الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
مواقع النجوم : جدلية اللغة والمعارف العلمية (ج1)
 يمثل المقال محاولة علمية لفهم ما يمكن أن تكون دلالة الآيتين 75 و76 من سورة الواقعة « فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» أما موضوعه فهو «مواقع النجوم» وهو موضوع «عظيم» كما تؤكده الصيغة التي ورد بها. لقد كان للعرب أسلوب في تعظيم الخبر والتأكد من صحته، فيقسمون به لكي يصدّق السّامع. إنّ «لا» النّافية يمكن أن تأتي في اللّسان العربي إذا لتأكيد القسم وتقويته لا نفيه. وجريا على ذلك الأسلوب أقسم الله تعالى بالعديد من الأشياء وهو الغني عن ذلك. ورغم أنّ في القرآن الكريم عشرات آيات القسم لكن الذي يدعو للانتباه في القسم الإلهي في الآيتين موضوع البحث هو: أولا «لا» النافية وثانيا التنويه بشأن القسم، إذ أضاف سبحانه بأنّه عظيم. وللتّذكير فقد وردت صيغة «لا أقسم» 8 مرّات في القرآن الكريم إلاّ أنّه في آية واحدة فقط خصّص القسم بالتّعظيم. وهذه الآيات التي يؤكد فيها القسم بصيغة لا النّافية : «فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ»، « وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ»(1)،« فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ» (2)، «فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ»(3)،«لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ»(4)، «فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ»(5)، «فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ * وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ»(6) «لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ» (7)
وقبل أن نبدأ تناول موضوع المواقع بالدّرس والتّحليل نأخذ من جامع البيان في تفسير القرآن للطبري (ت 310 ه) ما يلي «وقوله: { وَإنَّهُ لَقَسمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } يقول تعالى ذكره وإن هذا القسم الذي أقسمت لقسم لو تعلمون ما هو، وما قدره، قسم عظيم من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنّما هو: وإنّه لقسم عظيم لو تعلمون عظمه». 
فما هي «مواقع النجوم»؟ وأين تكمن عظمة القسم بها؟ نبدأ برحاب معاجم اللّغة حيث سنركز البحث عن مدلول لفظة مواقع في اللّسان العربي .ثم نراجع التّفاسير والتّأويلات القديمة لآيتي مواقع النّجوم ونعرض بعد ذلك بعض التّفاسير الحديثة لنختم برأينا في موضوع القسم الإلهي بمواقع النجوم..
(1) مدلول كلمة ”المواقع“ حسب أمهات معاجم اللسان العربي
نقرأ في كتاب العين للخليل ابن أحمد الفراهيدي (100 – 170 هـ) ما يلي : «وقع الشيء يقع وقوعا أي هويا.وقع والواحد واقع والموقع: موضع كل واقع، وجمعه مواقع. والميقعة: المكان الذي يقع عليه الطائر ويقال وقعت الدّواب والإبل، أي : ربضت تشبها بوقوع الطير. والنّسر الواقع مجموعة من النّجوم سمّيت به لأنّها توحي بشكل نسر كاسر جناحيه من خلفه ممّا يدل على وقوعه، وهو من نجوم العلامات التي يهتدى بها. 
أمّا في مقاييس اللّغة لأحمد بن فارس (329 ـ 395هـ) فنجد «الواو والعين والفاء أصل واحد يرجع إليه فروعه يدلّ على سقوط شيء. يُقال وقع الشّيء وقوعا فهو واقع». 
وفي معجم لسان العرب لابن منظور ‏ ( 630 - 711 هـ) «وقع على الشّيء ومنه يقع وقعا ووقوعا سقط. ووقع المطر بالأرض ولا يقال سقط وقال اللّيث : الموقع موضع كلّ واقع».
وبالاعتماد على كتاب العين وكتاب مصباح المنير للفيومي حقّق الكاتب الشّيخ حسن المصطفوي في مدلول مادّة «وقع» في القرآن الكريم واستنتج: «أنّ الأصل الواحد في المادّة (وقع) هو نزول وتثبّت. ففيه قيدان. ومن مصاديقه نزول المطر متمكّنا في الأرض وهكذا في الطّير إذا نزلت وتمكّنت في أرض أو شجر»(8).
