في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
حول اللغة كخاصية إنسانية ونبذة مختصرة عن نمذجتها الرياضية
 نظام للتشغيل الجسدي والميتافيزيقي
يقول السّيوطي نقلا عن الشّافعي في الرّسالة‏‏ «لا يحيط باللّغة إلاّ نبيّ‏»[1]، وقريب من ذلك قاله ابن فارس في الصّاحبي، وكأنّ اللّغة تحتوي على شيء ما له بعض معاني اللاّنهاية، ويقول جاليليو:«اللّغة أعظم الاختراعات البشرية قاطبة، فهي الوسيلة لتوصيل أفكارنا الأكثر سرّية إلى أيّ شخص آخر بعدد قليل من الأحرف»، مرّة أخرى يعكس لانهائيّة اللّغة. ويقول تشومسكي بتصرّف «تبدو ملكة اللّغة البشريّة «خاصّيّة نوعيّة» تختلف قليلا فيما بين البشر وليس لها شبيه ذو أهمّية في عوالم أخرى غير البشر، وهي المسؤولة عن امتلاك الجنس البشري وحده تاريخا وتطوّرا ثقافيّا، يتمّ توارثه، حتى إنّ العالم المرّيخي «عالم افتراضي يعيش على سطح المرّيخ» الذي يرصد الأفعال الغريبة على الأرض من الصّعب عليه أن يتجنّب الإصابة بالصّدمة من بروز وأهمّية هذا الشّكل الفريد ظاهريّا من التّنظيم الفكري، وقد يستنتج بشكل معقول أنّ ثمّة لغة بشريّة واحدة، مع اختلاف في الهوامش فقط»[2]. لهذا كلّه نؤمن أنّ الإنسان ليس حيوانا ناطقا وليس حيوانا عاقلا وليس حيوانا مفكّرا. نحن نؤمن أنّ الإنسان إنسان وأنّ الحيوان حيوان، والفارق أنّ الأخير من الممكن فهم كلّ شيء يصدر عنه بشكل آلي ومن ثمّ نمذجته، أمّا الإنسان فلا يمكن بحال من الأحوال فهم كلّ ما يصدر عنه بشكل آلي. فالطّفل لا يولد ككائن بيولوجي فقط، لا يولد ككيان فارغ ثم يملأ من خلال التّصرفات الخارجيّة من حوله، وإنّما يولد وبداخله عالم جوّاني، هذا العالم الجوّاني لا يوجد في الحيوان، يولد الطفل وبه نظام تشغيل للبعد المحسوس أو للماكينة المسمّاة بالجسد «وهو يتّفق مع الحيوان في ذلك» مثل الأكل والشّرب والنّوم والتّكاثر ...إلخ، ونظام تشغيل للبعد غير المحسوس المسمّى بالمتافيزيقي الذي يتجلّى في الأمل والطّموح والحيره والارتباك والشّكّ والاطمئنان ...إلخ، «والتي لا توجد عند الحيوان». يستطيع الطفل من خلال نظام التّشغيل هذا أن يتفاعل مع البيئة من حوله ومع التّغيّرات بداخله الجسديّة والنّفسية من خلال اللّغة (ذلك النّظام الخاصّ والمتفرّد والمتنوّع جدّا في الإنسان دون الحيوان) على ثلاثة محاور: المحور الأول: الملاحظة والمقارنة والتّخزين والاستعادة وهو جوهر المذهب التّجريبي، وهؤلاء يقلّلون من دور العقل في الاستقلال بانتاج المعرفة بمفرده دون تجربة كما عند «ديمقريطس». وهو مردود عليه بالبحوث الرّصينة جدّا في الرّياضيات دون إجراء أيّ تجارب، فهي تكاد تؤسّس لمعرفة عقليّة خالصة. المحور الثاني: التّفكيك والتّركيب والإبداع على غير مثال سابق وهو جوهر المذهب العقلي عند ديكارت وسيبنوزا ولايبنتز الذين يؤمنون بأنّ المعرفة الأصيلة لا تستمدّ من الحواس من خلال التّجربة بل من خلال العقل، وأنّ الإدراك العقلي المجرّد سابق على الإدراك المادّي المجسّد. ونحن نرى أنّ هذا وذاك سابقة عليهما الفطرة التي فطر الله النّاس عليها. المحور الثالث: النّظر والاختلاف مع الآخرين ونقد أعمالهم وتفسير ذلك الاختلاف وهو جوهر المذهب النّقدي عند ماركس ونيتشه وأدرنو وهابرماس.
