قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة أصحاب الأخدود
 وردت القصّة في سورة «البروج» المكيّة وخلاصتها على عادة القرآن الكريم إهماله للمكملات الهامشيّة من مثل الزّمان والمكان وأسماء الأبطال، أنّ الرّومان الذين كانوا يستبدّون بالحكم في أجزاء واسعة من الأرض، يقتسمون النّفوذ مع الفرس، يستضعفون بني إسرائيل المؤمنين يومها برسالة أنبيائهم توحيدا صافيا لا شائبة فيه، ومن صور تلك الفظاعات الشّنيعة التي دبّرها الرّومان لبني إسرائيل حفرهم لأخدود غائر في الأرض ملؤوه نارا وزجّوا فيه بمن لم يرتدّ عن دينه من أولئك المؤمنين والمؤمنات، ثم جلسوا على جنباته ـ عليه بالتّعبير القرآني ـ يحتسّون ما لذّ وطاب من المشارب، يستمتعون باللّحوم الطّازجة تشويها النّيران الملتهبة شيّا. وذكر النّبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلّم أنّ أحد الذين تكلّموا في المهد كان في هذا المشهد، إذ تردّدت أمّ تحمل رضيعها في حضنها شيئا قليلا ـ ربّما خوفا على رضيعها وليس خوفا على نفسها ـ فأنطقه الله سبحانه ليقول لأمّه: تقدّمي، فأنت على الحقّ وهم على الباطل، فتقدّمت الأمّ لتظفر بالشّهادة مضاعفة : شهادة لنفسها وشهادة لرضيع أبى الظّالمون إلاّ أن يحرقوه بالنّار المستعرة حرقا كأنّما قدّت أفئدتهم من صفوان صلد بل إنّ الصّفوان الصّلد كما أخبر عنه باريه لما يشّقّق من خشية الله. طوى التّاريخ تلك الملحمة الكريهة وظلّت وصمة عار على الظّالمين كابرا عن كابر وأبا عن جدّ تلاحقهم أينما حلّوا وإرتحلوا، ولكن الله أبى سبحانه إلاّ أن يخلد المشهد ليظلّ قرآنا يُتلى آناء اللّيل وأطراف النّهار حتّى يطوى اللّيل والنّهار وتعاد المحكمة ـ بل المحرقة ـ مرّة أخرى في يوم تشخص فيه الأبصار وتهطع فيه رؤوس ظنّت أنّ جريمة وأد الإنسان صغيرة يمكن أن يفلت سفاحها من العذاب.
 أبرز عظات القصّة
قصة الأخدود هي قصة التّحرر مع القهر
لو لم تكن تحمل هذه القصة عبرة ضروريّة للحياة في كلّ زمان وفي كلّ مكان لما حفل بها الوحي الكريم ولما خلّدها. وما جعلها حيّة في الكتاب تُتلى إلاّ لأنّ المعركة لم تنته ولن تنتهي حتّى يطوى الكون بمن وبما فيه. رسالة الوحي إلى الإنسان في هذه القصّة الخالدة هي : الحياة معركة ضارية، حامية الوطيس بين قيمتي الحرّية والقهر أو بين التحرّر والعبوديّة، فإمّا أن تختار التحرّر وهو طريق شائك طويل قاس ومكلّف ولكن ثمرته ألذّ من الحياة أو أن تختار أن تكون قاهرا ـ أو حتّى مقهورا يصيبك البغي فلا تنتصر ـ لتسترق النّاس دهرا وأحقابا ولكن ثمرة القهر أمرّ من الحنظل. لن يترك آدمي واحد في الأرض سدى لا يطاله الإبتلاء ولا معنى لتوحيد لا يمتحن فيه صاحبه. لو كانت كلمة التّوحيد كلمة تلوكها الشّفاه وتمضي الحياة كما كانت لما كلّف رجل مثل أبي جهل وأبي لهب وغيرهما كثير أنفسهم مقاومة محمد عليه الصّلاة والسلام ثم يرضون بأن تفترسهم المنيات وتخترمهم الأسياف. ولكنّهم أدركوا ما لم ندركه نحن اليوم. أدركوا أنّ التّوحيد ليس كلمة تلوكها الشّفاه لتمضي الحياة رتيبة لا شوك فيها بل هي منهاج حياة جديدة يحمل في رحمه التّحرّر والحرّية والكرامة ليكون الإنسان مربوبا لربّ واحد ومألوها لإله واحد وعبدا لسيد واحد. لذلك ضحّوا بأغلى ما يملكون، أي حياتهم، لأجل عضل التّحرّر عن أنفسهم وعن غيرهم. عندما نقول