وسعيا وراء الاقتراب أكثر ما يمكن من مدلول كلمة مواقع في اللّسان العربي نظيف ما في تفسير الكشّاف للزمخشري (ت 538 هـ) في معرض تفسيره للجزء الأول من الآية 43 من سورة فاطر «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله» : «وعن كعب أنّه قال لابن عباس رضي الله عنهما: قرأت في التّوراة: من حفر مغواة وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية. وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً.» ونورد ذلك للتأكيد على المعنى الأصلي للوقوع، فالوقوع في الجبّ أو المغواة أو الحفرة واضح الدّلالة ومن يريد القيام بالتّجربة فهي متاحة للجميع.
يمكن إذن أن نخلص إلى ما يلي : «إن الموقع في لسان العرب هو المكان أو المحلّ أو الموضع الذي يسقط عليه أو فيه الجسم ويثبت. فالموقع اسم مكان لسقوط الجسم وثباته فيه. فهل نجد هذا المعنى في التّفاسير القديمة؟
(2) تأويل وتفسير «مواقع النجوم» 
سنتبع التّفاسير من خلال عيّنات تتوزّع زمنيّا على مدى ثلاثة عشر قرنا من الزّمن أي من القرن الأول الهجري إلى الحاضر.
في تفسير مجاهد لمجاهد بن جبر المخزومي (ت 104 هـ) «{بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ}، نجوم القرآن. وذلك لأن القرآن نزل إلى السّماء الدّنيا جميعا جملة واحدة ثم نجَّمَ على النّبي صلى الله عليه وسلّم نجوماً فرقاً قطعاً الآية والآيتان وأَكثر». فالعرب تقول للمفرق: منجّمًا كما يقول السيوطي في الإتقان والقرآن لم ينزل إلاّ مفرقا نجوما نجوما. «ويقال أيضا{بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ}، في السّماء. ويقال أيضا مطالعها ومساقطها.» .
وفي جامع البيان في تفسير القرآن يقول الطبري (ت 310 هـ) أنّ أهل التّأويل اختلفوا في معنى مواقع النّجوم ويورد التّفاسير التّالية : منازل القرآن لأنّ القرآن أنزل نجوما متفرّقة، {بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ}، في السماء، ويقال أيضا مطالعها ومساقطها. مساقط النجوم لمغاربها .منازل النجوم والأنواء (النوء مصطلح يعني سقوط نجم في المغرب مع طلوع الفجر و طلوع آخر يقابله من المشرق). انتثار النجوم يوم القيامة. ويرى الطبري أن «أولى الأقوال في ذلك بالصواب المساقط لان المواقع جمع موقع والموقع المفعل من وقع يقع موقعا».
كما نقرأ في تفسير مفاتيح الغيب وهو التفسير الكبير للرازي (ت 606 هـ) أنّ مواقع النجوم هي «المشارق والمغارب أو المغارب وحدها، فإنّ عندها سقوط النجوم. وهي أيضا «مواضعها في السّماء في بروجها ومنازلها» ونلاحظ استعمال لفظ مواضعها وليس مواقعها لأنّ ذلك أدقّ لغة إذ الموضع لا يتطلّب أن يتوفّر فيه قيدان وهما النّزول والتّثبت. كما يرى أنّها «مواقعها في إتباع الشّياطين عند المزاحمة ( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ» (10) وكذلك « مواقعها يوم القيامة حين تنتثر النجوم». أمّا مواقع نجوم القرآن، فهي عند الرّازي قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين، أو معانيها وأحكامها التي وردت فيها. فآيات القرآن «تنزل» على قلوب المؤمنين و«تثبت» فيها لانعكاسها المفترض على سلوكهم ومعتقداتهم.   
