في الصميم

بقلم
لسعد الماجري
من أجل قراءة براجماتية جديدة لتراثنا الزاخر
 اٍنّ تراثنا الفكري والدّيني زاخر بالأحداث والتّناقضات الكبيرة التي استمرّ تأثيرها ولا يزال على الإنسان العربي المعاصر وعلى كافّة المسلمين بصورة عامّة. ذلك التّراث لا يمكن حصره في النّص القرآني الذي هو موجود بين دفتي كتاب ولكنّه يتعدّاه إلى الحديث النّبوي الشّريف وأيضا للحديث القدسي الذي هو كذلك كلمات الله معنى وألفاظ الرّسول الكريم مبنى. ثمّ من بعد ذلك يمتدّ التّراث إلى كلّ ما أحاط بذلك النّص الدّيني (أي القرآن والحديث الشّريف) من تفاسير وشروح أخرى وأفكار وعلم كلام ومواقف فلسفيّة أيضا اتّخذت من ذلك النّص الدّيني الأول في الدّرجة محورا لها تدور حوله من أجل فهمه وتأويله «التّأويل الصّحيح». ثم اٍنّ هذه التّفاسير والشّروح تشكّلت فيما بعد ضمن مواقف فكريّة وحتّى مذهبيّة فبرزت ملل ونحل كثيرة ومذاهب فكريّة شتّى. وقد أدّى هذا التأويل ومحاولات التفسير أيضا إلى ظهور حركات سياسية واجتماعية، فلا يمكن فهم المواقف والأفكار خارج أطر الواقع التّاريخي الذي ظهرت فيه أي لا يمكن فهم النّص الدّيني خارج التّاريخ. 
اٍنّ كلّ فريق في التّراث تشكّل ضمن سياق تاريخي معيّن واتخذ له موقفا محدّدا فكريّا من الكثير من القضايا والمسائل التي طرحت آنذاك ضمن نسق متكامل من الإشكاليّات الفكريّة والفلسفيّة والدّينية التي تبحث عن مركز الإنسان في منظومة النّص الدّيني أو الوحي (جبر / اختيار)- (عقل / نقل)- (ظاهر / باطن) – (محكم / متشابه) – (القرآن محدث أم أزلي) – (ثنائية الله / العالم) – (قدم العالم / حدوثه) – (ناسخ . منسوخ) – (متن / سند) - (جرح / تعديل) – (إبليس / الملائكة)...الخ
اٍنّ تشكّل الوعي العربي والإسلامي المعاصر لا يمكن فهمه والإحاطة به دون الغوص في أعماق تراثنا الفكري الدّيني والاجتماعي والسّياسي من أجل تحديد عناصر التّأثير والتّأثّر الكامنة كمخزون نفسي لدى الجماهير العريضة والمتواصلة في الفعل الدّاخلي، تقبع وراء ردود أفعالنا وتفسّر طرق تفكيرنا وسلوكياتنا المزدوجة في كثير من الأحيان. 
 فذلك التّراث لا يمكن محوه بجرّة قلم والقفز فوقه بتعلّة البحث عن الحداثة، فالتّراث لا يتناقض مع الحداثة كما أنّ الحداثة لا تعني الإلقاء بالتّراث في سلّة المهملات. وليس كلّ من ألغى التّراث بالضّرورة قادرا على تحييده في ذاته الملقاة عنوة عنه في غبار الصّحراء العميقة والقديمة. وهو ليس بقادر أصلا على رميه وراء ظهره لأنّ التّراث ليس كمّا بضائعيّا منظّما ومهيكلا موجودا في كتب نكتفي بإحراقها والبدء من جديد، بناء على موقف صبياني متهافت. فالتّراث فيه من العقلاني الكثير وهو أيضا حمّال لفكر أشعري. ففيه منارات للعقل ومكبّلات له – فيه تنوير فكري وتكفير – فيه فلسفة وزندقة – فيه تكريم واستباحة دماء مفكّرين – فيه عمالقة للفكر والفلسفة والدّين وفيه في نفس الوقت أباطرة للاستبداد والغطرسة – فيه فنون وتفنين وفيه تلفيق وتقتيل، فيه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وفيه أشباه رجال ومنافقون متملّقون. فهو يشبه واقعنا إلى حدّ كبير حيث تتواصل مظاهر التّكفير والدّوعشة كما تتواصل ولو بنسق أقلّ محاولات التّنوير والمأسسة. 