أنّ الإسلام بعقيدته التّوحيدية الصّافية من كلّ شوائب الشّرك معركة على السّلطة فهو كلام صحيح حتّى لو عمدت أبواق الإعلام العاهر الفاجر إلى تحويل وجهته. الحياة صراع على السّلطة ولكن بمعنى أنّ السّلطة هي سلطان الحرّية وصولجان التّحرّر، فمن تحرّر سلّط حريته على حياته ومن خشي الإباق من سجون الطّغاة ظلّ رقيقا ولا حرّية بها، يتحرّر الإنسان حتّى من نفسه الأمّارة بالسّوء إلاّ بإعتناق الإسلام منهاجا تحريريّا للإنسان. أمّا من أعلن الإسلام وظلّ عبدا مسترقا لنفسه أو لأهواء غيره رغبا أو رهبا فمثله مثل الكاسي العاري أو مثل من يعبّ ماء البحر أملا في إنطفاء حرقة ظمإه وكلّما عبّ إزداد عطشا. ما خلق الإنسان إلاّ ليقتحم معركة الحياة إبتغاء التّحرّر لأنّ الحياة نعمة يشترك فيها المخلوقون كلّهم، فإن خاض الإنسان معركة التّحرّر فهو حيّ حتّى لو مات وإن قعد مادام طاعما كاسيا لا يروم طلب المعالي فهو كالبهيمة يعيش، والبون شاسع بين من يعيش ليحيا ومن يحيا ليعيش.
لماذا يقترن الإيمان دوما بالعذاب
الإسلام ـ ككلّ دين أصيل لم يخضع للتّحريف ـ سلاح ذو حدّين على معنى أنّه إمّا أن يحمل بحقّ وجدّ وقوّة فكرة ومسلكا ليكون سلاحا ماضيا في الحياة، جلابا للسّعادة ،وإمّا أن يحمل بجهل أو بإمعية ليكون ضريبة قاسية يدفعها من يسمّي نفسه مؤمنا في كلّ مطلع شمس ومغربها، متبرّما بهذا الدّين الذي لا يجلب لأهله عدا السّجون والمنافي والإبتلاءات. الإسلام يمكن أن يكون فتنة لمن لم يع رسالته وعيا صحيحا. يودّ النّاس أن لو لم يقترن الإسلام بالجهاد والمقاومة وذات الشّوكة بصفة عامّة ليكون دينا كدين الأرنب ترضى بما تستغني عنه الذّئاب والسّباع من فرائسها. الإسلام مقترن بالضّرورة بالعذاب أي عذابات الدّنيا، إذ لن يسلم من الإبتلاء إمرئ أبدا ولكن تختلف صور الإبتلاء فحسب بل إنّها على إختلافها لا بدّ أن تجمع بين الخير والشرّ معا أي بين الإبتلاء باليسر والعسر معا، فإن سبق هذا لحق ذاك وإن نفد هذا جاء ذاك. السؤال هو : لمَ يقترن الإسلام بالعذاب؟ من أدرك رسالة الإسلام عرف الجواب الصّحيح بيسر. الجواب الصّحيح هو أنّ الإسلام يقترن بالعذاب دوما لأنّه يحمل رسالة التّحرير ودون التّحرير في الأرض ذئاب جائعة نهمة بل هي جشعة حتّى في حال الشّبع. وهذه الذّئاب لا بدّ منها قدرا من الله مقدورا لمعالجة قانون الإبتلاء الذي شيّد الله عليه كونه وبنى عليه عمرانه وأسّس عليه دينه. ولا بدّ للإسلام الذي يحمل رسالة التّحرير أن يصطدم مع تلك الذّئاب ومن ذا تنشأ المعركة التي تفتح للتّحرير مساحات منداحة إذا صمد المقاومون إبتغاء مرضاة الله وحده سبحانه أو تسوق النّاس مرّة أخرى وبإسم الدّين إلى المحارق والمسالخ. إذا كانت الدّنيا بأسرها ـ ونحن نظنّها طويلة لا تنتهي ـ ستزول يوما لتطوى وتنعقد المحكمة التعقيبيّة الأخيرة، فإنّ حكم تلك المحكمة يكون مبناه رصيد العمل في هذا الشّوط الأول ومن ذا كان لا بدّ لهذا الشّوط الأول من الحياة أن يكون معركة ساخنة بين قيمتي التّحرّر والقهر. ذلك هو معنى أنّ الإسلام سلاح ذو حدّين، فإمّا أن يسعد به صاحبه أو أن يشقى وذلك هو معنى أنّه مقترن دوما بالعذاب ولكن يرون علينا الشّغب عندما نغفل أو ننسى أنّ بعد هذا الشّوط الأول شوطا أخيرا هو الحاسم وأنّ كل محكمة أو معركة تدار اليوم لابدّ لها من جولة أخرى.
