تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
التحدي (3) ما بعد الانقلاب
 عاد المشغل إلى سالف نشاطه ودارت دواليب المكنات على عادتها بنفس الأعوان الذين تعوّدوا على رتابة الحركة وانسجامها. فلا يكتمل المنتوج إلاّ بلمسات المرحلة الأخيرة التي تخصّص للتّعيير ومراقبة الجودة بعيدا عن ضجيج الآليّات. صخب لم يمنع العملة من التواصل فيما بينهم وإن كان بالصّوت العالي لتبادل المعلومات حول من يدير المشغل والفريق الجديد الذي يساعده، دون أسف لا على المدير القديم ولا على فريقه الذي تمّ الاستغناء على أكثر أفراده. وقد اختلف الأعوان في تقديرهم للأوضاع، فمنهم من رأى أن ما حدث كان ينبغي أن يصير منذ عقود فاستبشروا ورحبوا به وإن كان متأخرا، ومنهم من حمد الله على هذا الحدّ من البؤس «دفع الله ما كان أعظم». إلاّ أنّ «سي يوسف» أكثر النّاس إلماما بما يدور داخل المشغل وخارجه، أغلق على نفسه مكتبه لعدّة أسابيع فلا يجتمع مع أحد من العمّال إلاّ من تعوّد تزويده بما توفّر من أخبار العملة. وكلّ الأخبار تفيد، المهم أن يستمع ثمّ يغربل الغثّ من السّمين ويكمل أخباره التي استجمعها من لقاءاته مع صاحب المشغل والفريق المسيّر الجديد بصفته ممثّلا نقابيّا للعملة. فهو لم يفقد صفته وإن تزعزعت ثقة بعضهم فيه، فهو لا يزال على رأس الهيئة النّقابية التي لم تتغيّر بعد. كلّه إنصات، يجمع ما تيسّر من معطيات ومعلومات من داخل المشغل وخارجه. إنّه يعرف كيف يتأقلم مع الوضع الجديد والمتجدّد أي متى يقدم على الاتصال المباشر ومتى يتراجع للمّ الشّتات والاستعداد لمواجهة جديدة لم يحن وقتها بعدُ حسب قوله.
يتطلّب تثبيت الثقة ودعمها التّريث والصّبر. فـ«سي يوسف» ليس من الذين أدينوا بالفساد وهو بعيد عن كلّ شبهة، غير أنّه يعلم جيّدا أنّ عددا من أعضاء هيئته استفادوا من مواقعهم بالسّعي لمصالح شخصيّة واستغلّوا كما أشار المهندس «لطفي» تسامح الإدارة وتعاونها وضعفها كذلك أمام فرط الابتزاز، فاستبقوا بامتيازات لم يكونوا ينتفعون بها لولا موقعهم النّقابي. وهؤلاء ما عليهم إلاّ تحمل تبعات ما أقدموا عليه مثلهم مثل المسؤولين الذين غادروا وحلّ مكانهم أشخاص آخرون لم يتعرّف عليهم بعدُ. لقد تحمّل المسيّرون المغادرون عبء سابقيهم ودفعوا ثمن سكوتهم وقبولهم بالأمر الواقع بأخفّ الأضرار، فاستقالوا.
فهم «سي يوسف» الوضع جيّدا لأنه لم يفقد الاتصال بالمركزيّة العمّالية وشارك في كلّ الاجتماعات الوطنيّة والجهويّة وحتّى المحلية لمتابعة الأوضاع السّياسية والاجتماعيّة للبلاد. إنّه أصبح يهتمّ أكثر فأكثر بالشّأن العام وشرع يعدّ بكلّ حزم كلّ ما يلزم استعدادا لخوض الانتخابات الجديدة لمكتب النّقابة. إنّه يستشرف العضويّة في المكتب الجهوي ولِما لا المكتب الوطني في ظلّ المناخ الجديد المتحرّك والذي شوّش الرّؤية فأصبحت الفرصة سانحة لرمي الصّنارة والخيبة لمن تخاذل وبقي يتفرّج. أعدّ الرّجل بكل ثقة قائمة في معاونيه من القدماء الذين واصلوا مساندته رغم الظروف الصعبة وأعدّ قائمة أخرى لوجوه جديدة يمكنه أن يعوّل عليهم مستقبلا، وربط الاتصالات مع  مسؤولين جهوييّن  وبادر باستدعائهم لترأس الاجتماعات العمّالية المقبلة.
