تاريخنا

بقلم
موسى المودن
الغماريون والدفاع عن الأندلس «قصة بطولة القائد حامد الثغري»
 تقديم
لكلّ أمّة تاريخ، وتاريخ أمّتنا المغربيّة تاريخ عريق راسخ في القدم، تاريخ المجد والعزّة، بصم المغاربة على مراحله بصمات خالدة فوّاحة بريح الوفاء والصّمود ضدّ أي عدوان يستهدف وحدته ووحدة أراضي مسلميه، هذا الصّمود أكسب أهله سمة المدافع والمنجد والمستقبل للمظلومين، بداية من ثكالى ومظلومي الأندلس، ونهاية بلاجئي الجزائر.
وبما أن القبائل الغمارية جزء لا يتجزأ من تراب المغرب وتاريخه، فإنّ دورها ضمن هذا إلإطار كان كبيرا، وذلك لقرب سواحلها من بلاد الأندلس، ولغيرة أهلها على تربة الإسلام ومصير أهله. فقد أثبت الغماريون على غرار ما مرّ عن سابق بطولة في مواجهة الممالك المسيحيّة، ودحرها في عدّة مواقع.
وحريّ بنا كمغاربة أن ننقل شجاعات إحدى أهمّ أعلام هذا الدّفاع المستميت ضدّ أعداء ممالك الإسلام وأهلها، ويتعلّق الأمر بالفارس الأندلسي المقدام «حامد الثغري» وجيشه الباسل من بربر غمارة، لما أبانو عليه من قوّة في الثّبات ضدّ الجيوش المهاجمة، وامتناع عن الاستسلام إلى أخر رمق.
وبما أنّ قلّة تذكر سيرة هؤلاء وتاريخهم، فإنّه لمن الواجب علينا أن نسهم في نعث تاريخ وعبق عظماء أمّتنا إلى باحة الحاضر ثمّ المستقبل، لكيلا تضيع مساهماتهم المجيدة سدى، ولكي نزرع في قلوب الأجيال مستقبلا حبّ الأوطان والغيرة عليها وعلى كلّ تربة من تربتها الزّكية. 
تطوّع الغماريين للدّفاع عن بلاد الأندلس
 كانت ظاهرة التّطوع المغاربي للدّفاع عن الأندلس وثغورها المتقدّمة من المسلّمات التي كان يعيشها الإنسان المغربي في صراعه الوجودي ضدّ الممالك المسيحيّة، فقد اكتسب المغاربة عموما والغماريّون خصوصا تجربة كبيرة في هذا الإطار، بدأت من بداية الفتح الإسلامي حينما جاوزوا البحر نحو البلاد القوطيّة قصد فتحها ونشر الإسلام بها، ومرورا بالتّطوع ضمن الجيوش النّظامية في فترة المرابطين والموحّدين والمرينيّين، وانتهاء بالتّطوع الجماعي بعد ضعف الممالك الأندلسيّة، وهبوب رياح التصدّع على دولة بني مرين، واعتلاء وزرائهم من بني وطّاس سدّة الحكم.
وللغمارييّن سابق حضور في هذه البلاد، فعلى سبيل الذّكر لا الحصر، نذكر شجاعة وبطولة إحدى أهمّ قبائل بربره، وهم ساكنة جبل واد راس، وهو جبل عال بين سبتة وتطوان، ويسكنه قوم من ذوي الجرأة البالغة وقد قدّموا على إقدامهم وجرأتهم براهين ساطعة أثناء الحروب التي وقعت بين ملوك غرناطة وملوك إسبانيا. ومن عادة هؤلاء الجبلييّن الذّهاب إلى غرناطة متطوّعين، وهم على قلّتهم يعدلون من حيث القيمة جميع الجنود النّظاميين لهؤلاء الملوك [1]. 
ظروف سقوط مدينة مالقة ومقاومة حامد وبربر غمارة في رندة.
