في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
البساطة والجمال في البنية الرياضية للطبيعة
 المعني والقالب
يقول الجاحظ: «المعاني ملقاة في الطّريق يعرفها العربي والعجمي، وإنّما الشّأن في إقامة الوزن وتخيّر اللّفظ وسهولة المخرج وجودة السّبك فإنّما الشّعر صناعة وضرب من النّسج وجنس من التّصوير». لذلك أقول المعاني تشبه الرّوح، ليس لنا فيها كثير ولا قليل، والتي هي هبة من الله للطّين حوّلته إلى إنسان، أمّا الذي لنا فيه دخل كبير فهو صبّ تلك المعاني في قوالب، ولذلك قيل الألفاظ قوالب المعاني وقد يكون المعنى عاليا وصبّه الإنسان في أردى قالب. ومعاني الطبيعة كتاب مفتوح من الذّرة إلي المجرّة وأعظم قالب استطاع الإنسان إلي الآن صبّ معاني الطّبيعة فيه هو القالب الرّياضي. بل وتتمثّل النّقلة النّوعية الكبرى في الحضارة الغربيّة في نجاحاتها المتكرّرة عبر محاولاتها غير اليائسة في وضع نماذج تفسيريّة للظّواهر الطّبيعيّة التي تنتمي لصف واحد، ثم يبحث بعد ذلك في توحيد تلك الصّفوف في نماذج تفسيريّة كبرى أشبه بالسّرديّات الكبرى في علم الاجتماع، وتوضع معظم هذه النّماذج،إن لم يكن كلّها، في هيئة بنى رياضيّة تتّصف أول ما تتّصف بالمعياريّة ثمّ الصّرامة ثم البساطة ومن ثمّ الجمال. ولا يعني ذلك أنّ الإنسان قد وصل إلى هذا القالب الرّياضي المبهر للطّبيعة بقفزة واحدة بل بقفزات تراكميّة للحضارة البشريّة ساهم فيه كلّ البشر من عرفه التّاريخ ومن لم يعرفه.
تمهيد الطريق للقالب الرياضي للطّبيعة
لا يشكّ عاقل أنّ التّمهيد لأيّ شيء جديد هو من الصّعوبة بمكان، ثمّ يأتي بعد ذلك جني الثّمار تباعا. لذلك قد يقول قائل إنّ حضارة الغرب اليوم يرجع الفضل فيها للمسلمين، وبعضهم يغالي فيعزو قوانينها لعلماء المسلمين كإبن سينا والرّازي والبغدادي والبيروني وغيرهم كثير، وليس ذلك بصحيح على إطلاقه فعلماء المسلمين أخذوا عن الحضارة اليونانيّة والرّومانية وطوّروا وابتكروا بل وأضافوا إضافات نوعيّة تتمثّل في إحداث ثورة في منهجيّة التّفكير والبحث العلمي السّليم بعيدا عن السّحر والطّلاسم والخرافات، بل إنّ الحضارة اليونانيّة والرّومانيّة أخذتا عن حضارة الرّافدين «السّومريّة أو البّابليّة أو الآشوريّة» والمصريّة القديمة «الفرعونيّة» وحضارة بلاد السّند «الهنديّة» وحضارة السّاحل الشّرقي للمتوسّط وتعرف بالفينيقيّة وهكذا يستمر نهر الحضارة. لكن يظلّ إختراع القالب الرّياضي للطّبيعة اختراعا غربيا شبه خالص، حيث يتمّ احتواء المعاني الكبيرة في رموز قليلة وصياغات تتكافأ رياضيّا، في حين أنّها تصف ظواهر مختلفة تماما.