عجيبة الإسلام وفريدته أنّه يبسط الأمل لأساطين القهر
قرأت القرآن الكريم متدبّرا فلم أجد آية أرجى فيه ـ أي أبعث أملا وأنفذ رجاء ـ من آية هذه السّورة التي تحمل قصّة الأخدود أي سورة «البروج» وذلك عندما بسط سبحانه الأمل في التّوبة والفيئة إلى أولئك الطّغاة القهرة الذين حفروا الأخدود للمؤمنين والمؤمنات وزجوا بهم فيه وجلسوا يحتسّون ما لذّ وطاب ومنه مشاهد اللّهيب الذي يطلع على أفئدة النّاس ومنهم رضيع. ألم يقل سبحانه : «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ»؟ أقول في نفسي دوما : من أراد أن يعرف من هو الله فليدّبر هذا الموضع : «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا». ومن كتب على نفسه الغفلة فليمرّ عليه مرور الكرام وما هو بمرور الكرام بل هو مرور اللّئام. لم أعجب من مشهد أو موضع في الكتاب الكريم كلّه عجبي من هذا الموضع. أنّى لهؤلاء الذين تجاوزوا حدود الحدود في القهر والظّلم والتّنكيل والتّشفي فلم يرحموا حتّى رضيعا بالتّوبة؟ أقول في نفسي : أنّ من تدبّر هذا الموضع فإمّا أن يجدّد إيمانه بالله سبحانه تجديدا صحيحا وعلى أسس متينة ويحسن إسلامه ويكسبه خيرا وإمّا أن يكفر. أمّا من يتدبّر هذا ثمّ يظلّ كما هو لا يتغيّر فما هذا بصاحب فؤاد يشعر ولا بذي قلب ينبض. أجل. ذلك هو الله لمن لم يعرفه. الله هو الذي يبسط الأمل في التّوبة التي لا تستثني حتّى هؤلاء. أعرف أنّ المجانين بالثّورة يعترضون مدلين بأسماء من الطّغاة الذين عرفناهم قائلين أنّى يغفر الله لهؤلاء. هؤلاء يعرضون إيمانهم للإفلاس وإسلامهم لما لا تحمد عقباه لأنّهم يعترضون على الله صاحب هذا البسط. يمكن أن يقول القائل ـ وأنا من هؤلاء ـ أنّه يعسر جدّا أن يفيئ من يتورّط في مثل هذا القهر إلى ربّه. هذا صحيح ولكن هذا بصحّته لا يمكن أن تجعلك تعترض على المبدإ المقرّر منه هو بنفسه ومباشرة بآية صحيحة صريحة لأنّ صاحب الدّين وواضعه هو وليس أنت. أنت مطالب بالتّحرر ثمّ بالإيمان إن شئت. أمّا تلبيس حالات قهر نحياها وتلظينا بها ولازلنا تلبيسا يجعل هذا الوعد الآمل والبسط الرّاجي في مهب الرّيح، فهو من عمل الشّيطان. الله سبحانه عندما يبسط مثل هذا العفو الذي لا يعرف حدودا وهو نفسه يعلم سبحانه أنّ المتورّطين في مثل هذا القهر لا يتوبون في العادة فهو يقصد بسط الأمل أمامنا نحن. فلم نلبّس به مشاهد سياسيّة معاصرة في حياتنا؟ أي عجب عجاب هذا الذي يدفعك إلى أن تقرأ بسط الأمل منه سبحانه إليك مظنّة لقصور في الحكمة منه سبحانه؟ أليس قمينا بك أن تتواضع؟ شأنك مع المستبدّين في الدّنيا شأن آخر عليك تدبيره بما ظفرت به من مصالح ومفاسد ولكن إياك أن تلبّس هذا بذاك لتكرّ على المبدإ نفسه.
