في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
الموت نهاية البداية وبداية اللانهاية
 الموت ذلك الكائن الحي 
يقول الله تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ»[1]، خلق الإنسان للخلود، لكن ليس في الدنيا خلود، فلابدّ من الخروج منها أوّلا ثمّ العودة من غربتنا فيها إلى الدّيار التي خلقنا فيها، ولا أدلّ على ذلك من الناحية العقليّة الصّرفة من الخوف الفطري المبثوث في كلّ النفوس من الموت والذي يبلغ أحيانا حدّ الذّعر، فلو لم يكن بعد الموت شئ إلاّ الفناء، لما كان للخوف منه أيّ مبرر، ولما ملئ كلّ النّفوس ولما أصبح هو القاعدة، حتّى إنّ الخوف من الموت نفسه هو في حدّ ذاته باعث على حبّ الخلود الزّائل في الدّنيا وعلى إثبات الخلود الحقّ في الآخرة. وثبات البعض عند الموت ورباطة جأشهم هو ثبات يظهر لنا قبل حلول مقدّمات الموت الحقيقة، وإلاّ فدخول نفق الغيب المطلق يحول بينه وبين أولئك الذين يعيشون في عالم الشّهادة. بل ويدلّ على أنّ ما وراء هذا الثّبات هو استقرار فكرة الخلود في نفسه، وأغلب الظّن أنّ الخوف من الموت هو خوف من معرفة الحال المجهول في عالم اللاّنهاية. ولا أدلّ على ذلك أيضا من النّاحية النّقلية من قصّة نبي الله موسى عليه السلام حين عرض عليه ملك الموت أن يضع يده على متن ثور فله بكل شعرة «مستها يده» سنة؟ أي يعيش سنين عددا بعدد الشعر التي تقع تحت يده، كان جواب موسى عليه السلام: ثم ماذا؟ فأجابه الملك: ثم الموت، فأجاب نبي الله موسى على الفور بجواب المؤمن بالخلود بعد الموت: فالآن [2]. 
يثبت الموت لنا كل يوم هشاشة الحياة المبنيّة على الطّغيان وصلابة أختها المؤسّسة على الحقّ والعدل. ولمّا كان النّاسُ يرون الموت كائنا حيّا أمام أعينهم، فالأموات كلَّ يومٍ يحملون على الأعناق إلى مراقدهم بانتظار القيامة الكبرى يرون ذلك رأي العَيْن، بل يباشرونه بأنفسهم، فلا مجال للتكذيب أو الشّك أو الإنكار. لكنّه أصبح مع أحوالنا يقينا أشبه بالشّك كما عبّر عنه «عمر بن عبد العزيز» رحمه الله: «لم أر يقينا أشبه بالشّك كيقين النّاس بالموت»، ثم علّل ذلك بأنّهم «موقنون أنّه حقّ ولكن لايعملون له». والإنسانُ قد تنهار عقيدته فَيَجْحد وجودَ الله تعالى، ولكنْ لا يمكنه أن يَجحد وجودَ الموت، حيث يتيقّن الإنسان من استحالة دفع الموت، وكأنّ الموت هو بذرة اليقين الذي بذره الله في النّفوس لتتمكّن من معرفة الحقّ حتّى في أزمنة الفترات وأشباهها، لكنّ النّاس عوضا عن ذلك يحاولون دفن أفكارهم عن الموت دفعا لفكرة أنّ السّعادة الأبديّة حفّت بالمكاره في الدّنيا، والنّاس بطبيعة الحال يحبّون الشّهوات أكثر من حبّهم للمكاره، لذلك يلجؤون لدفن أفكارهم عن الموت خلافا للتّعاليم النبوية، وذلك قد لا يقلّ شأناً عن اهتمامهم بدفن موتاهم كما يقول «بوسويه»، فخوف النّاس من الموت هو الذي حدا بهم إلى تجاهل التّفكير بالموت أو العمل على تناسيه. على خلاف الرواقيين الذين كانوا يردّدون «عمرنا قصير، والمدى الممنوح لنا يتبدّد بسرعة خاطفة» وهذا أمر لا مبرّر له وعلينا تجنّب الخوف من الموت من خلال تفكيرنا فيه دوماً، متناغمين مع «أبكتيتوس» «ليس بمقدوري الهرب من الموت إلاّ أن ألوذ بالهرب من خشيته». وقد رُوي عن النّبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال أكثروا ذكر هازم اللذّات ومفرق الجماعات «الموت».