 ولا تأخذنا النّعرة للأجداد بأن نقول أنّ الفضل الحقيقي في اكتشاف قوانين نيوتن في الحركة والجّاذبية مثلا -وهي العصب الحقيقي لكلّ تقدّم في العصر الحديث- يرجع إلى علماء المسلمين. وقد يستدلّ البعض على ذلك بأنّ القانون الأول للحركة صاغه ابن سينا (981 – 1036م) في كتابه «الإشارات والتّنبيهات» حيث يذكر: «إنّك لتعلم أنّ الجسم إذا خُلِّي وطباعه، ولم يَعْرِضْ له من خارجٍ تأثيرٌ غريبٌ، لم يكن له بُدٌّ من موضع معين وشكل معين، فإنّ في طباعه مبدأ استيجاب ذلك، وليست المعاوقة للجسم بما هو جسم، بل بمعنى فيه يطلب البقاء على حاله». وأنّ الذي اكتشف القانون الثّاني للحركة هو أبو البركات هبة الله بن ملكا البغدادي (1087 – 1164م) في كتابه «المعتبر في الحكمة» حيث يقول: «وكلّ حركة ففي زمان لا محالة، فالقوّة الأشدّ تُحرِّك أسرع وفي زمن أقصر.. فكلّما اشتدت القوّة ازدادت السّرعة فقصر الزّمان، فإذا لم تتناه الشّدة لم تتناه السّرعة، وفي ذلك تصير الحركة في غير زمان أشدّ، لأنّ سلب الزّمان في السّرعة نهاية ما للشّدّة». وفي الفصل الرّابع عشر من الكتاب يقول: «تزداد السّرعة عند اشتداد القوّة، فكلّما زادت قوّة الدّفع زادت سرعة الجسم المتحرك، وقصر الزّمن لقطع المسافة المحدّدة». أمّا القانون الثاّلث للحركة فقد قال فيه  بن ملكا ما نصّه: «إنّ الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكلّ واحد من المتجاذبين في جذبها قوّة مقاومة لقوّة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فَجَذَبَهَا نحوه يكون قد خلت من قوّة جذب الآخر، بل تلك القوّة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كلّ ذلك الجذب». وهو نفس المعنى الذي ورد أيضًا في كتابات الإمام فخر الدّين الرّازي (ت 606هـ / 1209م) في كتابه «المباحث المشرقيّة في علم الإلهيات والطّبيعيات» حيث يقول: «الحلقة التي يجذبها جاذبان متساويان حتّى استقرت في الوسط، لا شكّ أنّ كلّ واحد منهما فعل فيها فعلاً معوَّقًا بفعل الآخر». بل إنّ ابن الهيثم (ت 430 هـ/ 1039م) كان له نصيب منه أيضًا، حيث قال في كتابه «المناظر» «المتحرّك إذا لقي في حركته مانعًا يمانعه، وكانت القوّة المحرّكة له باقية فيه عند لقائه الممانع، فإنّه يرجع من حيث كان في الجهة التي منها تحرّك، وتكون قوة حركته في الرّجوع بحسب قوّة الحركة التي كان تحرّك بها الأول، وبحسب قوّة الممانعة». وباكتشاف «قانون الجاذبيّة» الذي يربط الأجرام السّماوية ويحفظ تماسكها وانتظامها في مداراتها، استطاع العلماء تفسير سقوط الأجسام نحو الأرض، وفهم المزيد عن حركة الكواكب حول الشّمس في مدارات دائريّة تقريبًا، وذلك بفرض أنّ التّجاذب بين الشّمس وكواكبها هو السّبب في تلك الحركة الدّورانية. وصاغ الهمداني (ت334 هـ / 945م) في كتابه «الجوهرتين العتيقتين المائعتين من الصّفراء والبيضاء» هذا القانون في سياق حديثه عن الأرض وما يرتبط بها من مياه وهواء: «فمن كان تحتها -أي تحت الأرض عند الأسفل- فهو في الثّابت في قامته كمن فوقها، ومسقطه وقدمه إلى سطحها