 اٍنّ التراث ليس مجرّد أفكار ألقيت في زمن بعيد ضمن حوار شفّاف بين مجموعة من المفكّرين الباحثين عن ترف فكري. اٍنّه في كثير منه تموقع من أجل ضرب مصالح بذاتها وتكريس مصالح فئات أخرى. اٍنّه في كثير من الأحيان دفاع عن سلطان أو خليفة أوعن مصالح اقتصادية وفئويّة معيّنة. فكيف نفهم الفتنة الكبرى بين الإمام علي كرّم الله وجهه وبين شقّ معاوية ابن أبي سفيان إن لم نلمح بوضوح الصّراع على السّلطة بين بني أميّة، الشقّ الذي أسّس ملكا عضوضا، وبين آل بيت النّبي الكريم، وذلك الصّراع والكره قد ابتدأ قديما وبعيدا في تاريخ الجزيرة العربيّة ومكّة والمدينة تحديدا بين بني هاشم (آل النبي الكريم) وبني أمية حول الكعبة وحول المصالح والنّفوذ الذي تأسّس منذ ذلك الوقت باقتسام الأنشطة والتّحضيرات للحركة التّجارية التي كانت الكّعبة الشّريفة أحد أبرز محاورها الأساسيّة. ألم يقل أبو سفيان والله قبلنا أن تكون السّقاية و..و... في بني عبد المطلب (جد النّبي) أمّا أن يأتي نبيّ منهم أيضا وتستبدل آلهتنا فذلك والله لن يكون....
 لا يمكن وصم هذا التّفسير وهذا التّوجّه بالفهم الاقتصادي، إنّما هو أداة من مجمل الأدوات الاجتماعيّة والواقعيّة المتاحة في التّحليل التي لا تبقى مرتهنة لفهم ذاتي ممعن في القفز بالأفكار عن الواقع وإنّما محاولة للتّفسير الموضوعي الذي يرى الأفكار وهي تُصاغ ضمن أنساق اجتماعيّة وضمن وقائع تاريخيّة تبرّرها أو تؤوّلها تأويلا واقعيّا وتاريخيّا. 
نجد في تاريخنا الكثير من الفرق التي تشكّلت حول تأويل النّص الدّيني من أهمّها:
- «المعتزلة» أو من سمّوا أنفسهم بأهل العدل والتّوحيد الذين ركّزوا في الفهم على أولوية العقل عن النّص. فالوحي نفسه أو ما سمّي بالشّرع اتّجه أساسا لمخاطبة عقل الإنسان أو من أسموهم «أولي الألباب». فالنّص القرآني تخصيصا فيه الكثير من الآيات التي تحثّ على إعمال العقل وأنّه ركيزة أساسيّة في الفهم وبدونه لا يستقيم أيّ عمل: «فتفكّر ساعة خير من عبادة سنة». اٍنّ الكثير من آيات القرآن الكريم تحثّ المؤمن على استخدام عقله لفهم ما أراد الله سبحانه اٍيصاله : «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»- «أفلا يتفكّرون» – «أفلا يعقلون».... لقد ساد فكر المعتزلة ومنهجهم العقلاني فترات وجيزة من التّاريخ الإسلامي خلال الحكم العبّاسي أيّام الخليفة الأمين ثم المأمون ثم المتوكّل...ولكنّ هؤلاء المعتزلة سرعان ما وقع الزّج بأكثرهم في السّجون إبّان محنة ما سمّي بخلق القرآن. إنّ الطّريقة التي وقع التّعامل بها مع من يختلف مع السّلطة السّياسية وسلطة أهل الرّسوم من فقهاء وعلماء دين هي طريقة لا تعترف بالاٍختلاف الفكري وتريد أن تستحوذ على سلطة تأويل النّص الدّيني بدعوى الدّفاع عن الدّين. في حين أنّ القضيّة هي قضية فكر ديني وفهم ديني وليست مسألة دين فالدّين موجود والنّاس تدين به ولكنّه صراع تموقع في السّلطة من أجل تحقيق مصالح.
- و«الأشاعرة» الذين دافعوا عن نقاوة الدّين وصفائه من أيّ فكر يشوّش على العقيدة أو الشّريعة. فكانت عقيدة الأشاعرة محاولة لتأسيس حدود معيّنة على حرية الفكر والتفكير وتبيان عجز العقل عن المضي قدما في الفهم والتّأويل لأنّ العقل يؤدّي إلى الضّلال. وهنا وقع الخلط بين العقل الاٍستدلالي المنطقي والعقل الخاضع لهوى صاحبه. فالعقل الاستدلالي عقل علمي يكتسب شرعيته من حيث منهجه الحريص على الوصول إلى الحقائق حتى واٍن غابت عليه في مرحلة من مراحل الاٍستنتاج بعض الأدوات فاٍنّه سرعان ما يعيد المحاولة ضمن نقد معرفي موضوعي. أمّا العقل الخاضع للهوى فاٍنّه مشحون مسبّقا بالنتائج التي يريد إثباتها فتتناقض مع المبادئ العلمية.
