مبدعون صغار

بقلم
محمد حيدر النهدي
الخالة مليكة
 الجزء الأوّل:
منذ الصّباح الباكر جلَسَتْ على الأريكة... بدأت تخاطب نفسها بصوت مرتفع:
 -« ماذا سأطبخ اليوم؟.. حبيبي سيأتي... وسيجد كلّ الأطباق الّتي ارتبطت ذاكرته بمذاقها والتي طالما انتشى بها واشتهاها وأحبّها: السّمك المشوي.. سلطة الفاصوليا... سأطبخ كلّ ما يريده عزيزي. سيأتي اليوم، معه أحبّتي الصّغار وعزيزة قلبه.. سيأتي اليوم.. آه يا عصب روحي الكليلة، كم اشتقت إليك.. إلى جلساتنا معا»...
  دخلت الخالة مليكة إلى المطبخ، على نار هادئة، طبخت كلّ الأصناف الّتي تروق لروحها...كلّ الأطباق التي تشعّ جمالا وبهاءً وضعتها على الطّاولة.. مرّت السّاعات بطيئة.. كأنّها تتسابق مع بطء النّار المنبعثة من الفرن. وبعد ساعات من الإنتظار، ومن تزويق الطّاولة والأطباق.. انبعث صوت هادئ، يطمئن، يعلن اقتراب صلاة المغرب.. صوت القارئ.. لم يكن ليعلن عن اقتراب موعد الإفطار، بل ليعلن اقتراب وصول فلذة كبدها. ومع صوت القارئ المنبعث من المذياع رنّ الهاتف:
- « نعم.. مَـن المتكلّم؟» ..
 سكتت الخالة مليكة، وعادت إلى الأريكة.. دامعة العينين، لن يأتي كعادته، أشغاله كثيرة: 
- «لن آتي يا أمّي.. أرجو العفو، سيكون لي لقاء قريب معك.. أحبّك كثيرا.. لا تغضبي..أعدك.. سأزورك قريبا».  
هذه الكلمات، كسهام حادّة، وقعت على القلب المكسور.. مزّقت إحساس الإنتظار واللّهفة للقاء عزيز القلب.. كلمات.. كانت أشدّ وقعا من السّهام نفسها.
- «لماذا أيّتها السمّاعة؟ لماذا لم تتركيني أعيش لهفة اللّقاء بفلذة كبدي؟ لِــمَ جعلتِني، في المرّة الأولى، أرسم فرحتي على جدران كلّ الغرف.. لِــمَ جعلتني أَبْنِي حلما بلقاء بُنيّ ولقاء أحبّتي.. لِمَ بُنيّ جعلت صيامي يستمرّ .. لِمَ جعلتني- يا حبيبي- أعود إلى دائرة الانتظار» .
 وفـجأة.. دقّ جرس الباب ثلاث دقّات متتالية مزّقت سكون البيت، وغفوة الخالة مليكة، تزامن مع رفع آذان المغـرب.. صوت الجرس لم ينقطع، والباب لم يُـفـتـحْ، فالخالة.. ساجدة تؤدّي صلاة المغـرب.. ازداد تكبير الخالة... ومع سجودها.. كان صوت مناجاتها، يقع موضع الدّواء على جرح الفراق.. موقع الماء على طبق ساخن: 
- « ربّي... لا تحرمني لقاء أحبّتي. مدّد عمري حتّى ألقاهم. ربّي... خفّـف حدّة شوقي إليهم وألهمني الصّبر. ربّي... أنت العارف، مقدار ألمي وصبري.» 
 مع ركعتها الأخيرة.. استوت الخالة مليكة واقفة... قالت بصوت مختنق بالعبرات: 
- « مَن الطّارق؟.»
 لم تسمع إجابة.. ربّما.. ربّما عاد الطّارق من حيث أتى... رغم ذلك فتحت الخالة الباب... ثمّ سقطت فاقدة الوعي... 
الجزء الثاني:
فتحت الخالة مليكة عينيها.. لا تدري، كم من الوقت مرّ على فقدانها الوعي.. كم من الوقت مرّ وهي على هذه الحال. فتحت عينيها وأغمضتهما... لم تصدّق المشهد.. أغمضت عينيها،  فتحتهما من جديد.. قالت: 
- « لِــمَ أخفيت عنّي عودتك؟، لِمَ قلت إنّك تعتذر؟» 
وابل من الأسئلة طرحتها السّيدة مليكة... وبعينيها كانت تحتضن صورة الإبن وهو يقبّل يديها.. عيناها تريد إخفاء صورة هذا الإبن.. لأنّها لم تصدّق فعلا أنّه شاخص أمامها موجود، وأنّها تتحدّث إليه، وتتخيّله، كما كانت تفعل بطيفه، كلّ يوم وكلّ ليلة.. وبعد أن استقرّت الفكرة داخلها وأصبح وجود الإبن حقيقة.. أمسكت يده، وقالت:
- «بُـنـيّ.. لم يعد في العمر بقيّة، ولا في القوّة والجهد مجال.. فــعُـدْ واجمعني بأحبابي الصّغار، فأنا مللت الإنتظار ومللت العيش وحيدة».