الأسفل كمسقطه إلى سطحها الأعلى، وكثبات قدمه عليه، فهي بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قواه الحديد إلى كلّ جانب..». وبهذا التّوضيح يكون الهمداني قد أرسى أوّل حقيقة جزئيّة في فيزياء ظاهرة الجاذبيّة، ليأتي بعده أبو الرّيحان البيروني (ت440هـ /1048م) ويؤكّد ما سبق إليه الهمداني من أنّ الأرض تجذب ما فوقها نحو مركزها، فقد جاء في كتابه «القانون المسعودي» أنّ الأثقال إلى أسفل. ونجح هبة الله بن ملكا البغدادي في تصحيح الخطأ الجسيم الذي وقع فيه أرسطو، عندما قال بسقوط الأجسام الثّقيلة أسرع من الأجسام الخفيفة، وسبق بذلك جاليليو في إثبات الحقيقة العلمية الهامّة التي تقضي بأنّ سرعة الجسم السّاقط سقوطًا حرًا تحت تأثير الجاذبيّة الأرضيّة لا تتوقّف إطلاقًا على كتلته، وذلك عندما تخلو الحركة من أيّ معوقات خارجيّة، ويعبر عن هذه الحقيقة بكلماته في كتابه « المعتبر في الحكمة» فيقول: «... وأيضًا لو تحرّكت الأجسام في الخلاء لتساوت حركة الثّقيل والخفيف والكبير والصّغير والمخروط والمتحرّك على رأسه الحادّ والمخروط المتحرّك على قاعدته الواسعة، في السّرعة والبطء؛ لأنّها إنّما تختلف في الملاء بهذه الأشياء بسهولة خرقها لما تخرقه من المقاوم المخروق كالماء والهواء وغيرهما..». وفي أبحاثه عن المقذوفات يقول بن ملكا البغدادي «من توهّم أنّ بين حركة الحجر علوا المستكرهة بالتحليق وبين انحطاطه وقفة فقد أخطأ، وإنّما تضعف القوّة المستكرهة له وتقوى قوى ثقله، فتصغر الحركة، وتخفي حركته على الطّرف، فيتوهّم أنّه ساكن». وتحدّث الخازن عن التّسارع (أو العجلة) في سقوط الأجسام نحو الأرض، وضمن كتابه «ميزان الحكمة» ما يدلّ على معرفته بالعلاقة الصّحيحة بين السّرعة التي يسقط بها الجسم نحو سطح الأرض والبعد الذي يقطعه والزّمن الذي يستغرقه. 
تأخذ تلك الصّياغات اللّفظية وقتا طويلا حتّى تتشرّبها العقول، ولا شكّ أنّ هذا قد مهّد الطّريق بعد أن صبّ المسلمون المعاني الطبيعيّة في قوالب لفظيّة «غير قانونية» وليست في صيغ كمّية كما وضعها علماء الغرب في عصر النّهضة في قوانين تتميّز بأنها مضبوطة معياريّا يسهل جدّا تطويرها واستخراج العلاقات بينها، لكن ما إن عُرفت البنى الرّياضية للطّبيعة إلاّ وقد أصبحت القفزات الحضاريّة متسارعة جدّا وتغيّر وجه الأرض حضاريّا مرّات ومرّات في أقلّ من قرنين من الزّمان، في حين ظلّت الحضارة تراوح مكانها ولا تبعد عنه كثيرا لمدّة سبعة قرون في ظلّ صياغة الطبيعة لفظيا فقط. 
الطبيعة هي المصدر والمختبر للرّياضيات
بعد أن ابتكر الإنسان الرّياضيات كلغة نتصور ونفهم من خلالها وبشكل معياري جريان الطّبيعة وتطوّر أحداثها أصبح لديه اعتقاد راسخ بأنّ أعظم اختبار للرّياضيات هو تعريضها بل إدخالها لدنيا المشاكل الطّبيعية والحياتيّة، وأنّ ميلاد فروع جديدة في الرّياضيات لا يأتي من التّجريد المطلق بقدر ما يأتي من التّطبيق، ذلك لأنّ التّجريد أكثر ما يأتي به هو التّعميمات لمبادئ موجودة بالفعل. والأمثلة أكثر من أن تحصى من الآباء المؤسّسين