 - و«الجبريّة» وهي فرقة تمحورت حول موضوع آخر مرتبط بالحّرية الإنسانيّة وهو موضوع «التّسيير والتخيير» وربضت هذه الفرقة في موقف الدفاع عن كون الإنسان مجبرا ولا يختار أفعاله فالله القدير والمحيط هو من يقف وراء تلكم الأفعال والإنسان لا حول له ولا قوّة فالله هو الخالق الحقيقي لأي فعل أو حركة وعلى الإنسان التوكل على الخالق.
يمكننا أن نستخلص إذن من مسألة التّراث النّقاط التالية فنضعها في سياقها الذي يليق بها وهو:
1) أنّ التّراث متنوّعٌ فهو ليس ذا بعد واحد وإنّما تتداخل فيه مجموعة من الأبعاد الذّاتية والموضوعيّة. ففيه دين وفكر وفلسفة وعلوم وفنون ومعارف شتّى..
2) أنّ التراث لا يعبّر عن فكر معزول عن واقع النّاس وإنّما أفكار ومواقف تتخفّى وراء مذاهب ولها مصالح وغايات.
3) أنّ التّراث اتّخذ نوعا من القداسة استجلبها من قداسة النّص الدّيني لا غير، أي من القرآن والحديث النبوي. فلولا هذان المصدران ما كان لتراثنا هذه القداسة التي حالت بين المجتهدين والمصلحين وبين تناول التّراث بالبحث والتّمحيص والتّدقيق فيه بالنّقد. لأنّ تلك التّوجّهات تفهم على أنّها مناقضة للدّين وأنّها تنتقد المقدّس.
4) أنّ هذا التّراث تتداخل عناصره بشكل لافت للنّظر ومن ثمّ يصعب تفكيك هذه العناصر وعزلها عن بعضها البعض من أجل فهم علاقة التّأثير والتّأثّر بين النّص الثابت والواقع المتغيّر.
5) أنّ هناك أطرافا عديدة من داخل الحضارة الإسلاميّة النّاشئة حاولت ملكية النّص والتحدّث باسمه لكسب شرعيّة أبديّة. ومن هنا نفهم كيف تتواصل إلى يومنا هذه الشّرعيّة الوهميّة غير المبنيّة على العقل والمنطق وعلى الحقّ، بينما تتّخذ فهما معيّنا وتأويلا معيّنا للنّص على أنّه الأساس الّذي لا بديل عنه وأنّه الفهم الذي لا فهم غيره وهو في الحقيقة لا يتعدّى ظاهر النّص دون الإبحار بعمق نحو الباطن ودون أيّ إعمال للعقل بل وقوف عند فهم أهل الشّريعة وأهل الرّسوم.
 ومن هنا نفهم المآلات الفاشلة مسبّقا التي آل إليها أكثر المفكّرين والمجدّدين والمصلحين وهي مآلات حزينة وصلت إلى حدّ القتل أو السّجن أو التكفير أو الاٍتّهام بالزندقة.
 ومن يتّهم غيره بالتّكفير يفترض فيه أنّه يملك الحقيقة المطلقة وأنّه الوصيّ الأول والأخير على الفهم والتّأويل الحقيقي. لا يخفى عنّا اليوم بعد أكثر من 14 قرنا بعد هجرة رسولنا الكريم، ذلك الإنسان الحقيقي الذي أرسى دعائم في طريق الحرّية الإنسانيّة وبنى أسسا للعدالة الاجتماعيّة وحاول إتمام مكارم الأخلاق العربيّة والإنسانيّة عموما، أنّ تلك المحاولة سرعان ما وقع الاٍنقلاب عليها من داخلها من أطراف لم تدخل الإسلام «دينا» وإنما دخلته «دنيا» أي لم تدخله عمقا وفكرا وأدبا وتقوى وإنّما دخلته توسّعا جغرافيّا واقتصاديّا. 
 لا بدّ لنا اليوم ولصنّاع الحضارة والعلماء والمثقفين المفكرين المسلمين من الانكباب بكلّ جدّ لانطلاق مشروع جديد لاٍعادة صياغة تراثنا الفكري والدّيني من أجل اٍعادة ترتيب البيت.