الموتُ والحرية
 الموتُ هو أحد أحجار الزّاوية في البناء البشري، لذلك فهو أحد أهم الأدوات الرّهيبة التي لو فكّر الإنسان فيها جيّدا لما أمكنه إلاّ أن يعيش حرّا، وإن كان «اسبينوزا» قد قال إنّ الإنسان الحرّ لا يفكّر في الموت إلاّ أقلّ القليل لأنّ حكمته في تأمّل الحياة لا الموت[3] ، لكنّ الرّد عليه هو كي يعيش الإنسان حرّا لا بدّ من التأمّل في الحياة والموت وما بعد الموت وكلّ بالقدر الذي يصلحه للخلود السّعيد. وإذا كنّا متأكّدين أنّه لن يموت أحد نيابة عن أحد فلماذا نعيش نيابة عن أحد بمعني لماذا تعيش عبدا لأحد كائنا من كان غير خالقك. لذلك كان الأديب الرّائع «مصطفي صادق الرّافعي» يقول: «الرجل الحرُّ لا يعرف على أي حالةٍ يعيش، إلاّ إذا قررَّ لنفسه على أيَّ حالة يموت». ففي لحظة مخفيّة ومخيفة تكتسي بالجلال، تبلغ كثافة الحزن في فقد الأحبة  فيها حدّا عظيما تمنع رؤية المرئي في عالم الشّهادة وتفتح آفاق التّأمل في عالم الغيب، لحظة افتراق المادّة «الجسد وجغرافيته المتحلّلة» عن الرّوح وتاريخها الثّابت، يرجع كلّ من حيث أتى قبل أن يلتقيا، يرجع الجسد إلى أديم الأرض حيث التّبعثر والفوضى وتصعد الرّوح إلى بارئها حيث المجد. حتّى أنّ الأفلاطونيّين كانوا يرون أنّ الجسد عائق حقيقي أمام «المعرفة الحقّّة والوجود الحقّ» فيبقى الموت دافعاً وملهماً للمعرفة بالتّحرّر من الجسد، لكن هناك قصص حقيقية وقعت بالفعل ولا أحد يستطيع إنكارها تدحض ذلك، حيث عاين أناس كثيرون الحقيقة، سحرة فرعون مثلا، جيوردانو برونو، جلّ أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلّم. لذلك كان الموت هو أحد أهمّ القرارات التي لم يضعها الله عزّ وجلّ بأيدينا، حتى الانتحار ليس قرارا بالموت ولو ترك المنتحر نفسه للقدر لمات قضاء وقدرا في اللّحظة التي مات فيها بسبب سوء صنيعه، وليس للموت تعلّق بالصّحة والفتوّة بل ليس له تعلّق بالمرض، وأبيات الأمام المبجّل الشافعي رحمه الله ما أروعها:
تزود من الدنيا فإنّك لا تــــــدري إذا جنّ الليل هل تعيش الى الفجـر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
ولولا وجود الحياة الأبديّة لما كان لهذه الحياة التي نحياها أيّ معنى خصوصا في وجود قيم مثل التّضحية والبذل والعطاء. بل إنّ من يلامس هذه الحقيقة بيقين كامل يتكلّم كلاما عجيبا عند الموت من قبيل «ليس على أبيك كرب بعد اليوم، غدا ألقى الأحبّة، محمّدا وصحبه». بينما كان الجاهليّون يعيشون الحياة طولا وعرضا وعمقا وزمنا في لهو بمنهج طرفة بن العبد:
فإنْ كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيّتي فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي
وطرفة بن العبد في هذا السّياق يعرف أنّ الموت لا بدّ منه، فلا معنى للبخل، أي أنّ فلسفته عن الموت حرّرته من البخل لكنّها قذفته إلى هاوية الشّهوات والملذّات، وهكذا يعيش كلّ جاهل قاصر النّظر، ففي بعض الأحيان، يؤدّي النُّورُ الباهر إلى العَمى وليس إلى قوّة الإبصار. 