للنّهضة الغربيّة من نيوتن وأويلر وبوانكاريه ولابلاس ولاجرانج وهاميلتون وجاوس وفورييه، ففروع الرّياضيات الجديدة التي ابتكروها كانت ناتجة عن أعمالهم في الطّبيعة بل وفي الجزء الميكانيكي منها فقط. حتّى إنّ العلوم الاجتماعيّة وهي فرع من العلوم الإنسانيّة والتي لها نمط مختلف -تماما- عن «الفيزياء» من وجوه كثيرة أوضحها القابليّة للقياس الكمّي الدّقيق، كان جون فون نويمان يري أن دراسة الظواهر الاجتماعيّة سوف تؤدّي بنا حتما إلى خلق آليّات «رياضيّة» جديدة تماما، وقد تمثّل ذلك بالفعل في وضع أسس «نظرية الألعاب Game theory» علي يد جون فون نويمان وأوسكار مورجن شتيرن [1]. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ممّا تتكون هذه اللّغة التي ضمنت استمرار التّقدم الحديث؟
تكوين البني الرياضية
يتكون البناء الرياضي بل كل بناء فكري عموما من مجموعة من المسلَّمات و التّعريفات وغير المعرفات والنّظريات، أما المسلّمات فهي القضايا الواضحات جدّا لدرجة أنّ العقل لا يطلب إقامة الدّليل على صحتها، وبذلك تكون قد سلمت ولو لفترة طويلة من ظهور أيّ تناقض فيها مع النّسق الرّياضي. وأمّا التّعريفات فهي نقطة الانطلاق في الصّياغة الرياضية لللفظيّات، يتمّ بواسطتها وضع وتحديد المفاهيم والتّصورات الأوّلية التي تشكّل المادّة الخام لدراسة الرّياضيات. وغير المعرّفات تعدّ استكمالا أساسيّاً للبنية الرّياضية القائمة على النّظام الاستنتاجي. وأخيرا النّظريات وهي نتائج منطقيّة يمكن البرهنة على صحّتها بالاستناد إلى مجموعة المسلّمات والتّعريفات وغير المعرّفات وأحيانا النّظريات المبرهنة سابقاً. تتميّز البنية الرّياضيّة بدقّة وروعة التّصميم وبالإحكام والتّسلسل المنطقي، فهي تبدأ بالمسلّمات والبديهيّات والتّعريفات والمفاهيم غير المعرّفة وتنتهي بالنّظريات ومن الأخيرة تنبثق القوانين والعلاقات. والآن نبسط الكلام عن المراد بجمال وبساطة  البنية الرّياضية للطّبيعة.
الجمال بين النظرية والتجربة
البحث عن الجمال مزروع في النّفوس، يبحث الرّجل عن زوجة فنجده في الحقيقة يبحث عن الجمال، والجمال في أبسط تعريفاته هو تناسق الجزء مع الكلّ، فإذا كان ذلك الرّجل يعتبر أنّ الكلّ عند المرأة هو الجسد بحث عن التّناسق الجسدي الجزئي الذي يكامل به الكلّ والذي سريعا ما يزول أو يتغيّر جوهريا لا محالة بجريان الزّمن، وإن كان الكلّ عند الرّجل في المرأة هو الإنسان بحث عن تناسق الإنسانيّة داخل المرأة والذي ينمو زمنيّا إن أحسنت رعايته، ولها محدّدات أخرى غير الجسد بل الجمال فيها أروع من جمال الجسد بكثير. فالإنسانيّة هذه مكونة من لبنات متباينة أشدّ التباين جسد أرضي وروح سماوي وتفاعل بينهما تنتجه الثقافة، وحين يتمّ الربط بين المتباينات في كيان واحد متّسق يكون الجمال الحقيقي. وهذا هو عين الموجود في الطبيعة، يقول أينشتين: «النّظرية تكون أدعى إلى إثارة الإعجاب كلّما كانت مقدّماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشدّ اختلافا، وصلاحيتها للتّطبيق أوسع نطاقاً». ومثل ذلك