بعد السّقوط المدوّي للدّولة المرينيّة واعتلاء وزرائها من بني وطاس سدّة الحكم، ساد في بلاد المغر ب نوع من التّشتّت، تجلّى في ضعف سلطة الوطاسييّن على أرجاء البلاد، ممّا انعكس سلبا على الأوضاع في بلاد الأندلس، وعجّل تدريجيا بسقوط آخر قلاعها.
في هذه الأثناء، كانت الأوضاع حول مملكة غرناطة وفي قلبها جدّ مضطربة، فقد سيّر ملك قشتالة في نفس الوقت قواته فى أنحاء مملكة غرناطة، لكي تنتزع أثناء الاضطراب العام، كل ما يمكن انتزاعه. من القواعد والحصون الإسلاميّة. وزحف القشتاليّون على منطقة الغربيّة (غربى ولاية مالقة) فى أوائل سنة 890 هـ، واستولوا على حصن قرطبة، وحصن ذكوين وعدّة حصون أخرى تقع شمال غربي مالقة، فى منتصف الطّريق بينها وبين رندة [2].
 بعد هذه الهجمات القويّة المتلاحقة عُزلت مدينة رندة، وأصبح الطّريق ممهّداً للاستيلاء عليها. وعلى أثر ذلك زحف القشتاليّون على رندة وهي معقل الأندلس فى قاصية الغرب وهاجموها، وضربوها بالأنفاط حتّى هُدّمت أسوارها، وكانت حاميتها بقيادة حامد الثغرى زعيم قبيلة غمارة، ولم يستطع أهل رندة أن يثبتوا طويلا لعدم استعدادهم للدّفاع، ولبعدهم عن العاصمة، ويأسهم من تلقّى الإمدادات السّريعة، فطلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم؛ واستولى القشتاليّون على رندة فى جمادى الأولى سنة 890 هـ (أفريل/أبريل سنة 1485 م). ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن والحصون الواقعة فى تلك المنطقة. وكان سقوط هذه المدينة الأندلسيّة التالدة ضربة شديدة للمسلمين، وبسقوطها انهارت كل وسيلة للدّفاع عن منطقة الغربية، وأصبح القشتاليّون بذلك يهدّدون ثغر مالقة من الغرب [3]. 
دفاع حامد الثغري وبربر غمارة على مدينة مالقة.
بعد سقوط مدينة رندة في يد الممالك القشتاليّة، وبعد اقتناع حامد وجيشه من بربر غمارة باستحالة إرسال مدد من الدّول الإسلاميّة في شمال إفريقيا، طلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم، ليس اتجاه مواطنهم الأصلية في قبيلة غمارة، بل توجهوا نحو مدينة مالقة، من أجل توطيد جيوش المدينة، وتوطيد الدّفاع عنها، فصار هذا القائد الفذ من كبار قواد الدّفاع عنها.
 وبعد سقوط قاعدة بَلِّش حصن مالقة من الشّرق فى يد النّصارى، وبعد دفاع عنيف، فى جمادى الأولى سنة 892 هـ (ماي/ مايو 1487م). استولى النّصارى على جميع الحصون والقرى المجاورة ومنها حصن قمارش وحصن مونتميور، واستطاعوا بذلك أن يشرفوا على مالقة من كلّ صوب. وفي سنة 892 هـ (جوان/ يونيو 1487م) زحف جيش قشتالة على مالقة وطوّقوها من البرّ والبحر بقوّات كثيفة، فامتنع المسلمون داخل مدينتهم، وكانت تموج بالمدافعين وعلى رأسهم نخبة مختارة من أكابر الفرسان، ومعهم بعض الأنفاط والعُدد الثّقيلة [4].