الموت أهون من التجنب المطلق لارتكاب الخطأ (الموت عند فلاسفة اليونان)
بعد أن أصدر القضاة حكمهم على «سقراط» بالموت قال: «لكنّني أشير أيّها السّادة إلى أنّ الصّعوبة ليست جمّة في الهرب من الموت، لكنّ الصّعوبة الحقيقيّة هي في تجنّب ارتكاب الخطأ» وهذا عين ما قاله لامرأة عندما أخذوه للموت، «قالت المرأة: وا أسفاه يقتلونك بغير ذنب. فقال لها: يا جاهلة أتريدين أنّي أُذنب وأُدان وأُقتل كمذنب؟ والموت أيضاً سيغدو كسباً لا نقاش فيه وإنّه لرحلة إلى موضع آخر... فأيّ شيء يمكن أن يكون أعظم من هذا؟» [4] وأبى «سقراط» أن يهرب من الموت، ونصحه  تلميذه «أقريطون» بالهرب لكن سقراط أبى، واختار الموت. لذا أضحى الموت بطولة لا خوف منها وكما يقول سقراط «الموت قد يكون خيراً من الحياة». والكثير من الباحثين والنّقاد يعتقدون أنّ «سقراط» في هذه اللّحظة نحا منحى فيثاغورثياً – أورفياً من حيث «أن الجسم هو سجن النّفس وإنّ الموت ليس النّهاية»، ويفصح أكثر عن موقفه في محاورة «أقريطون»: «إنّ الإنسان إذا ما وصل إلى مثل سنّي فإن عليه ألا يجزع من اقتراب الموت». وكما يروي «اكزينوفون»، إن طبيعة الموت هي الحجّة الأخيرة لسقراط «ألم تعلموا جميعاً أنّ الطبيعة حكمت عليَّ بالموت منذ لحظة ميلادي؟» يبقى «سقراط» بهذا الطّريق وهذه النّهاية المثل الأعلى للفلاسفة الرّواقيين بل ونبى الخلود عندهم.
يأتي «أفلاطون» ليعلن أنّ: «الموت هو انعتاق النّفس من الجسم»، وبإصرار «سقراط» على عدم الهرب من الحكم عليه بالموت طور تلميذه «أفلاطون» حججه حول خلود النّفس في المحاورات مع «فيدون» و«فايدروس» وهو بمثابة استكمال كلام «سقراط» نفسه عن «خلود العقل» وأنّ العقل هو ما يميّز الإنسان عن الحيوان، وهو العنصر الإلهي في الإنسان، وهو وحده الذي لا يفنى عند الموت، وبموت «سقراط» انشغل «أفلاطون» بحلّ مشكلة العدالة والحكومة الصّالحة والتّربية وأدّى به إلى كتابة «الجمهوريّة» و«القوانين».
استثمار الموت في الحياة
هل يقضي الإحساس بالموت على الأمل والطّموح، وهل من الممكن استثمار الموت في الحياة؟ لا تجدي الإجابة بنعم أو لا، وإنّما تحليل السّلوك البشري المتجذّر في ثقافاته المختلفة حيال شعور الإنسان بدنوّ الأجل وقرب الرّحيل عن الدّنيا. 
في ديننا الحنيف حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»[5].أنظر كيف يستنبت ديننا فينا ثقافة العمل لا لأنفسنا فحسب بل لغيرنا أيضا، ففي اللحظة التي تفارق فيها الدنيا يأمرك باستكمال العمل التي ربما بلغت درجة من اليقين أنك مفارقه وأنك لن تستفيد منه في هذه الدنيا، وفيه معنى آخر في قوله «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ» وهو مسابقة المرء للموت نحو الحياة .وروى البخاري في «الأدب المفرد» عن داود بن أبى داود قال: « قال لي عبد الله بن سلام: إن سمعت بالدّجال قد خرج وأنت على وَدِيَّة تغرسها، فلا تعجل أن تصلحها؛ فإنّ للنّاس بعد ذلك عيشا»، وفي هذا دليل أعمق، فليس مجرّد العمل هو المطلوب بل الاتقان أيضا.
وعند فلاسفة عصر التّنوير كان «باسكال» يقول: «ليس هناك خير في الحياة إلاّ الأمل في حياة أخرى، ولا يكون المرء سعيداً إلاّ بقدر اقترابه من هذا الأمل، وكما أنّه لن تقع ضروب من سوء الحظّ لأولئك الذين يمتلكون ناصية اليقين القوى في الأبديّة، فكذلك ليست هناك سعادة لأولئك الذين لا يميلون لذلك» وكان يقول أيضا: «كل ما أعرفه هو أنّه لا بدَّ لي أن أموت عمّا قريب، ولكنّي لا أجهل شيئاً قدر ما أجهل هذا الموت الذي ليس لي عليه يدان» وكان «ايمانويل كانط» يقول «ليس الموت إلاّ القناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً وأقوى مغزى وأنّ ما يسمّيه القانون بالموت هو المظهر المرئي لحياتي وهذه الحياة هي الحياة الأخلاقيّة، وما يسمّى بالموت لايمكن أن يقطع عملي لأنّ عملي ينبغي أن ينجز لأنّني يتعيّن عليّ أن أقوم بمهمّتي فليس هناك حدّ لحياتي، إنّني خالد» وكان «هيجل» يقول عن تصوّره لإلهه «إنّ الموت هو الحبّ ذاته، ففي الموت يتكشّف الحبّ المطلق، إنّه وحدة ما هو إلهي مع ما هو إنساني، وأنّ الله متوحّد مع ذاته في الإنسان في المتناهي، عبر الموت صالح الله العالم ويصالح ذاته للأبد مع ذاته»  ويقول «شوبنهاور»: «إنّ المعاناة هي بجلاء المصير الحقيقي للانسان كما يقول، إنّه يتعين النّظر الى الموت باعتباره الهدف الحقيقي للحياة» وكان «يوربيدس» يقول: «من ذا الذي يعرف إن كان ما نسميه الموت ليس حياة وأنّ الحياة ليست موتاً»، وكان «هيجل» يقول: «الإنسان هو المرض القاتل للطبيعة» ويرتبطا الموت أيضاً «بالخلق من العدم» لأنّ الوجود الذي خلق من العدم يحوي بذور العدم في داخله من هنا كما صرح «هيدجر»: «ما أن يولد الإنسان حتى يكون في شيخوخة الموت».
