في العمق

بقلم
محمد ابراهمي
قيم التفاعل والتواصل الإعلامي
 جاء في تعريف الإعلام أنّه التّبليغ والإبلاغ أي الإيصال، ومنه يقال: بلغت القوم بلاغا أي أوصلتهم الشّيء المطلوب، والبلاغ ما بلغك أي وصلك، وفي الحديث: «بلّغوا عنّي ولو آية»، أي أوصلوها غيركم وأعلموا الآخرين، وأيضا: «فليبلّغ الشّاهد الغائب» أي فليعلم الشّاهد الغائب، فالإعلام لا يقتصر على مجرّد الإخبار، بل يتقارب مع معنى الدّعوة ، فالدّعوة لغة النّداء والإعلام والإبلاغ. والدّاعية : هو كلّ من يدعو النّاس إلى قيم الخير والصّلاح، مادّته الكلمة، ومضمونها فكرة، قال الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»(1).
فالإعلام مادّته الكلمة، التي تتنوّع من حيث الطّبيعة، بين المخطوطة المرسومة، والمتجسّدة في صور ورسوم، ومقاطع وأفلام، غايتها تبليغ رسالة، وترسيخ قيمة وفكرة لدى الآخر، وتعريف بقضايا العصر وبمشاكله وتحدياته، ومعالجة لهذه القضايا في ضوء المبادئ والقيم التي ينطلق منها الأفراد والجماعات، والهيئات والمؤسّسات، باعتماد الوسائل التّقنية المتاحة.
فمن خلال الإعلام يتمّ نقل المعلومات والمعارف والقيم والثّقافات الفكريّة والسّلوكية، ومعالجة القضايا، بواسطة أدوات ووسائل تقنيّة إخباريّة وتواصليّة، وفي مقدّمتها الوسائل الرّقمية التي عرفت في الآونة الأخيرة تطوّرا ملموسا، وتحوّلا نوعيّا، جعل لها سلطة قويّة تتجاوز سلطة المؤسّسات التّقليديّة التي تساهم في تنشئة الأجيال والتّربية على القيم، حيث أعادت ترتيب الأدوار الاجتماعيّة بين الفاعلين في المجتمع، ورسّخت قيما جديدة، وأتاحت فرصا وإمكانات هائلة للتّواصل الأسرع والأقرب والأشمل، الذي أعطى للإنسان القدرة على الوصول للمعلومة المطلوبة بدون حواجز، في الوقت الذي يريد، وبالكيفية التي يريد، وفي المكان الذي يريد، وهو ما طرح تحدّيا أمام الفاعلين في التّوجيه الحسن للاستفادة من هذه التّقنيات، دون الوقوع ضحيّة آثارها السّلبية، والقيم المدمّرة التي تصاحبها.
وبتتبّع استعمالات الشّباب لهذه الوسائل، يمكن الوصول إلى نتائج تفيد الارتفاع الكبير في الإقبال على مواقع التّواصل الاجتماعي، والتّفاعل المتواصل مع الأحداث الاجتماعيّة والسّياسية والقيميّة في عالم الافتراض الذي أتاحته هذه الصّفحات، إلى درجة جعلت منها فاعلا مؤثّرا في موازين القوى، وفي توجيه الأحداث السّياسية، وتشكيل منظومة القيم الجديدة لدى الشّباب، كما يُمَكِن من إدراك الاستعمال السّلبي لهذه الصّفحات والإدمان الكبير عليها على حساب الكثير من المهام الوظيفيّة، والالتزامات التّعليمية والاجتماعيّة في واقع الحياة، وهو ما يفرض تحديد القيم الموجّهة لعلاقة الفاعل مع وسائل الإعلام بما يعود عليه بالنّفع، وعلى واقعه بالتأطير والتّوجيه والبناء.
ومن أهم هذه القيم:
* الصّدق والقصد في المساهمة، فالكلمة أمانة، والتّدوين شهادة غايتها المساهمة في تحقيق الخير والصّلاح في واقع الحياة الشّخصية والاجتماعيّة، يحاسب عليها العبد بين يدي الله، خيرا أو شرّا، لقوله صلى الله عليه وسلم « إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإنّ العبد ليتكلم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنّم»(2). وليستحضر الإنسان قبل الكتابة والتّدوين قوله تعالى « إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (3)
* احترام الآخرين أشخاصا أو مؤسّسات، والتّرفع عن الإساءة لهم بالقول، أو التّشهير بهم، والتّهجم على أعراضهم وشخصهم، والتّمييز بين الحوار والجدال والنّقد البنّاء، وبين القذف والتّعريض، وينبغي في هذا المقام استحضار توجيه الله تعالى الناس بالجدل بالتي هي أحسن، قال تعالى « ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ »(4).
* الصبر على الإساءة، واحتساب الأمر لله، والعفو استجابة لأمر الله القائل في محكم تنزيله « وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (5) وهذا لا يتعارض مع البيان والتّوضيح ورفع الشّبهات، والجدال بالتي هي أحسن، لأنّ الصّبر لا ينفي بيان الحقّ وتوضيحه والدّفاع عنه والدّعوة إليه.
* الدّقة والتّثبت في نقل الخبر، لقول الله تعالى «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» (6). والحذر من الشّبهات التي تروّج في فضاءات الإعلام، ومن الوقوع ضحيّة الانخراط في ترويجها، قال الله تعالى « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (7).وقال صلّى الله عليه وسلم « كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (8).
إنّ التزام الصّدق في تتبّع الخبر ونشر المعطى، والتّواصل في فضاءات الإعلام وقصد الخير والصّلاح في عمليّة التّواصل والاتصال، واحترام الأشخاص والهيئات والمؤسّسات والصّبر على الأذى والدّقة في النّقل والرّواية قيم ضامنة لسلامة العمليّة التّواصلية، وموجهة للفاعلين الإعلامييّن في فضاءات الإعلام المختلفة، للإسهام في خلق وعي سليم، وبناء قيم ضامنة لسلامة المجتمع وتماسكه.
 الهوامش
[1] سورة إبراهيم - الآيات 24 و25 و26.
[2]  أخرجه البخاري
[3] سورة ق - الآيتان 17 و18
[4] سورة النحل - الآية 125
[5] سورة آل عمران - الآيتان 133 و134
[6] سورة الإسراء - الآية 36 
[7] سورة الحجرات - الآية 6
[8]  رواه مسلم