-« لنؤجّل الحديث... هيّا الكلّ بانتظارنا». قال سعيد ونهض ممسكا بيد والدته..
مرّت ثلاثة أسابيع، على عودة سعيد وعائلته.. امتلأ البيت صخبا، وحياة الخالة مليكة نشوة وفرحا.. ازدادت حيويّتها، غمر نشاطها وفائض حركاتها الكلّ.. لم تعد تشتكي من أيّ وجع.. لم تعد تئنّ كعادتها من آلام الظّهر والمفاصل.. لقد هلّ طبيبها.. فشفيت دون معالجة.. وبرئت دون دواء، وهي المتعوّدة على مرافقة الأقراص لها كلّ ليلة.. للأسف.. جوّ الفرح والمرح لم يستمرّ، كحالة الشّغف والصّفاء... فالإبن سعيد .. يريد العودة إلى حيث كان.. إلى حيث تُوَسَّد أذرعه... لكن هذه المرّة نهائيّا..
وبالأخص وهو يلحّ على بيع قطعة الأرض، الّتي ورثها عن والده، والمنزل الّذي يأويها ويُسكّن فؤادها من سموم قيوظها.. ويرغب أيضا في اصـطحابها للعيش معه أين ما حلّ.. فهو، أوّلا، يحتاج لبعض المال لتوسيع مشروعه.. وثانيا، هو لا يفكّر في العودة هنا مرّة أخرى، خاصّة إذا ما رحلت معه والدته... نزل الخبر.. نزول الصّاعقة.. على الخالة مليكة. سكتت.. لبعض الوقت لا تفقه ما سمعت، ثمّ قالت:
- «ماذا؟.. أنا سأرحل؟... قطعة الأرض ستبيعها؟...  منزلي أيضا؟.. منزلي.. الذي آوى مسكنه روحي... ولفّت أسقفه، سكناتي وجروحي... وعلى جدرانه ارتسمت صور ناصعة البياض لآهاتي وأوجاعي وآلامي... منزلي؟...قدسي.. يستوطنه الأغيار؟ و..و..و ذكرياتي.. من سيأويها؟ وأدمعي.. من سيسترها وينقيّها؟.. بُنيّ..حبيب الرّوح.. هل أنت جادّ في ما تقوله... أنا؟...أنا أرحل !!.. أهاجر !! أهجر..بلدي... موطني... أحبابي ... ومنزلي وخلاّني. هل أنت جادّ في ما تفكّر وتقول؟.. هل تريد ترك نوافذي مشرعة على الآلام التي لم تغادر سمائي كلّما غبت عنّي؟...ولتزيدني انبتاتا عن ثرى ذكرياتي؟...  هل ...تريد أن تفصل، قسرا، توأمي السيامي( قبر والدك ووالديّ) عن روحي؟...و إن متّ؟!... أين ستدفن قبري؟ أفي مقابر لا أعرفها؟.. أم في أخرى لا تعرف من ينزلها؟…
كيف استطاعت هذه الأمنيات المستعجلة... أن تقرّر عوضا عنــك؟. كيف... يمكنك التفكيـــر أصــلا في هكذا قــرار؟.. بُنـيّ...مهجـــة  قلبـــي... أنـــا.. لا أصــدّق ما تقـــول... أنــــا.. لن استطيـــع المشــي على غيــر حبيبات غبار هذا الوطن.. ولن أقدر على الحيــاة بغير هـــواء هـــذا الموطـــن... ولـــن استطيع أن أفنــــي عمـــري إلاّ في فناء هذا المنزل.. أمّـــا.. إذا كنت مصــرّا على انتقالي هنالك... فالأكيد أنّك ستنقل معك جثّـــة دون عـــروق... فكما تعلم وأعلـــم ... فإنّ هذا الجسد الذي لم يتعب من انتظارك...له من الصّبر كفايـــة عن بُعادك...لكن لن تدبّ فيه الحياة أو يتنفس إلاّ بهذا المكان.. وأنت عزيزي اختر الحلّ الأنسب ... فإمّا أن يحيينـــي الصّبـــر على فراقك وترقّب رجوعك في كلّ مرّة وككلّ مرّة...أو يميتني ببطء، الإنبتـــات، هنالك معــك....في أرض لن تقــــدر على احتواء زفرات موتي...».
الجزء الثالث
مرّت أيّام ثلاثة كبيسات... الجوّ العام بالمنزل تكتنفه الفوضى مع الإنكماش وضيق غامر للصّدور. فوضى..فوضى الأشياء... يُنتجها الأطفال ببراءة، بلَعِبِهم المتواصل  وخصامهم المستمر... وفوضى الأفكار..التي تراود الخالة وابنها سعيد... فوضى الرسوّ على قرار...ما بين الرحيل أو البقاء... ولقد كانت الفوضى الثانية أكثر حدّة وثقلا. 
 انكماش داخلي كبّل روح الخالة وكبّل حركتها...ومسح تقريبا كلّ الحيوية التي تنطلق من حركة أطرافها وكلّ الهالة التي تنطلق من سحنات وجهها... صدرها يمسي ويصبح على ضيق.. يغمره الحرج، مع تسارع لخفقان القلب ودقاته...وإحساس بالتّنميل وشدّ عضلي وخمول...وكأنّما تتنزّل في الماء...