ونختم بما قاله صاحب التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور(ت 1393 هـ) «و{ مواقع النجوم } جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع، أي محالُّ وقوعها من ثوابت وسيارة. والوقوع يطلق على السّقوط، أي الهوى، فمواقع النجوم مواضع غُروبها» ويضيف « ويطلق الوقوع على الحلول في المكان، يقال: وقعت الإِبل، إذا بركت، ووقعت الغنم في مرابضها، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم، فالمواقع: محالُّ وقوعها وخطوط سيرها» ويختم رأيه قائلا  أن «المواقع هي: أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء، وكذلك بروجها ومنازلها». كما يرى بأنّه «يجوز أن يكون (مواقع) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع. أي لا أقسم بوقوعها، أي غروبها، أو هو اسم لجهة غروبها. وعن تأويل النجوم قال «من المفسرين من تأوّل النّجوم أنّها جمع نجم وهو القِسط من مال وغيره كما يقال: نجومُ الديات والغرامات وجعلوا النجوم، أي الطوائف من الآيات التي تنزل من القرآن» 
إنّ تأويل «مواقع النّجوم» بالمساقط أي بمواضع أو محال أو أماكن غروبها عند الأفق موجود في جلّ التّفاسير ممّا يعني أنّ هناك إجماعا على أنّ مواقع النّجوم هي الأماكن التي تغرب فيها. فالطّبري وهو من أوائل المئوّلين رأى بأنّ الأغلب من المعاني والأظهر من التّأويل للمواقع هو المساقط وهذا ما تقتضيه اللّغة إذ المواقع جمع موقع (اسم مكان الوقوع) والموقع من وقع يقع موقعا. ويمكن أن أضيف إليه الأنواء لأنّ فيها غروب النجم. كما أرى معه أيضا أنّ التّأويلات التي تقول بأنّ مواقع النّجوم هي الشّهب حال انقضاضها على الشّياطين (كما توحي به بعض الآيات) أو انكدار النّجوم وانتثارها يوم القيامة هي أيضا فيها قدر كبير من المعاني للمواقع إذ هي ظواهر فلكيّة تظهر حركة سقوط. أمّا تأويل المواقع بمواضع الكواكب من بروجها في السّماء ومنازلها منها لأنّ النّازل في محلّ واقع فيه، فلم يراع فيه حركة النّزول بمعنى السّقوط والتي يتحدّد بها أغلب المعنى من الوقوع. وأخيرا فإنّ تأويل المواقع بنجوم القرآن هو تأويل لا يقول بأنّ النّجوم المعنيّة بالقسم هي التي في السّماء ويستعمل الوقوع بمعناه المجازي أي أنّ القرآن ينزل ويثبت في القلوب. كلّ تلك التأويلات تنطلق من أنّ كلمة مواقع هي اسم مكان لفعل وقع. لكن هناك من يقول بأنّ مواقع جمع موقع هو مصدر ميمي للوقوع بمعنى السّقوط إذ قد يكون أريد بمواقع الزّمان أي مواقعها عند الانكدار يوم القيامة.   
(3) الدفاع عن القديم وتجاوزه!
فما الذي جعل المفسّرين يجمعون على أنّ المواقع هي أماكن سقوط النّجوم عند غروبها؟ وأين النّزول والتّثبت في ظاهرة الغروب؟ الإجابة على السّؤال تقتضي التّذكير بالمعارف السّائدة عند كتابة تلك التّفاسير والتّأويلات. فالإنسان المفسّر أو مئوِّل  للقرآن لا يمكن أن يفكّر خارج  الإطار العلمي والمعرفي للعصر الذي ينتمي إليه.  