حتى المرأة تقاوم القهر تحررا
ألا يشدّك قوله:«إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ»؟ أي داع يحمل الوحي على جمع المؤمنات هنا مع المؤمنين والمشهد مشهد دماء وأشلاء ومعركة حامية، بل هو مشهد أخدود ربّما يصاب المرء بالدوار لمجرد تصوّره؟ لو اقتصر على ذكر المؤمنين كما هي عادته في المواضع الأخرى لفهم النّاس أجمعين أنّ النّساء كذلك مشمولات بالأمر. لكنّه لم يفعل ذلك حتّى لا يتسلّل إلينا أيّ فهم خاطئ بأنّ المرأة معفيّة من مقاومة القهر والحضور في هذه المشاهد المؤلمة القاسية. بل حتّى لو كنّ أمّهات ومرضعات. 
حضور المرأة هنا معناه أنّ الإنسان عند الله سبحانه لا تمييز فيه بين ذكر وأنثى إلاّ بالتّقوى والعمل الصالح. ولكن أصابتنا جراثيم اليهود الذين كانوا لا يؤاكلون الحائض. تسلّلت إلينا من ثقافتهم وثقافة الإسرائيليين والعرب في الجاهليّة كذلك جراثيم كثيرة مفادها أنّ المرأة كائن حريري ناعم لا شأن لها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والمقاومة والجهاد وحضور مثل هذه المشاهد. غلبت علينا شقوات الأعراف والتّقاليد وما روى لنا الآباء والأجداد والأسلاف، فظنّنا ما ظنّوا وجعلنا ذلك دينا مدينا. أي بالخلاصة نزعنا على أنفسنا من قيم الإسلام كثيرا وتعرّبنا من جديد لا عروبة لسان بل عروبة جاهليّة تئد المرأة وتؤخرها عن مثل هذه المشاهد. من نتبع؟ القرآن الذي يروي لنا هذا المشهد ويحشر فيه المؤمنات في مقام الإفتخار أم الأسلاف والأجداد الذين مازالوا يلغون في الإسلام بأنّ المرأة عورة وصلاتها في بيتها أليق بها وأنّ أنوثتها هي التي جنت عليها وأنّ الشأن العام والسّياسي ليس شأنها؟ سل نفسك فحسب : من أتّبع ؟ الهدي القرآني في شأن المرأة أم الهدي العرفي والتّقليدي والسّلفي؟
أخاديد معاصرة : بورما وفلسطين وسوريا ومصر
من يقرآ القرآن الكريم بعينين : عين عليه والأخرى على الواقع، يدرك بيسر أنّه ما جاء إلاّ ليعالج الحياة المعاصرة الرّاهنة. لو كانت قصّة الأخدود تاريخا يتلى للتّسلي لما حركت فينا شجون الأخاديد الملتهبة الغائرة التي تحفر للمسلمين في «بورما» على أيدي البوذيين وأحد كبراء منظمة المؤتمر الإسلامي يخرج علينا هذه الأيام بقوله أنّه على النّساء في أوروبا نزع الحجاب أو الخروج. هذا شأن لا شأن لك به ولكن ماذا فعلت هذه المنظمة الناشئة في عقب حرق الأقصى عام 1969 وأخدود معاصر محفور يلتهم بنيرانه مسلمي بورما مصدّقا ما قاله سبحانه : «وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»؟ وأخدود فلسطين نفسه المحفور منذ أزيد من ستين عاما كاملة؟. وأخدود رابعة العدويّة في مصر حيث أحرق النّاس الأبرياء العزل بالنّار حرقا ولو كانوا ذبابا أو كلابا أو قططا لتعالت أصوات المجتمع الدولي «الحرّ» مندّدة؟ وأخدود سوريا؟ وأخاديد أخرى في العراق محفورة تلتهم أهل السّنة من لدن رجال الثّورة « الإسلاميّة» في إيران؟ أليس كل هذه الأخاديد المفتوحة تجعل لهذه القصّة عبرة ومعنى وقيمة؟ 