وفي المقابل، كان يتولّى الدّفاع عن الثّغر المحصور من جهة حصن جبل الفارو جند غمارة وزعيمهم حامد الثّغري. وأبدى المسلمون في الدّفاع عن ثغرهم أروع ضروب البسالة والجلد [5]. واستمرّ دفاعهم عن المدينة أيّاما، فحاولوا غير مرّة تحطيم الحصار المضروب عليهم، وفتكوا بالنّصارى في بضع مواقع محلّية، ومع ذلك فقد ثابر النّصارى على ضغطهم وتشديد نطاقهم، حتّى قطعت كلّ علاقة للمدينة المحصورة مع الخارج، ومنعت عنها سائر الأمداد والأقوات [6]. 
خيانة تجار المدينة والتجاء حامد وبربر غمارة نحو حصن الفارو.
بعد طول حصار القوات القشتاليّة للمدينة، وقطع المدد عنها برّا وبحرا، وبعد اشتداد الحصار المروّع، واستنفاد كلّ ما وصلت إليه أيديهم من الأقوات، فأكلوا بعد ذلك الجلود وأوراق الشّجر، وفتك بعائلاتهم الجوع والإعياء والمرض، مات الكثير منهم في هذا الحصار. لم يجدوا بعد ذلك سوى الاستسلام، لكن بتواطؤ مع تجّار المدينة، والذين كان يتزعّمهم رجل يدعى « علي دردوش» حيث سلّم إليهم المدينة عبر فتحه للقصبة التي كان يشرف على تسييرها.
فاستطاع الجيش القشتالي القويّ، المكوّن من 12ألف فارس و25 ألف من المشاة و8 آلاف من جنود الدعم، اقتحام المدينة التي كان يدافع عنها 15 ألف من الغماريين المغاربة والمقاتلين المالقيين، ففرّ حامد وبربر غمارة إلى جبل الفارو. ليبدؤوا بذلك مرحلة أخرى من المقاومة ورفض ما قام به تجّار المدينة من تسليم لها وترك الغمارييّن والمالقييّن لقمة صائغة في أيديهم. فسقطت مالقة بعد دفاع مجيد استطال ثلاثة أشهر في أيدي النصارى، وذلك فى أواخر شعبان سنة 892 هـ (1487 م) [7].
مصير بربر غمارة وحامد الثغري وباقي ساكنة المدينة 
بعد سقوط المدينة وانسحاب حامد الثّغري وبقايا جيشه من الغمارييّن والمالقييّن، لم يحافظ فرناندو على ما بذله لأهلها من عهود لتأمين النّفس والمال، وأصدر قراراً ملكيّاً باعتبار أهلها المسلمين رقيقاً يجب عليهم افتداء أنفسهم ومتاعهم، ويفرض على كلّ مسلم أو مسلمة مهما كان السّن والظّروف، الأحرار منهم والعبيد الذين فى خدمتهم، فدية للنّفس والمتاع [8]. إلاّ أنّ هذا القرار لم يشمل بني الثغري وزوجاتهم وأولادهم؛ ثم دخل النّصارى المدينة دخول الفاتحين، وعاثوا فيها وسبوا النّساء والأطفال، ونهبوا الأموال والمتاع [9]. وعلى إثر هذه الأوضاع المتلاحقة، توجّهت كتيبة من القشتالييّن، إلى حصن الفارو لمحاصرة حامد والعناصر الغمارية والمالقيّة المتمنّعة في الحصن، وفي اليوم الموالي اجتاحت القوات النّصرانية الحصن فاعتقل حامد ومن معه ثمّ قتلوا جميعا بعد سجنهم في مطامر تحت الأرض.
وحامد الثغري هو القائد البطل المقاوم الذي كان يشدّ على أهل المدينة بالصّمود، لكنّ غدر القريب قبل القشتاليّين كان أنكى، وقبل أن يعذّب ويقتل سأله الملك القشتالي المجرم فرناندو: « كيف تصمدون في دفاع لا طائل من ورائه؟» فأجابه حامد: «أقسمت وأنا أتولى المسؤوليّة على الموت أو الأسر دفاعا عن شريعة ومدينة وشرف من كلّفني بذلك، وإذا ما عزّ النصير فإنّي أهوى الموت مقاتلا على أن أُأسر دون أن أُدافع عن المدينة !!»