فهم «سي يوسف» جيّدا أنّ «عم حسن» لم يكن مثلما ظنّه في حالة الغضب واتهمه بالاندساس والتّواطؤ مع إدارة المشغل وبرّأه من مشاركته في المكائد التي كان يعتقد أنّ صاحب المشغل حاكها له واقتنع اليوم ببراءة الرّجلين معا، بل تأكّد من حكمة صاحب المشغل وتعاونه مع النّقابة عبر ما لمسه من انشغال هذا الأخير بمطالبهم وما عاينه من عناية واهتمام. ولم ينكر «سي يوسف» في داخله الاحترام والتقدير الذين يلقاهما من صاحب المشغل. ولكن هل يجرؤ اليوم على البوح بكلّ هذه التّفاصيل؟ لا الحقيقة في غير موقعها وفي غير أوانها تخون صاحبها. سيصفه العمال بالتّخاذل والانضمام إلى الصّف الآخر. الأصلح اليوم  فضح سيرة المسيّرين سابقين كانوا أو لاحقين تعوّدوا يعلّقون نواياهم القذرة ورداءتهم على حبل غسيل العمّال الكادحين فتضل على حالها وإن طال الزّمن. فأيّ نيلة تزيل كلّ الأدران المتراكمة ؟ الحيلة اليوم لا في ترك الحيل بل في استباق حيلهم وصدّهم بما لديهم. وأصبح «سي يوسف» ملازما لمواقع التواصل الاجتماعي يتفاعل مع الجميع ويشارك في المنتديات المفتوحة للعموم ويدلي بدلوه في قعر المسائل التي تثار وسرعان ما تنتشر وتصبح حديث السّاعة، فلا يغلق قوسها إلاّ بإثارة مسألة أخرى وغالبا ما يفتح قوسا جديدا قبل غلق القوس القديم. أصبح «سي يوسف» اليومَ يسبح في فضاء اختلطت عليه أبعاده، كأنّه رياضيّ يعالج معادلة حسابيّة تعقّدت من كثرة الأقواس، فانكب يحسبها ويعدل بين الأزواج منها حتى يتجنّب الاختلاط ولا يفسد التّوازن والاعتدال الذي قد يبطل المعادلة أساسا. والمسائل التي شدته وأثارت فضوله هذه الأيام ودفعته للتفاعل مختلفة وبعيدة عن مجال اهتمامه المعتاد ووجد نفسه يبحر وأحيانا يغوص في مياه عميقة لم يتعود خوضها من قبل. فها هو اليوم يؤبن المفكر «محمد الطالبي» الذي وافته المنية فكتب بتأثر كبير « مات الرّجل... مات الذي لا يخاف الله، لا لشيء إلاّ لأنّه أحبه... مات الرّجل فرافقته الملائكة وبقي الشيطان يترصّد الأحياء حيث رصدوه...» وها هو في مرّة أخرى يشارك في حملة «وينو البترول؟» فيساند بالتّعليق وبالنّشر. ولا يفوته أن يشارك ويتفاعل بشدّة واندفاع مع كلّ ما ينشر لتلميع صورة البلاد و يساعد على استقرارها ويشجّع سياحتها والرّغبة فيها. «سي يوسف» وطني ويحبّ البلاد على طريقته وما أحوج البلاد لجبر وتقوية هذه الثّقة المهتزّة والمضطربة منذ سنوات. 
هكذا وجد «سي يوسف» نفسه يصافح مكوّنات المجتمع المدني على شتات تنوّعه والجمعيّات المدنية وشبه المدنية التي يسعى من وراءها جميعا باعثوها لمخالطة رجال السّياسة والأحزاب الفاعلة المتعطّشة للسّلطة لعلّها يوما تحتاج إليهم زمن التّعبئة. فالكلّ مخزون انتخابي باهت لا لون له. هؤلاء يبيعون خدماتهم في سوق النّخاسة ويعرضون على صفحات الواب استعدادهم لمعارضة كلّ شيء وأنفسهم إن لزم الأمر ولرفض كلّ شيء وإن كان تمّ قبوله في الصّباح ينقلبون عليه في المساء. لا أوضع من خدمة الدلاّل لا يهمّه ماذا يبيع ولا من يشتري.
صحيح أنّ الحرّية زمن الجهل تخلق الفوضى وهل أبلغ من هذه التي يعيشها ويعيها «سي يوسف» في أيامه الصّعبة؟ هل يقبل «سي يوسف» هذا النّفاق الذي اكتشف نفسه غارقا فيه؟ مستنقع مسطح لا أمواج فيه يصارعها للتّلذذ بنشوة انتصار ولا تحدّي بل خنوع وانغماس متزايد في مياه راكدة لا تستجيب لتطلعاته هو الذي يرى نفسه على خطى نجمه «فرحات حشاد» يردّد شعاره «أحبك يا شعب».
استفاق «سي يوسف» ففرك عينيه. «لا ليس هذا هو الشّعب الذي أحبّه سي فرحات، شهما، شجاعا وأبيّا. هذا شعب لا يقرأ.» تراجع «سي يوسف» وليس متأخّرا وطلّق الفيسبوك من صبيحة ذلك اليوم.