تعريف اللّغة 
عرف ابن جني اللّغة قائلا «أمّا حدّها فإنّها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم»، وحديثا عرفها دي سوسير وشتراوس قائلين: «اللّغة نظام رسميّ ذات هيكل محدّد وثابت من الرّموز تعرف بالحروف؛ تحكمها قواعد نحويّة بين الكلمات والجمل لتوصيل معنىً بعينه» وهذا هو جوهر «البنيويّة» إحدى ثمرات التّفكير الألسني «عالم من تفكيك شبكة العلاقات العميقة بين المستويات النّحوية الأسلوبيّة والإيقاعيّة للتّراكيب اللّغوية داخل النّص ليصل إلى بناء الدّلالات داخل النّص أيضا. على ذلك فإنّ اللّغة ليست مفردات محدّدة المعاني ولكنّها مجموعة علاقات. وقد سبق القاضي عبد الجبّار وعبد القاهر الجرجاني دي سوسير في ذلك فالقاضي عبد الجبّار يرى أنَّ الفصاحة والبلاغة تقومان على ضمّ الكلمات وتقارنها، فقال: «اعلم أنَّ الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنّما تظهر في الكلام بالضمّ على طريقة مخصوصة، ولا بدَّ مع الضمّ من أن يكون لكلّ كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصّفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضمّ، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، (ونحن نرى أن هذا الجزء من الكلام كاف جدّا لوضعه في خوارزميّة رياضيّة وهو جوهر عمل تشومسكي في هرميته) أمّا الجرجاني صاحب نظريّة النّظم فيرى أنَّ اللّفظة المفردة لا قيمة لها في ذاتها، لا في جرْسها ولا في دلالتها مزيّة أو فضل، وإنّما تكون لها مزيّة حينما تنتظم مع جارتها في جمل أو عبارات، ومن ثمَّ يتلاءم معناها مع معاني الألفاظ التي تنتظم معها، أي أنَّ الألفاظ لا تتفاضل إلاّ إذا اندرجت في سلك التّعبير، وانضم بعضها إلى بعض، وأخذت مكانها الطّبيعي الذي تقتضيه الصّورة وانسجمت مع ما قبلها وما بعدها لأداء المعنى الذي يريده المتكلّم. ومن هنا بدأ الدّرس اللساني الغربي في فحص هذه العلاقات في النّص.
بينما نظر السّلوكيون من أمثال إيفان بافلوف وإدوارد ثورندايك وجون واطسون وبول وايس وسكنر إلى أنّ «اللّغة سلوك لسانيّ يستجيب لمثيرات خارجيّة، تخضع لسلطة البيئة بالدّرجة الأولى، يرفض تشومسكي هذه النّظرة الآليّة إلى اللّغة من حيث كونها عادة كلاميّة قائمة على المثيرات والاستجابات»[3]،  مقرّرا أنّ اللّغة ليست وسيلة للتّواصل فحسب لكنّها وسيلة للتّعبير عن الأفكار وللحوار مع النّفس حتى دون نطق، ولخلق الأفكار الجديدة، يعرف تشومسكي اللّغة فيقول بتصرّف «عناصر محدودة، تبني إبداعا غير محدود» فاللّغة بذلك هي خصيصة إنسانيّة تميّز البشر عن غيرهم من الكائنات الحيّة: هي «مقدرة الإنسان على إنتاج جمل لا حصر لها دون أن يكون قد سمعها من قبل»[4] وقد سبق ابن جني تشومسكي بأكثر من ألف عام حيث كان تعريفه للّغة أعمّ من مفهوم الاتصال والذي عن طريقه يتمّ انتقال وشيوع المعرفة من شخص لآخر في المجتمع. إلاّ أنّ عبقريّة تشومسكي اللّغوية تظهر في تطويره لهرميّة لغويّة مقنّنة جدّا في تحويلات رياضيّة أفادت منها جدّا علوم المعلوماتيّة بل وقابلة للتّطوير من آن لآخر في اللسانيات الحاسوبية. وتعتبر دائرة المعارف البريطانية أن الاتصال يعني تبادل المعاني بين الأفراد من خلال نظام عام للرّموز[5] ، وهي بذلك تقرّر أنّ اللّغة نظام تشفير متعارف عليه داخل المجتمع يربط بين أبنائه ويحفظ من خلاله تراثهم، وجسر تعبر عليه الأجيال من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. والسّؤال الذي يطرح نفسه الآن هل يمكن برمجة اللّغة أي وضعها في خوارزميّة رياضيّة بحيث تنقل الآلة المعني القريب جدّا من لغة للغة أخرى حتى ولو مؤقّتا في ترجمة مثلا نصوص العلوم الطبيعيّة غير المحمّلة بالمعاني الكثيفة من الخيالات؟. وهنا تبدأ نمذجة رياضيّة لأحد أهمّ خصائص الإنسان وهي اللّغة، لكن هذه النّمذجة ولا شكّ مازالت بعيدة جدّا عن نمذجة النّصوص الأدبيّة ذات المعاني المكثّفة والثّرية بالإيحاءات التي تمزج الواقعي بالمتافيزيقي.