أدوار أخرى للغماريين في الأندلس بعد سقوطها
لم تقف أدوارالقبائل الغماريّة عند هذا الإطار، بل صنعت أمجادا خالدات بمعيّة المطرودين في بحار الأندلس والمغرب، وعند ضفاف أرضه الأبية، فسطّروا بذلك الخلود لهذه البطولات، والشّجاعة بهذه الانتصارات المبهرات.
حيث رافق بوادر التصدّع الأندلسي المغربي بعد ذلك، بروز عدّة كيانات مستقلّة، على شكل رباطات في شمال المغرب، أهمّها كان في قلب القبيلة الغماريّة، وأطلق عليه رباط شفشاون، وأخذ شكل حصن، ثم تحوّل إلى مدينة؛ وكان من تولى إقامة هذا الرّباط، الأمير الغماري مولاي علي بن راشد الحسني، وذلك بسبب استفحال التّهديد الأوروبّي على سواحل المغرب الشّماليّة والجنوبيّة.
 وأمام هذا التّهديد الأجنبي الخطير، كان التّفكير في إنشاء أسطول بحريّ يساند الوحدات البريّة أمرا ملحّا، في ظلّ التّفوق البرتغالي على الأرض والبحر، وانطلاقا من مرسى ترغة، التي تقع بقبيلة بني زيات الغمارية؛ سيكون تدشين الأسطول الترغي، حيث سيجعل منها الأمير مولاي اعلي بن راشد سنة: (885هـ -1480م) قاعدة لأسطوله الجهادي، الذي أذاق سفن البرتغال وإسبانيا الأمرين؛ الشيء الذي جعل ملوك البرتغال يشنون على القاعدة المذكورة عدة حملات [10].
وسيستمر دفاع الغماريين عن المرافئ الغمارية بمعية الأندلسيين المطرودين من طرف الجيوش الغازية إلى فترات متأخرة؛ وفيما بعد سينتج عن هذه الهجرات الأندلسية انصهار كبير بين هذه المكونات، وتعايش قلما برز بين المكونات العرقية في منطقة أخرى. كما ان المغرب سيتأثر كثيرا بسبب هذا التمازج، كما ستبرز مدن أندلسية صرفة، كشفشاون وتطوان.
خاتمة
دائما تحاول الأمم المتألقة النبيهة إبراز عظمائها أمام أجيالها الصاعدة الناشئة، ليس فقط من أجل تمجيد أسماء ماتت منذ سنوات عديدة، وإنما لتجديد دماء الثقة والوفاء في قلوب الأجيال الجديدة.
وذكرنا لهؤلاء الأبطال من -البربر الغماريين-، ماهو إلا تجديد لرؤيا لم يبرز من ثنايا عبقها إلا القليل، سواء في تناول الحقائق، أو ذكر لهذه الأسماء؛ وبعث روح التألق والوفاء في قلوب لم تسأم يوما حتى ولو كانت هي نفسها في أشد الحاجة إلى العون، من شأنه أن يعمل على تغيير النظرة الموسومة عن تاريخنا لدى أغلب العامة، كما من شأنه أن يعمل على توطين روح الحب والوفاء والتضحية من أجل الوطن وأهله.
الهوامش
(1) الحسن الوزان، وصف إفريقيا، (ج/1)، (ص/325).
(2) و(3) محمد عنان، دولة الإسلام في الأندلس، القاهرة، مكتبة الخانجي، (ط/1997م)، (ج/5)، (ص/206).
(4) و(5) و(6) المصدر السابق، (ص/216).
(7) و(8) و(9) المصدر السابق، (ص/217).
(10) محمد عزوز، مولاي اعلي بن راشد، تطوان، منشورات مطابع الشويخ، (ط/1998م)، (ج/1)، (ص/71).