لقد كان نموذج بطليموس (100 م – 168م) الذي ورث أسسه عن أرسطو (384 ق م – 322 ق م) هو السّائد فيما يتعلق بتصور الإنسان للسّماء والأرض والعلاقة بينهما. في هذا التّصور تقبع الأرض ساكنة في مركز الكون وتحيط بها كرات شفّافة تحمل الكواكب السّيارة (عطارد، الزهرة، المريخ وزحل) والشّمس والقمر وتحيط بها كرة تتعلّق بها النّجوم الثّابتة. وما وراء ذلك فهو عالم الإله والملائكة. تدور الكرات حول المركز من الشّرق إلى الغرب في حركة منتظمة لا تفتر. كان العالم مقسّم إلى ما تحت القمر وما فوقه. فما تحت القمر هو عالم التّبدل والتّغير والفناء وأمّا ما فوق القمر فهو عالم الكمال أين تتحرّك الأجرام في أفلاك دائريّة إذ تعتبر الدّائرة أكمل الأشكال الهندسيّة. كان هذا النّموذج كاف لتفسير ما كان يبدو حقيقة طبيعيّة مثل شروق الأجرام وغروبها. فعند الشّروق ترتفع الأجرام إلى أن تبلغ مدى معينا في قبة السّماء ثم تنزل تدريجيا إلى أن تختفي وراء الأفق. وإذا صرنا نعرف الآن أنّ تلك الحركات المتمثلة في الارتفاع والنّزول أو السّقوط ليست حقيقيّة بل ظاهريّة، فإنّه لا ضير في  مواصلة استعمال تلك المفردات (مساقط، مطالع) التي يمكن اعتبارها مصطلحات تعكس فقط ما كان يعتقد الإنسان عندما كان يرى الأجرام تتحرك في القبة السّماوية. فالنّجم –أو أي جرم آخر- «يرتفع» ثم «ينزل» لـ«يسقط» في «مكان» ما عند الأفق ويغيب أي وبكلمة واحدة، وحسب ما تقتضيه البلاغة عند العرب، كان النّجم  يقع في مكان ما عند الغروب. الم نقل أنّ مادّة وقع تدل في الأصل على نزول وتثبت؟ ألم تكن النّجوم تبدو نازلة ثمّ وفي مكان ما عند الأفق كانت تبدو أنّها ثبتت؟ إنّنا نقول الآن أنّها كانت تبدو ساقطة وأنّها كانت تبدو ثابتة تحت الأفق إلاّ أنّ الإنسان وحتّى القرن الخامس عشر كان يرى في تلك الظّاهرة حقيقة طبيعيّة لا يرقى إليها الشّك . إنّ استعمال الوقوع للنّجم عند المغرب كان على سبيل الحقيقة على ضوء الاعتقاد الذي كان راسخا لكن علينا الآن أن نتعامل مع كلمة مواقع على اعتبارها مصطلحا قديما يعني  مساقط النّجوم أي أماكن غروبها الظّاهرية وأن نقول كذلك بأنّها تصبح مجازا على ضوء ما تحقّق من اكتشافات تتعلّق بحركة الأرض وما ينتج عنها على صفحة «القبّة السّماوية» . 
في الجزء القادم سنحاول الإجابة عن السّؤالين التّاليين : هل التزمت التّفاسير الحديثة بما يقتضيه اللّسان العربي فيما يتعلّق بمادّة «وقع» التي تدلّ على أنّ هناك حركة من أعلى إلى أسفل بالتّعبير الحقيقي وليس المجازي وأنّ السّاقط يثبت في مكان سقوطه؟ والسّؤال الأهم هو : إذا كان القرآن بليغا في استعمال كلمة مواقع فما هو الحال (أي الظّاهرة السّماوية) الذي لمقتضاه يجب أن تتطابق كلمة مواقع بقيديها وهما النّزول أو السّقوط والتّثبت؟ أي هل سنتعامل مع المصطلح القرآني «مواقع» مثل
الأقدمين ولكن باعتباره مجازا لحركة ظاهريّة تصوّرها الأقدمون على أنّها حقيقة إذ نحن نعلم الآن علم اليقين أنّها ليست كذلك أم أنّ هناك وقوعا حقيقيّا يحدث للنّجم في الكون والآية 75 من سورة الواقعة يمكن أن تكون إشارة إليه؟  
الهوامش
(1) سورة الواقعة - الأيتان 75 و76
(2) سورة الحاقّة - الأيتان 38 و39 
(3) سورة المعارج - الآية 40
(4) سورة القيامة -  الأيتان 01 و02 
(5) سورة التكوير - الأيتان 15 و16
(6) سورة الانشقاق - الأيات  16 و16و18
(7) سورة البلد - الأية 1
(8) حسن المصطفوي، التّحقيق في كلمات القرآن
      الكريم (ج 13, ص 197-200)
(9) سورة الصافات - الآية 10