الكفاية الاتصالية والكفاية اللغوية
الكفاية الاتصالية هو مصطلح صكّه ديل هيمز[6] ليعبر به عن إجادة اللّسان في نقل المعاني وظلال المعاني بكلّ سهولة ويسر للآخر مع اتقان للقواعد وتمكّن من الحدس، وإلمام بالبديهة التي تجعل كلامه مطابقا لمقتضي الحال. بخلاف إجادة القواعد النّحوية فقط والتي تضمن تركيب الجمل بشكل صحيح وهي الكفاية اللّغوية. 
يرى ابن خلدون استحالة تحصيل الملكة اللّسانية التّامة للمستعربين من العجم، ويقيم نظرته تلك على أسس معينة من أهمها: أولا: إنّ الأعاجم الدّاخلين في اللّسان العربي، وكانت لهم لغة أخرى، وهم مضطرون للنّطق بالعربيّة من مفرد، ومركب، يحصلون العربيّة ممّن يخالطونهم من العرب، وهؤلاء لا يملكون، حين تأخّر الزّمن، ملكة اللّسان المطلوبة، فقد ذهبت عنهم وبعدوا عنها، فليس لديهم إذن وسائل إجادة العربيّة ممّن يخالطونهم من العرب. ثانيا: إذا لجأ هؤلاء الدّاخلون في اللّسان العربي إلى تحصيل الملكة ممّا أسماه القوانين المسطّرة في الكتب، فإنّهم لا يحصلون على إجادة اللّسان بل يحصلون على أحكامه فقط. ثالثا: إذا لجأ هؤلاء الأعاجم لتحصيل الملكة بالتّعلم من كلام العرب، شعراً ونثراً، فإنّهم يحصلون على هذه الملكة، لكنّها ــ كما يقول ــ تجئ ناقصة أو مخدوشة، لأنّه قد سبق لهم ملكة أخرى للغاتهم الأصليّة، وهذه تعوق تمام الملكة الجديدة، فيفترقون في ذلك عن العرب الأصلاء[7]. يسبق ابن خلدون بذلك خبراء الغرب في تعليم اللّغات الأجنبيّة عند حديثهم عن التّداخل اللّغوي. 
قصارى ما يطمح أن يتعلّمه أجنبي من دراسة لغة أخرى هو تحصيل مجموعة من المفردات والتّراكيب، والدّلالات التي يؤدّي بها وظائف معينة يحتاجها بدرجة أكبر من غيرها مع الأخذ في الاعتبار أنّ هذا الذي يتعلّمه الأجنبي عادة تشوبه نقائص كثيرة. فالمفردات محدودة، مهما كثرت عنده، والنّطق فيه تلعثم، والجمل غير مترابطة، بل ودلالات الألفاظ أحياناً غير دقيقة، وغير ذلك من ظواهر تجمع على أنّ تعلّم الأجنبي للغة لا يصل بأيّ حال لمستوى تعلّم المواطن، أو النّاطق بها [8].
النمذجة الرّياضية للكفاية اللّغوية
يعتقد البعض أنّه لا علاقة بين الرّياضيات واللّغة، فالرّياضيات تتعامل مع المجرّد ذات المعني المحدّد بدقّة بينما تتسلّل اللّغة إلي أعماق النّفس البشريّة، وإن كان كلّ لفظ في اللّغة وضع لمعنى إلاّ أنّ سياقاته تكثّف هذا المعني أو ذاك ويحدث تداخل عميق بين المعاني ممّا يعقد مفاهيم رياضيّة مثل الاتصال والانفصال. لكن تظلّ هناك إمكانيّة إيجاد علاقة ما بين الرّياضيات واللّغة أو جزء منها على الأقل، يهدف إلى تكوين مبادئ محدّدة داخل نظام لغوي مؤسّسي [9]، ويفي بغرض تكنولوجي جيّد مثل الذّكاء الاصطناعي أوالتّرجمة الآليّة. ونظرا لصعوبة إن لم يكن مؤقّتا استحالة النّمذجة الرّياضية للكفاية الاتصاليّة التي تستدعي المعرفة الضّمنية، أو الكامنة الخاصّة باستعمال اللّغة في مواقف اجتماعيّة وثقافيّة وأحيانا ميتافيزيقيّة وهي تشكّل بيئة غير منضبطة رياضيّا، لذا لجأ علماء اللّغويات العامّة والحاسوبيّة لنمذجة جزءً من الكفايات اللّغوية التي تهتمّ أصلا بسلامة التّراكيب اللّغوية التي تحكمها قواعد شبه صارمة من النّحو وإمكانية التّعميم لانتاج عدد غير محدود من الجمل، فمن حيث البنية  تتكوّن الكفاية اللّغوية من بنية سطحيّة تحدّد شكل الجملة وتنظّمها كظاهرة مادّية، وبنية متعمّقة تعنى بالدّلالة، وقواعد تحويل. 