ألا تحمل القصّة وصفة علاج لهذه الأخاديد المفتوحة؟ أجل. إنّها وصفة مزدوجة قوامها أمران : أولهما قوله سبحانه « وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وذلك هو معنى قول آنف قوامه أنّ الإسلام يقترن دوما بالعذاب لأنّه حمّال ألوية التّحرير، والذئاب المفترسة تحرس بدهاقنتها معابد القهر وأديرة الرّق. وثاني الأمرين هو أنّ من يبيع حياته صابرا محتسبا لأجل حرّيته فهو الخالد الذي لا يفنى ذكره بل يظلّ قرآنا يتلى آناء الليل وأطراف النهار وأيّ مجد يبلغه شهداء الأخدود ومن يسير على نهجهم عندما تظلّ معركتهم تلاوة يتعبّد بها؟ 
نظنّ نحن لقصورنا أنّ المستبدّ يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنّسل ثم يفرّ كما فرّ مخلوع تونس أو كما مات مقبور ليبيا أو نجا سفاح مصر أو كما « يقاوم» قزم سوريا ثمّ تطوى القصّة. ولكن القرآن بهذه القصّة العظيمة يصحّح لنا التصور ليقول لنا أنّ المعركة التي ظننتم أنّ المؤمنين المقاومين فيها خسروا الجولة ستعاد مرّة أخرى أوّلا ثمّ إنّ المجد لأولئك الشّهداء وها أنا أجعل من مشهدهم قرآنا يتعبّد به ويتلى، أمّا من ظننتم أنّهم نجوا وفرّوا فما هم كذلك ولكنّ الحياة إبتلاء أو لا تكون.
موازنة بين بسط الأمل وبين الجزاء الوفاق
حتّى لا يطغى بك الشّعور أنّه سبحانه بسط الأمل في وجه أولئك الطّغاة أنظر إلى قوله سبحانه : «فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق»ِ. أي أنّه يبسط الأمل لمن يتوب ولكنّه في الآن نفسه يضاعف العذاب لمن لا يتوب بل يجعله جزاء وفاقا، فكما عرّض المجرمون السّفاحون النّاس الأبرياء للحرق بالنّار في الدّنيا، فإنّ عذابهم يوم القيامة يكون نارا وحريقا معا. كما أحرقوا يُحرقوا. وكما تدين تدان كما قال عليه الصلاة والسّلام. ألا ترى معي إنسياب آيات هذه السّورة بدمدمة الحرف المقلقل؟ أكثر فواصلها حروف مقلقلة مدمدمة: البروج ـ الموعود ـ مشهود ـ الوقود ـ قعود ـ شهود ـ الحميد ـ شهيد ـ الحريق ـ لشديد ـ يعيد ـ الودود ـ المجيد ـ يريد ـ الجنود ـ ثمود ـ تكذيب ... ذلك ليوحي إلينا أنّ النّصر الذي ظنّناه نحن اليوم معزّرا ليس هو كذلك بل هو نصر مقلقل معرض للإندلاق فلا يدوم. ألا ترى معي أنّ دمدمة تلك الحروف المقلقلة تناسب وصف تلك المحرقة كأنّها تحمل إلينا أصوات النّار وهي تحسّ اللّحوم الطّازجة حسّا؟ 
ألا ترى معي أنّ الأخدود المحفور في الأرض سبقه قسم بالبروج في السّماء؟ هذا برج فان وذاك أخدود باق. ألا ترى معي أنّه يريد توثيق الجريمة إذ يؤكّد الشّاهد والمشهود وأنّه هو نفسه شهيد؟ ألا ترى معي أنّه يريد أن يوحي إلينا أنّ المجد هو لكتابه أو له هو نفسه وليس للسّفاحين وأنّ البطش الحقيقي الباقي هو بطشه هو وليس بطش الفانين؟ تلك موافقات الكتاب الكريم لا بد منها ليخدم المبنى المعنى.