تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
تحدي ... (2) شرعية الانقلاب
 غادر حسن ولم يغادر طيفه قاعة الاجتماع بل التصق بالجدار معلقا إلى جانب الصور التغادر حسن ولم يغادر طيفه قاعة الاجتماع بل التصق بالجدار معلقا إلى جانب الصور التذكارية لمديري المؤسسة السابقين الذين أفنوا وقتهم في التأشير على الملفات وإمضاء الوثائق والاستماع إلى هذا وذاك وانتقاء ما توفر من أخبار تفيدهم في أخذ القرار الذي يؤمن استقرارهم. وما نعيشه من أوضاع متردية تنوء مؤشراتها بالألوان الحمراء لَيشهدُ على انشغال هؤلاء عن خطر الطامعين المترصدين من داخل ومن خارج المشغل. وبان بيسر يسير مدى فداحة أخطاءهم وكم ساهم سهوهم بالتراكم في تدهور الأحوال التي بلغت توقف العمل بالمشغل فكانوا أول من تزعزع أمنهم واهتز استقرارهم فتدحرجت قمم أسفل السفح وتشبثت أخرى بين الخوف والرجاء. وظَلّ طيف حسن الذي اعتلى نجما ساطعا سدة الأفق، بعيدا عن دنس الجيرة التي اصطفت إلى جانبه. حسن لا تتحسس وجوده اليوم بقاعة الاجتماع فقط، إنه يعترضك في كل مكان وفي كل زاوية. إنه ظِلّ الجميع أصبح منذ ذلك اليوم يرافقهم في كل حركاتهم. إنه ضميرهم المستتر، تقديره كل من حضر الاجتماع واستمع إلى حديث «حسن».
اختلف الرواة حول ما نقل عن حادثة الاجتماع. ولا أحد استطاع تحديد كيف خرج «حسن» من بين الحاضرين حتى استهجن الكثير قول أحدهم «وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون.» ولم تسعفه خاتمة القول «صدق الله العظيم».... وظلّ السّؤال يتردّد بينهم: أين الرّجل الذي استقال شفويّا ولم يعد لتسوية وضعيته الإداريّة؟ لا يهم، لقد تمّت الإجراءات المتعلّقة بإحالته على التّقاعد لبلوغ السّن القانونيّة وكأنّه مازال بينهم، بل أجزى له صاحب المشغل وأغدق عليه بالعطايا ومتّعه بمنحة آخر الخدمة كما لم يسبق لأحد وأغلق ملف «حسن» دون أن يُنسى «حسن».
أفادت ما شاع من أخبار أن «سي يوسف» لم يغادر القاعة يومها وقضى ليلته مغشيّا عليه من هول الصّدمة. وكما لم يتفطّن أحد بخروج «حسن» من القاعة، لم يتفطن أحد ببقاء الرّجل داخلها إلاّ في صبيحة اليوم التّالي حيث وجدوه مطروحا أرضا وقد أخذ منه الإعياء مأخذا جللا سلب منه كلّ قدرة. «سي يوسف» رجل فطن يقدّر الأشياء حقّ قدرها ولم ينظر إلى «حسن» يوما نظرة احتقار ولكنّه لم يتوقّع منه البتّة ما صدر عنه. «حسن» فاجأه ووضع إصبعه في موضع الدّاء.
