن ما هي إلاّ سلسلة من التّغيرات تحصل خلال وقت ما وفي مكان ما. في العام 1905 أعلن اينشتين عن نظريّة جديدة لا مكان فيها للزّمان المطلق وللمكان المطلق وللسّرعة اللاّنهائيّة. فلا شيء أسرع من سرعة الضّوء التي بدورها نهائيّة ولا يمكن أن تتجاوز الـ300000 كم في الثّانية وفي الفراغ. وهو ما يتنافى مع الانتقال الآني لقوى الجذب ألثقالي الذي تفترضه قوانين نيوتن. وبحلول العام 1915 ونشر نظريّة النّسبية العامّة أصبح المكان (الفضاء) والزّمان مكوّنين لا ينفصلان لوسط واحد هو الزّمكان. ومفهوم الزّمكان يعكس وجودا حقيقيّا يمكن إدراكه من خلال الأحداث التي تقع على مستوى الكتل المادّية الضّخمة التي تتحرّك في الفضاء كالكواكب والشّمس والنّجوم. فالكتل الهائلة لا تجذب الأجسام القريبة منها بقوّة تنتقل آنيّا بينها كما في فضاء نيوتن بل تسحبها في بعد لا يمكن تصوّره عبر انخفاضات ثقاليّة تخلقها هي وهو ما يسمى بتشويه هندسة المنطقة المحيطة بها. أمّا إذا قمنا بمزامنة ساعتين وأخذنا إحداهما إلى الفضاء المعني بالتّشوّه (واحدة على الأرض مثلا والثّانية في الفضاء المحيط بالأرض) فستخسر هاتان السّاعتان التزامن الموجود بينهما وهذا يثبت أنّ الزّمن جزء من نفس الوسط المكوّن للمكان إذ تؤثّر الثّقالة النّاتجة عن كتلة الجرم على المكان والزمان في نفس الوقت. إنّ الزّمان والمكان مكوّنان لنفس الوسط من حيث العلاقة بالجاذبية الثّقالية. فالثّقالة تشوّه الفضاء فتتحدّد حركة الأجرام وفق ذاك التّشوه وتشوّه الزّمن بالتّأثير في الوتيرة التي يتدفّق بها من الماضي إلى المستقبل. إنّها تحبك نسيجا خفيّا يسمّى الزّمكان. لقد عوض الفضاء الثابت والمحايد واللاّمبالي عند نيوتن بنسيج خفي  يمكن أن يتمدّد أو أن يتقلّص كما أنّ الزّمن الذي يسيل وفق وتيرة ثابتة في كون نيوتن يمكن بدوره أن يتباطأ أو يتسارع، فكل شيء نسبي إلاّ سرعة الضّوء مطلقة. 
ب‌- انحناء الزمكان : الحفر الثقالية
تخبرنا إذا معادلات النّسبية العامّة أنّ كتلة أيّ جرم سماوي تتمتّع بكثافة عالية تنشئ حولها جاذبيّة شديدة تستطيع تشويه النّسيج الزّمكاني الذي يتصرّف كما لو كان صفيحة من المطّاط. يتمثل التشوه في تكون حفرة ثقالية حول الكتلة ذات عمق معين. وكلّما زادت كثافة الجسم ازداد عمق الحفرة. يمثّل الضّوء دليلنا على وجود ذلك التّشوه. فبعيدا عن مجال تأثير الثّقالة تكون مسارات الضّوء خطوطا مستقيمة ومتوازية. ويقول العلماء أنّ هندسة ذلك الحيز من الفضاء مسطّحة. وعند الاقتراب من الجرم السّماوي ينحرف الضّوء ويرسم مساره الشّكل المخفي لخيوط النّسيج الزّمكاني التي تظهر  تشوّها يشبه المنخفض في سطح الأرض. إنّ الوسط الذي تتحرّك فيه النّجوم هو هذا النّسيج وأيّ محاولة لتأويل الآية القرآنيّة التي تصرّح بأنّ للنّجوم مواقع خارج هذا الإطار ألمفهومي الجديد هو بالضّرورة مجانب للحقيقة.