بناء على ذلك وظّف نعوم تشومسكي المنطق والرّياضيات مبتدءًا في أطروحته للدكتوراه سنة 1950م «التّركيب المنطقي للنّظرية اللّغوية» في التّحليل اللّغوي بالتّركيز على الأبعاد البنيويّة للجمل دون إعارة المعنى أي اهتمام؛ بدعوى أنّه يجب الفصل بين النّحو والمعنى، «وأصبح الهدف عند تشومسكي هو اكتشاف البنى التّركيبيّة[10] « للجملة التي صارت المدار الرّئيس لأبحاثه ودراساته  اللّسانية. من هذه الفكرة أنتج تشومسكي لغة رسميّة واضحة تسمّى النّظرية التّحويلية التّوليديّة، كان الهدف منها هو الكشف عن القواعد العميقة التي تحكم اللّغة «أيّ لغة»، هذه النّواة الثّابتة، المرتكزة إلى خاصّيات منطقيّة، التي ينبغي على الطفل أن يتمكّن منها كي يستطيع فهم الجمل وإنتاجها، وكمثال بسيط لذلك وجود حروف العلّة في جميع اللّغات.
أسس النظريته التوليدية التحويلية
بحث تشومسكي عن «الكلّيات النّحويّة» التي تعني بإيجاد قاسم مشترك بين معظم اللّغات من خلال إمكانيّة التّوصّل لقواعد نحو كلي universal grammer تقبله كافّة اللّغات وقادر على استيعاب كلّ القواعد المشتركة بينها، مشابها بذلك الكلّيات الصّوتية عند التّشيكي رومان ياكبسون في  حلقة براغ التي تعدّ امتدادا للشّكلانييّن الرّوس وهو مؤسّس البنيويّة الأدبيّة. تبدأ القواعد التّوليديّة باعتبار أبجديّة مناسبة (عددا منتهيا من الرّموز) ومنها يتمّ توليد عدد لانهائي من الجمل، وفق سلسلة من الاختيارات؛ بحيث إنّ كل اختيار يفرض قيودا رياضيّة معينة على الاختيار الذي يليه، كأن نختار في بداية الجملة اسم الإشارة «هذا»، فالذي يعقبه حتما ينبغي أن يكون اسما مفردا لا جمعا .فمثلا عند إنتاج الجملة نبدأ بحالة أوّلية غير نهائيّة تسمى الجملة لتتفرّع منها «مكوّن اسمي» و«مكوّن فعلي»، ثم يتفرّع من المكوّن الفعلي الفعل والأداة والاسم الأول و ... ، ثم يتفرّع من المكوّن الاسمي الأداة والاسم الثّاني و  ... إلى أن تنتهي هذه الشّجرة بالاستبدال المتتالي، خطوة مفردة بخطوة مفردة وهكذا حتى تنتهي بانتاج الجملة كحالة نهائيّة، والتي يمكن أن تولد بشكل صحيح جميع التّركيبات الممكنة من الكلمات لتشكيل جميع الجمل النّحوية السّليمة في اللّغة، وذلك باستخدام خوارزمية للتّنبؤ بالجمل الصّحيحة نحويًا. 
هذه القواعد الرّياضية تشمل قواعد تحويلية:  تمكّننا من «تحويل الجملة إلى جملة أخرى تتشابه معها في المعنى[11] «، وذلك عن طريق جملة من التّحويلات كالحذف والنقل والإضمار والتّقديم و.... وقواعد صوتيّة صرفيّة تهتم أساسا بتحويل «المورفيمات» قواعد تكوين الكلمات من مقاطع حرفية إلى سلسلة من الفونيمات «سلسلة من المقاطع الصوتية المقبولة»، أي إعادة كتابة العناصر كما تنطق. 