ما قاله ريتشارد موريس، فكثيراً ما ثبت بأنّ النّظريات التي تثير الإعجاب جمالياً هي النّظريات الأكثر احتمالا لأن تكون صحيحة، فالطّبيعة فيما يبدو تنتظم في أنماط بسيطة منطقيّة. وكان أغروس وستانسيو يرى أنّه إذا وجدت نظريّة أنيقة للغاية لا تنسجم مع مجموعة من الحقائق فهي لا محالة واجدة لها تطبيقاً في مجال آخر. وأوضح مثال على ذلك عندما كان الرّياضي والفيزيائي هرمان فايل مقتنعاً بأنّ نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبيّة، ولكنه نظراً لكمالها الفني لم يرد التّخلي عنها كلياً. وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل أنّ نظريّة فايل تلقي ضوءاً على ديناميكا الكمّ الكهربائيّة، فجاء هذا مصداقاً لحسّه الجمالي. وكانت نظرية الفيزيائيّين ريتشارد فينمان وماري جيل مان (عام 1958) وهي نظريّة جديدة لتفسير التّفاعلات الضّعيفة، تناقض بشكل صارخ عدداً من التّجارب، لكنّ الجانب الرّئيسي الجذّاب فيها كان الجمال، وممّا قاله هذان الفيزيائيان: «أنّها نظريّة عالميّة ومتناسقة وهي أبسط الإمكانات، ممّا يدل على أنّ التّجارب غير صحيحة». كما علّق جيل مان على ذلك بقوله: «غالباً ما يطرح العالم النّظري مقداراً كبيراً من البيانات على أساس أنّها إذا كانت لا تنسجم مع خطّة أنيقة فهي غير صحيحة، وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظريّة التّفاعلات الضّعيفة، لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النّظرية وكلّها بلا استثناء غير صحيحة، فإذا كانت لديك نظريّة بسيطة تتّفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنّها تفسر فعلاً ما يحدث، فلا عليك أن وجدت كمّية قليلة من البيانات التّجريبية التي لا تؤيّدها، فمن المؤكّد تقريباً أن تكون هذه البيانات غير صحيحة». وهناك مقولة مأثورة منسوبة إلى ايدنجتون: «على المرء أن لا يصدّق بأيّ تجربة إلى أن تأتي نظريّة تؤكّدها». لكنّ خطأ التّجربة - وما أكثرها - قد يكون بالنّسبة لصاحب النّظرية الجميلة كارثة، كالذي عبّر عنه الفيزيائي الأديب «رولان أومنيس» في أسلوبه الشّعري بقوله: «لا شيء مثير للرّعب أكثر من الاغتيال السّافل الحقير لنظريّة جميلة بفعل وقائع ملعونة».
البساطة بين الفلسفة والطبيعة
يتغذّى الإنسان من النّظر والتّأمل في الطّبيعة، حتّى أنّ العقل لمّا رأى البساطة والجمال مبثوثين في كلّ شئ، وضعهما كأحد المسلّمات الرّياضية غير المكتوبة على البنى الرّياضية للطّبيعة. البساطة هي محاولة من طرف الإنسان لمحاكاة بساطة الطّبيعة ووحدة الكون رغم تعقيد ظواهره الجزئيّة عن طريق بناء علاقات يرى من خلالها الوحدة في المركّب والمعقّد دون نشاز ودون تناقض في رؤية التّوحيد هذه وذلك باستخدام أقلّ المقولات لتفسير المركّب والمعقّد على أنّه واحد، وكان الفيزيائي ريتشارد موريس يقول بدون فرض البساطة على الطّبيعة فإنّه لا يستطيع أحد إنجاز أيّ فيزياء، والبساطة عمليّة مستمرّة ولن تنتهي إلاّ بنهاية البشريّة، وليست البساطة مرادفة للسّهولة في الاستخدام. فمن الممكن أن