ج‌- موجز لتاريخ النّجم
يبدأ النّجم حياته من تكثّف سحب من هيدروجين. يؤدّي التّكثيف إلى تقلّص حجم السّحابة وانضغاط الهيدروجين وجعل السّحابة تصير دوّامة. ترتفع الحرارة من الخارج إلى الدّاخل وعند بلوغ درجة معيّنة تندمج ذرّات الهيدروجين في بعضها بعضا عند المركز وتتحوّل إلى ذرّات الهليوم معلنة ولادة النّجم باشتعال الجرم بأكمله. يستقرّ النّجم فترة طويلة من حياته إلى أن ينضب الهيدروجين في المركز. يضمن الاستقرار التّوازن بين ضغط الإشعاعات النّاتجة عن الانصهار النّووي والتي تميل إلى تدمير النّجم شظايا وقوّة الثّقالة التي كثّفت السّحابة الأصليّة وقلّصت حجمها. بعد نفاد الوقود الهيدروجيني يتقلّص حجم الشّمس من جديد إلى أن يشتعل الهليوم متحوّلا إلى كربون. لن تقدر الشّمس على الانكماش من جديد، فتتوقّف عمليّة الاحتراق في القلب المكوّن من الكربون ومع الوقت تنخفض حرارة القلب وتتمدّد الطّبقات الخارجيّة لتعطي عملاقا أحمر ثم تنسلخ عن المركز وتتلاشى في الفضاء مخلّفة ما يسمّى قزما أبيضَ الذي سيبرد ليصبح جثة نجميه اسمها قزما أسودا. يحدث هذا السّيناريو إذا كانت كتلة النّجم أقل من أربعة أضعاف كتلة الشّمس. فثقالته غير قادرة على سحق المركز ولا على الإمساك بالطّبقات الخارجيّة.  أمّا النجوم ذات الكتلة التي تكبر كتلة الشّمس بأربعة أضعاف فتدمج الكربون وتحوّله إلى أوكسجين ثم تدمج الأوكسجين إلى نيون فالسيلكون وهكذا تتولّد العناصر الأثقل فالأثقل في اللّب حتّى يتشكّل الحديد وتتحرّك العناصر الأخف إلى الخارج. وعندما يصل الحديد إلى قدر معيّن من الضّخامة  يحدث أمر عظيم. فقلب النّجم حديد وحوله طبقات من العناصر الأخف فالأخف إلى الأعلى وتحت تأثير جاذبية الحديد تنهار تلك الطّبقات فجأة وتهوي باتجاه الحديد متسارعة إلى أن تصطدم به فترتدّ مشكّلة انفجارا يفوق الخيال يدعى «مستعرا أعظم». وفي نفس الوقت ينكمش اللّب الحديدي ويتحوّل إلى نجم نيتروني تتراصّ فيه النّيترونات بشكل غريب لتعطي كثافة تقدر بمليار طن للسنتيمتر مكعب. أمّا إذا كانت كتلة النجم تفوق كتلة الشّمس بنحو عشرين مرّة، فلن تستطيع أيّ قوّة إيقاف عمليّة انسحاق الحديد الذي يهوي بدوره على نفسه ليتقلّص حجمه أكثر فأكثر، فيبتلع نفسه ويغيب عن الوجود ويعطي ثقبا أسودا ذو كثافة لانهائيّة.
د‌- النجم يهوي فيثقب الزمكان ويقع
 لم يقسم تعالى بالنّجم في أيّ آية من القرآن بل بالنّجم إذا هوى (سورة النّجم) والنّجم الثّاقب (سورة الطّارق) وغلظ القسم بمواقع النّجوم (سورة الواقعة). فهل هناك علاقة بين النّجم إذا هوى والنّجم الثاقب ومكان وقوع النّجم؟
هل يكون النّجم إذا هوى المقصود في الآية الأولى من سورة النّجم هو ذلك الذي يولد مستعيرا أعظم أو مستعيرا أعظم فائقا؟ فالهوي هو السّقوط بلا مقاومة. والنّجم عندما ينهار على ذاته فإنّ كلّ أجزائه تسقط بلا مقاومة نحو المركز فتكون مادته كلّها هاوية. وبعد ألهوي وما يسبّبه من انفجار فإنّ المادة في الجرم المتبقي تكون مخصوفة وقد بينا في مقال سابق أنّ تلك الحالة يمكن، لغة، أن تعطي للنّجم النيتروني صفة الطّارق. وإضافة إلى ذلك يحدث ذلك الجرم الكثيف جدّا ثقبا في النّسيج الزّمكاني. لذلك قدّرنا أنّ النّجم النّيتروني يمكن أن يكون هو المقصود بالطّارق الثّاقب. أمّا الثّقوب السّوداء فإنّ كثافتها اللاّنهائية تجعلها تحفر بئرا بلا قاع فتقع فيه وتثبت. إنّ مواقع النّجوم هي بالمعنى الحقيقي للكلمة الجهات التي في السّماء والتي يطلق عليها اسم الثّقب الأسود كما يمكن أيضا تسمية البئر ألثقالي الذي يحفره النجم النيتروني في النّسيج الزمكاني ويستقر فيه نسبيّا موقعا.
(3) الخلاصة
يقول المثل العربي «من حفر جبّا لأخيه وقع فيه». ويقول العلم الحديث من حفر ثقبا في النّسيج الزّمكاني وقع فيه أيضا. فالوقوع في الجبّ على المقياس الأرضي مثل الوقوع في البئر ألثقالي على المقياس الكوني كلاهما تضمنه الجاذبيّة الثّقالية من خلال عمليّة سقوط وتثبّت نسبي. فبعد أن وحّد نيوتن الأرض بالسّماء باكتشاف وحدة  القوانين هنا وهناك صار ممكنا استعمال اللّغة الأرضيّة لوصف الظّواهر الكونيّة. لذلك نقول ونحن مطمئنين أنّ النّجم المنكمش على ذاته سواء إلى مدى معينا ليعطي نجما نيترونيا أو إلى مالانهاية لينتج عنه ثقبا أسودا كلاهما يثقب جبّا ثقاليّا في النّسيج الزّمكاني ويقع فيه بتأثير الثّقالة ليصبح موقعا له في الزّمكان. و الله أعلم.