بعد ذلك طوّر تشومسكي نموذجه عن النّحو الكلّي بعد عدّة انتقادات من تلاميذه مثل كاتز وفودر وبوستال فأضاف المكوّن الدّلالي والصّوتي للجملة علاوة علي مكوّنها التّركيبي في نموذجه الأول. وفي التّطوير الثّالث للنّظريّة ربط تشومسكي التّمثيل الدّلالي بالبنية السّطحيّة (وتمثل ما ينطقه الإنسان فعلا) والبنية العميقة (وتمثل التّركيب الداخلي غير الظّاهر للجملة) على السّواء، وذلك من خلال  قاعدة تفسيريّة دلالية أولى للبنية العميقة و قاعدة تفسيريّة دلاليّة ثانية للبنية السّطحية»[12].
خاتمة
يأمل الباحثون في الوصول إلي الجينات المسؤولة عن اللّغة والجهاز المسؤول عن اكتسابها وليس المراد بذلك جهاز النّطق: اللّسان والحنجرة والأحبال الصّوتية، فليست إلّا جهاز طرفيّ  لإصدار الأصوات، يسمّي تشومسكي جهاز اكتساب اللّغة هذا بالحالة الابتدائية المشتركة بين كلّ البشر والذي يأخذ الخبرة كدخل input ويعطي اللّغة كخرج output  (فلو ولد طفل لأبوين عربيين ثم أخذ لتوّه لبيئة تتكلّم الفرنسيّة لأخذ الخبرة من بيئته الجديدة لجهاز اللّغة لديه وأعطي الفرنسيّة بطلاقة). فلو تمّ التّوصّل إلى التّركيب العضوي لهذا الجهاز والجين المسؤول لأصبح اختلاف اللّغات ليس إلاّ إختلافا ظاهريّا يلامس السّطح فقط حقيقة لا مجازا، وربّما صدق مبدأ أنّ اللّغات كلّها تمّ اشتقاقها من حالة ابتدائيّة موحّدة، حتى ولو ظهر تعقيد صوتي ونحوي ودلالي على مستوى السّطح. 
فهل إذا وصل الإنسان مستقبلا ولا نظّنه بعيدا لطريقة ما ينقل بها البيانات بين الآلة «الكمبيوتر» والإنسان أو حتى بين إنسان وآخر وأمكن تخزين كلّ مفردات اللّغات وربّما كلّ التّراكيب اللّغوية المستعملة وتمّ برمجة ذلك كلّه داخل الإنسان، فهل يستطيع حينئذ أن يتنقل بين اللّغات بسلاسة أو أن يتحدّث كلّ اللّغات أو يفهمها دون مجهود يذكر؟، وهل يستطيع البشر التّواصل لاسلكياً دون كلام أو صوت، حيث تنتقل موجات الدّماغ عبر روابط شبيهة بالإنترنت؟. لقد قطع الباحثون بالفعل شوطا كبيرا بعد أكثر من ثمانية عقود من العمل المضني في إمكانية نمذجة اللّغة -على الأقل في التّرجمة الآلية- ويبدو أنّ المشروع كبير جدا وربّما يتمّ تتويج ذلك بعد عقود أخرى كثيرة من البحث الشاقّ.
المصادر
[1] السيوطي، «الإتقان في علوم القرآن» الجزء الثاني، صفحة 105-106.
[2] نعوم تشومسكي، «اآفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل» ترجمة عدنان حسن، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا، (2009).
[3] النظرية التوليدية التحويلية وتطبيقاتها على النحو، أسمهان الصالح وأحمد المهدي المنصوري، م. س، ص:326.
[4] المدارس اللسانية المعاصرة، نعمان بوقرة، حاشية الصفحة 143.
[5] The Encyclopaedia Britannica, 60, p. 496 
[6] Richards, J. C. T. Rodgers, 48, p. 64. 
[7] ابن خلدون، المقدمة،  ص 1055، الدار التونسية للنشر - المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر،  1984 (بتصرّف).
[8] رشدي أحمد طعيمة  و محمود كامل الناقة،  «مفهوم اللغة ووظائفها»   المتاح علي الرابط التالي
 www.mohamedrabeea.com/books/book1_2051.doc 
[9] نعوم تشومسكي، «اللغة والمسئولية»، ترجمة حسام البهنساوي، مكتبة زهراء الشرق، مصر.
[10] نعمان بوقرة، «المدارس اللسانية المعاصرة»، ص 144، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر.
[11] المصدر السابق، ص 149.
[12] المصدر السابق، ص 161.