راج أنّ إحدى العاملات عثرت عليه حين اختلت بالقاعة لقضاء صلاة الصّبح التي فوّتتها لضيق الوقت خوف أن تفوتها حافلة السّادسة والرّبع. ليل الشّتاء طويل تآمر مع الصّبح فتأخّر ليقضم طرفا من النّهار ومع الغروب حثّه فأسرع وتقدّم ليقضم الطّرف الآخر. وجدته مقرفصا ومرتعدا من شدّة برد يبدو أنّه تحمّله طول اللّيل فهزمه وامتصّ منه كلّ عزم وتركه في غيبوبة، عيناه حمراوان كالجمر تحملقان دون وعي وعلى خدّيه الشّاحبين آثار أرق حادّ. هزّته بلطف «سي يوسف ، سي يوسف ...» ثم هزّته مرّة أخرى وأخرى وبعنف هذه المرّة وبعنف أشدّ في المرّة الأخيرة لمّا تململ وأفاق ومسك بخيط رهيف من الإدراك، فانسحب متثاقلا يتمايل إلى أن وصل إلى دورة المياه حيث اغتسل واسترجع تدريجيّا عافيته ووثوقه بنفسه. ونقلت أخبار أخرى أنّه توجّه مباشرة إلى المشرب وطلب قهوة ودعا حوله أعضاء الهيئة فلم ينقل لهم شيئا كيف قضى ليلته. المهم أنّه طمأن زوجته ربّما بإدّعائه أنّه في مهمّة خارج المدينة، فهو عوّدها على التّغيب ليلا لحضور ملتقيات كثيرا ما تطول.
«سبحان مغيّر الأحوال» في يوم وليلة تزحزحت عجلة المشغل ودارت وسرعان ما بلغت نسق الإنتاج الذي كانت عليه قبل التّوقف بل أكثر من ذلك. لا يهمّ ماذا تغيّر طالما العمّال هم أنفسهم يديرون دفّة المكنات ولم يطرد منهم أحد وصاحب المشغل لم ييأس وواصل تشبّثه برأس ماله تشبّث الجندي بالأرض والرّاية.
يحكى أن «سي يوسف» اتجه إلى المقهى وبعد أن تناول قهوة ساعدته على الانتعاش لم يجد حوله أحدا واكتشف أن الجميع ومنذ الصّباح الباكر التحقوا بمواقع عملهم دون إذن من أحد ولا تشاور. تصرّف كلّ فرد بملء إرادته فقادته عفويّته إلى مباشرة عمله. «سي يوسف» لم يفهم ولكن عليه مسايرة الوضع والتّأقلم معه للمحافظة على مستوى المسؤولية التي حمّله إياها زملائه العملة عند انتخابه على رأس نقابه المشغل. فلم يتوان يوما عن الدّفاع عن فرد منهم ولم يدّخر جهدا ولا خبرة في كلّ مناسبة. ولكن الوضع اليوم مختلف وأدرك أن الموج أعلى وأعتى ممّا استعد له ووجب عليه مواجهته بهوله حتى لا يفقد مركبته.
رجوع العملة جميعهم إلى سالف نشاطهم كان أحرى أن يكون فرصة للاحتفال بانتصار جديد. لكن غبطته اليوم يشوبها سواد عكّر صفوه. لم يكن «سي يوسف» طرفا في حلّ الأزمة وفي استقرار الوضع كما لم يتم استشارته قبل أخذ هذا القرار. إنّه خنوع واستسلام سببه «حسن» الآتي من بعيد دون استئذان فتجاوزه وقلب عليه الطّاولة، بل رمى به خارج المركبة وجعله يصارع اليوم أمواجا عالية تدفعه أبعد كلّ يوم عن الرّكب وتغيّب عن عينيه العرش الذي اعتلاه بجهد كبير وتصدّره بعناء أكبر. «لا بورك فيك يا حسن، جعلتني أهوي هوي صورتي التي مازالت لم تعلق بعدُ بمكتب النّقابة إلى جانب صور الأمناء العامّين السّابقين.» إنّه هاجس يدفع المرء إلى الانشغال بترميم ما هدم وتقوية ما تصدّع في مثل هذه الظّروف الصّعبة. وهاجس «سي يوسف» أعمق جعله في انشغال حادّ برسم خطّة تنقذ ما تبقّى من ماء وجهه. أعمل الرّجل حساباته وضبطها وقدر ما عساه يخسر وما مقدار الاستفادة من كلّ السيناريوهات المحتملة التي درسها جيّدا. المعادلات صعبة ولكن «سي يوسف» عالج مسائل أصعب فلم يتسرّع بل راح في زيارة الأعوان في مواقعهم يشدّ أزرهم ويستطلع عيونهم  فيستنطقها ويفكّ أسرارها لعلّه يظفر بمعرفة ما مدى مثقال الثّقة المتبقية وهل هي بالمقدار الذي يؤمّن له الكرامة.