يكون البناء الرياضي معقّدا جدا لكنّه مؤسّس على عدد قليل من البديهيات ويستطيع تفسير أكبر عدد ممكن من الظّواهر التي تقع تحته دون الحاجة إلى افتراض وجود بديهيّات أكثر مثل سهولة الجهاز الرّياضي لنظريّة نيوتن في الجاذبيّة وتعقيد ذات الجهاز لنظريّة أينشتين، لكن تُعدّ الأخيرة هي الأبسط لعموميّتها الأوسع وعدم فقرها إلى بديهيات جديدة احتاجت إليها نظريّة نيوتن عند معالجتها ظواهر في الجاذبيّة فشلت في معالجتها ابتداء، فليس المقصود هو بساطة الحدّ الرّياضي دون قدرته علي تفسير الظّواهر بل المراد هو بساطة الحدّ الرّياضي واقتحامه مفسّرا الحدّ الطّبيعي. وقد أسهب الفلاسفة في تحديد محتوى مفهوم البساطة من موريس شليك الذي يرى «أنه مفهوم نسبيّ، وغير دقيق، بحيث لا يمكن معه الوصول إلى تعريف محدّد للسّببيّة أو إلى التّمييز الدّقيق بين القانون والصدفة»، واعترض عليه كارل بوبر واعتبر تعريف شليك خارجاً عن نطاق المنطق، ومن ثمّ قدّم بوبر تعريفه للبساطة فأدرجه ضمن مفهوم القابليّة على التّكذيب، فالقضيّة الأبسط من غيرها هي تلك التي تكون أكثر اقناعاً من النّاحية التّجريبية، أي أنّها أكثر قابليّة للتّكذيب والفحص التّجريبي، وانتقد همبل تعريف بوبر وذكّر بأنّه قد تتوافر فرضيّات متساوية من حيث القابلية على التّكذيب لكنّها مختلفة من حيث البساطة، وبعض العلماء قديما كانوا يربطون بين الأكثر احتمالا والبساطة، يذكر بوانكاريه: «كان الفيزيائيّون منذ خمسين سنة خلت يعتبرون أنّ القانون البسيط -عند استواء كلّ المعطيات- أكثر احتمالا من القانون المعقّد، بل إنّهم كانوا يحتجّون بهذا المبدأ لتغليب قانون ماريوت على تجارب رينو، إلاّ أنّهم تخلّوا اليوم عن ذلك الاعتقاد. ولكن ما أكثر ما يجدون أنفسهم مكرهين على أن يتصرّفوا وكأنّهم لم يتخلّوا عنه». وبعض العلماء يرى أنّ البساطة سمة من سمات الطبيعة وقوانينها، وقد اشتهر عن نيوتن قوله: «الطّبيعة تسرّها البساطة». إلاّ أنّني أرى الإنسان هو الذي تسرّه البساطة. وعبّر أينشتاين عن عقيدته بأنّ «الطّبيعة هي إدراك لأبسط الأفكار الرّياضية التي يمكن تصوّرها». ويقول ماكس بورن: أنّ «الفيزيائي الحقيقي يؤمن إيماناً راسخاً ببساطة الطّبيعة وبوحدتها رغم أيّ مظاهر معاكسة». وقال هايزنبرغ ذات مرّة في حديث جرى بينه وبين أينشتاين: «أعتقد مثلك تماماً أنّه لبساطة القوانين الطّبيعية صفة موضوعيّة، وأنّها ليست مجرّد نتيجة اقتصاد في التّفكير. وإذا كانت الطّبيعة تقودنا إلى صيغ رياضيّة على جانب عظيم من البساطة والجمال فنحن لا نملك إلاّ الاعتقاد بصحتها، وبأنّها تكشف عن سمة حقيقيّة من سمات الطّبيعة». وقال كارل فون فايتزساكر: «إنّ مبدأ الاقتصاد في التّفكير الذي يتردّد على الألسنة يفسّر على أحسن الفروض سبب بحثنا عن قوانين بسيطة، ولكنّه لا يفسّر سبب عثورنا عليها». وهو يريد أن يبيّن بأنّ الطّبيعة ذاتها بسيطة وجميلة ومتّسقة. فجمال علوم الطّبيعة مستمدّ من ذات الطّبيعة، أو أن مصدر الجمال والبساطة هو من الطّبيعة لا الإنسان كما يرى أغروس وستانسيو.