اشتدّ الحوار..أخيرا.. بين الخالة وصغيرها...وكبرت الشقّة بينهما.. بين رغبة الإبن الجامحة في الانتقال معه واصراره على القطع مع الماضي الذي طالما تشبثت به، وبين إصرارها على البقاء... وصلت الذروة آخر اليوم، بانفجار البركان المكتوم  بينهما....:
- «كبرت أمّاه... ولم أدّخر جهــدا لتحقيــق أمنيتــك، طلبتِ التميّــز في الدراســة وفعلت، أمِلتِ سفري للدراسة بالخارج وذهبت، حُرِمت لذّة العيش مع الأقارب والجيران والأقران، فقط لأنّ إصراري لتحقيق أمنيتك فاق رغباتي... كان يذيقني فراقك ووداع الأحبّة، المرّ والعلقم، في اليوم ألف مرّة ومرّة... وضعت على جراحي ملحا، من أملاح الأرض المباركة، كي أستطيع كظم حنيني الجارف إلى هالة حضنك الرخو الدافئ واسترخاء ناظري أمام ملامح وجهك الحسن الناضر... وجسدي النحيل واضب وعزم على تحقيق أمنيتك وأمنية والدي رحمه الله.. والنتيجة أمّي.. أثّثت عالمي هناك.. أسرة أحبّها ولا أريد أن أخسرها.. وزوجة لا تتقن لغتي ولا لهجتي ولا عاداتي ولا تقاليــدي.. جمعني بهــا مكان واحد وهدف واحد.. أحببتها واتفقنا وتزوجنا.. 
أمّي أنـــا الآن غريـــب...بيـــن داري ورفاقـــي غريــب.. في المكان نفسه الذي ولدت فيه.. لا أجد نفســي فيه ولا حلمي باستطاعتـــه أن ينمو و يكبــر بين فيافيـــه.. أنا الآن أبْني هناك.. حيــث درســتُ وتفوّقـــتُ.. حيث أردْتِ أنــتِ لي التميّـــز» .
سكتت الخالة مليكة طويلا ثم قالت :
- «أردتك متميّزا.. وانتظرت عودتك إلى وطنك..أن تعود وتعمل الآن..هنا... تتزوّج وتنجب هنا.. نعيش معا...وينهل أبناؤك من ثرى هذا الوطن..»
تنهّد سعيد وقال...:
-«نعم أمّي... فأنا لست آلة تصنع الجبن والخبز... تُغلق باب الصنع متى أريد لها ذلك.. أنا إنسان.. يا أمّي... أحبّ المكان الذي احتضنه وأتأقلم فيه.. أنجب أطفالا.. لديهم أقارب وأحباب وأصدقاء .. ولديهم فضاء يحيون فيه...كيف لي أن أحرمهم من كلّ ذلك؟ وأعيد معهم ولادة قصّتي من جديد.. وأحملهم إلى مكان يجهلهم وبجهلونه..يجهلون عنه أبسط الأشياء.. فيعيشون كما عشت غريبا.. أمّي لم يعد يجمعني بوطني غيرك... فحقّقي أمنيتي رجاءً..»
انقطع الحوار.. بين الخالة مليكة وابنها، بدخول الجيران والأقارب بأعين دامعة وقلوب متحسّرة.. يزورون الخالة مليكة للتأكّد من صحّة الخبر.. وربّما لتوديعها... فنزل ذلك على نفسها بسحابة بيضاء من الإحساس العميق والغريب في آن واحد.. إحساس..أعاد لها توازنها وتناسق أفكارها ووضوح الرؤية أمام خيالها.. شعرت أنّها ستفتقده لو أنّها استسلمت لتوسّلات فلذة روحها وقبلت الرّحيل.. إحساس صعب التّعبير عنه وتوصيفه إلّا بالدّموع... مضى الوقت بسرعة... مع الأحباب والأصحاب الأقارب.. ولمّا جنَّ اللّيل ومع ظلمته سكتت الألسن وتشعّبت الهواجس..إلتفتت الخالة مليكة لابنها وقالت :
- «بني.. أنا لا أملك في الدّنيا غيرك وذكرياتي..  عشت طوال حياتي وأنا أُمَنِّي النّفس برجوعك... قرّة عيني... قطعة الأرض هي لك.. بعها واستفد من ثمنها.. لكن... المنزل لا يمكنك بيعه إلاّ بعد موتي... ومرحبا بك وبأحبتي الصّغار وبعزيزة قلبك متى أردت زيارتي. فأنا... عروقي تموت، إن نقلتها وهاجرت هذا المكان... و سأكتفي بالعيش وبأقلّ القليل أثناء غيابكم..سأكتفي بهذه الجدران التي ستروي لصمتي وبصمت كلّ ذكرياتي وستوقد بداخلي نار الأمل برجوعك لي يوما ما... اذهب بني...سافر بني..دوني..فليس لأمّك أفق ولحد غير هذا المنزل والموطن..».