عرج «سي يوسف» في جولته على السيد «لطفي» مهندس إطار منذ أكثر من ربع قرن، يدرك جيدا دواليب الإنتاج والكلّ يشهد له بالخبرة والانضباط، فالتفّ حوله العمّال كبيرهم وصغيرهم يسترشدون منه في الكبيرة والصّغيرة. و«سي يوسف» كذلك التحق به ليجامله بمكتبه هذه المرّة وجلس إليه يحادثه عن ما فات وما هو آت. عرف المهندس بالصّدق وعدم المراوغة فلم يتعب «سي يوسف» في الحصول على ما كان يبحث عنه. بل لعلّ المهندس فهم مقصده فيسّر عليه الأمر، فلم يخفِ عنه خوفه على المشغل الذي «يؤمن الرّزق للجميع» على لسانه، وكم كان موقف العم «حسن» مؤثّرا فاستحسن عودة الجميع إلى عملهم واعتبرها تصرّفا حكيما. ولم ينس في الأخير إبلاغ زائره أنّ الهيئة النقابية بالغت في تشدّد مواقفها واتّهمها بدفع المفاوضات مع إدارة المشغل إلى نفق مسدود. ولمّا كان «سي يوسف» ينصت بكلّ انتباه،نصحه المهندس في آخر كلامه بالحذر من بعض أعضاده من ابتزازهم لإدارة المشغل.
خرج «سي يوسف» من مكتب السيد «لطفي» منشغلا بما سمعه منه. إنّه ليس  بالجديد ولكنّه يستدعي التّوقف عنده والتّفكر فيه. المهندس «لطفي» الذي يلامس التّقاعد الوجوبي على حقّ. لقد بقي يجري في مستقرّ بين الكعبتين كعبة الإدارة وكعبة النّقابة فلم يلج لا هذه ولا تلك، وقد بقي يطوف إلكترونا حرّا بين تيارين شديدي التّصادم فلم يظفر  في الأخير إلاّ بعزّته وكرامته ولم ينل إلاّ الاحترام يمينا ويسارا. 
لم يفهم «سي يوسف» بعدُ ما حصل حتّى يجد نفسه خارج الحلبة. ماذا حاك له صاحب المشغل من مكائد ليتركه على التماس؟ ومن ساعده على ذلك؟ إنّها حقّا مصيدة نصبت له ضحيتها هؤلاء العمال الذين لم يشارك أحد منهم في قرار الرّجوع إلى العمل. من الذي قرّر وأنا غائب؟ أنا صاحب القرار بما أنّهم فوّضوني لذلك. إنّه الانقلاب، إنّه انقلاب على الشّرعية. إنّه اعتداء سافر على الديمقراطية، سيعود بنا إلى ما قبل الثورة. 
ماذا حدث لي تلك اللّيلة التي بتّها في غيبوبة؟ وماذا دسّوا لي حتّى غيّبوني؟ إنّه لانقلاب ولابدّ من كشف ملابساته ومن وراءه. ترى منْ مِن الخارج يدير خيوطه؟ ومن هو «حسن» هذا الذي لم ينطق يوما بكلمة؟ لقد أتقن دوره مندسّا بيننا كلّ هذه الفترة. 
تذكر «سي يوسف» تلك المرأة التي عثرت عليه ذلك الّصباح، فراح يبحث عنها في ظلمة هذه اللّيلة ..