البساطة والجمال في الشئ وضده
يعدّ التّناظر أحد أهم محدّدات الجمال المادّي، فجمال التّراكيب اللّغويّة يتأتّى من الأشباه والنّظائر ويكاد يكون التّناظر في البيت الشّعري أحد أهم محدّداته الفنيّة الجماليّة، فيلتزم الشّاعر وزنا لا يكسّره، وهو نفس المعني تقريبا الذي صاغته الرّياضيات للمبادئ الطّبيعية في اعتبار التّناظر هو سمة للشّيء أو المنظومة اللاّمتغيّرة (أي ثابتة) عند إجراء تحويل عليها». أي يبقى الشّيء على ما هو عليه تماما بغض النّظر عن أي أوضاع ناتجة عن التّحويل. واعتبر أيضا في التّركيب الجسدي  كذلك محدّدا للجمال، فما أكثر التّماثلات في الكائنات الحيّة. ولمّا كان الشّكل الكروي  يحتوي على عدد لا نهائي من التّناظرات اعتبره اليونانيّون ممثّلا للتناظر الهندسي المثالي، بل وقدّسوا الشّكل الكروي مع أفلاطون وأرسطو واعتبروا الحركة الدائريّة هي الحركة المثاليّة للفلك. وقد عبر هيرمان فايل عن فكرة محاولة الإنسان على مرّ العصور فهمه للتّناظر  في كتابه التّناظر أن ذلك «من أجل خلق التّرتيب والجمال والكمال» [2]. يقول ليون ليديرمان أحد الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء (سنة 1988) في مقدمة كتابه «التّناظر والكون الجميل» «يمكن القول إنّ كلّ قوانين الفيزياء الأساسيّة وإنّ غالبيّة الحقائق الأساسيّة التي يمكننا التّصريح بها عن الطّبيعة تعتمد بشكل ما على إعتبارات تناظريّة» [3]. وقد برهنت على ذلك قبله بسبعين سنة الألمانية إيمي نوثرEmmy Noether  في نظريتها العبقرية عام 1918 التي تربط بين القوانين الأساسيّة في الطبيعة وبين التّناظر، ونصّها كالتّالي «لكلّ تناظر مستمرّ في الطّبيعة، لا بدّ من وجود كمّية محفوظة من التّغير أي غير قابلة للتّغييرinvariant . ومن أجل أيّ كميّة محفوظة، لا بدّ من وجود تناظر مستمر» [4]. فقوانين حفظ الطّاقة وكمّية الحركة الخطّية والزّاوية تُعرَّف أساسا بواسطة مبادئ تناظريّة نتيجة لتناظرات الزّمان والمكان والدّوران. لكن ليس التّناظر هو التصور المطلق للجمال، فقد يكون في كسره جمال من نوع آخر، فالشّامة تكسّر التّناظر في وجه المرأة وهي تعتبر هي إحدى علامات الجمال لدى النّساء على أن يكون موقعها في منطقة مميزة من الوجه وأن تكون واضحة وداكنة اللّون وبحجم لطيف. وبالرّغم من ضآلة كسر التّناظر في النّموذج المعياري للفيزياء إلاّ أنّ ذلك يفتح له بابا في تفسير فائض المادّة في الكون الذي يأتي من تباينات أساسيّة في سلوك المادّة والمادّة المضادّة. وهذه الاختلافات تعتبر كسرا لتناظر يسمّى انقلاب الشّحنة ـ السوية، أو  CP اختصارا لكلمتي Charge Parity تتحوّل المادّة في تحويل المرآة إلى المادّة المضادة تماما مثل تحوّل اليد اليمنى إلى يسرى واليسري إلى يمنى في المرآة ، لكنّي أظنّ أنّ التّناظر يبقي مهيمنا كمحدّد للجمال ويظلّ كسر التّناظر هذا مشكلة رياضيّة أكثر من كونها مشكلة طبيعيّة وربّما يكون ملاحظة كسر التّناظر هذا ملهما للبحث عن تناظرات جديدة تكسو البناء الرّياضي للطّبيعة جمالا أكثر وأكثر. فمثلا مشكلة كسر التّناظر المرآتي هذا يمكن بحثه من زاوية أخرى، وهي ماذا لو وضع الشّخص المرآة المستوية هذه تحت قدميه، في هذه الحالة ستظلّ اليد اليمنى يمنى في الصّورة واليد اليسرى يسرى (أي سيظل ذلك الوضع لا متغيّرا) ولكن سيتمّ تبديل الأعلى والأسفل، هذا بخلاف إذا ما وضع الشّخص المرآة أمام وجهه، سيعكس الأيمن مع الأيسر لكن سيبقى وضع الأعلى والأسفل لا متغيّرا. أي أنّنا بحاجة إلى تعريفات أكثر دقّة تبيّن عمق التّحويل من عالم الأصل إلى عالم الصورة.
الهوامش
[1]ا The Theory of Games and Economic Behavior 
[2]ا Hermann Weyl: “Symmetry”. Princeton University Press. 1952ا 
[3] التّناظر والكون الجميل، تأليف: ليون م.ليديرمان و كريستوفر ت. هيل، ترجمة: نضال شمعون- الدار العربية للترجمة.
[4] اللاّتناظر بين المادّة والمادّة المضادّة، مجلة العلوم الأمريكيّة، ترجمة مؤسّسة الكويت للتقدّم العلمي، عدد اكتوبر 2000 المجلد 16.