الموت والأساطير
الأسطورة في اللّغة تعني الكلام المسطور، ففي القاموس المحيط، سطَّر أي ألَّف، وسطر فلان أي أتانا بالأساطير، ويرى «وديع بشور» أنّ الكلمة مقتبسة من اللّغة اليونانية من كلمة HISTORIA وتعني حكاية أو قصّة. ولا يخلو دين من معالجة السّردية الكبرى للموت وما بعده، ولكن بعد اندراس معظم معالم الدّين وتحريفه تتحوّل تعاليمه في هذا الشأن إلى أساطير مخلوطة بالثّقافة السّابقة لهذه الشّعوب. بل إنّ كثيرا من علماء الاجتماع يرون أنّ النسق الأسطوري يفقد بريقه وربّما يصبح ظاهرة لا يمكن تفسيرها وسرعان ما تزول بالكلّية إذا انفصلت الأسطورة عن الدّين الذي نشأت فيه. 
وعادة يلجأ الإنـسان إلى الأساطير اعتمادا على بقايا الدّين المحرّف وعلى ملكاته الوجدانيّة والعقلية واحتياجات المجتمع لقهر قوى خارجيّة متسلّطة على فكره أبرزها الخوف بشكل عام والخوف من الموت بشكل خاصّ، وتعالج الأساطير الخوف من المجهول عمليا ببثّ ثقافة اللّجوء إلى فكرة الخلود السّعيد والاحتماء بالطمأنينة التي تشعها ضرورة البعث بعد الموت ومن ثم تكييف المشاعر الإنسانية مع فزعها. حتي إن ظاهرة تسمية المولود باسم المتوفي وهي ظاهرة عالمية هي بعث للميت متمثل في ذكراه مقاوم لفناء جسده.
من أمثلة الأساطير التي تحكي الخلود بعد الموت وتعاقب من  يخالف هذه الفكرة، أسطورة ناما بين الهوتنتوت وفيها أنّ القمر أرسل القملة يوماً لتعد الإنسان بالخلود، وكانت الرّسالة تقول: «كما أموت وفي مماتي أحيا، كذلك أنت ستموت وفي مماتك تحيا» وصادف الأرنب البرّي القملة في طريقها، ووعد بنقل الرّسالة، غير أنّه نسيها وأبلغ البديل الخاطئ لها «كما أنّي أموت وفي مماتي أفنى ... الخ». فضرب القمر غاضباً الأرنب البرّي على شفته التي ظلّت مشقوقة منذ ذلك الحين». 
وأسطورة أخرى هي ملحمة «جلجامش» البطل الذي قتل الثور «المقدس» بمعونة «إنكيدو»، بعد أن بعثت «عشتار» بذلك الثور لتدمير «أوروك»، تمثّل هذه الملحمة أسطورة البحث عن الخلود «عندما يموت أنكيدو صديق جلجامش يكتشف جلجامش نفسه مكتوب عليه أن يلقى نفس المصير الرّهيب الذي لقيه أنكيدو[6]. كان «جلجامش» في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنّه لابدّ من أن يموت يوما لأنّه بشر والبشر فانون ولا خلود إلاّ للآلهة. بدأ «جلجامش» في رحلته للبحث عن سرّ الخلود والحياة الأبديّة. وفي نهاية الملحمة يدرك «جلجامش» أنّ الموت أمر حتميّ للإنسان، وأنّ الخلود يأتي بعمل الخير، فعاد إلى «أوروك» وبنى سورها الكبير وظلّ يعمل الخير إلى أن مات. 
ومن ذلك أيضا «ميترا» عند الفارسيين الذي يصارع الأرواح الشّريرة وينتصر على الثّور المخيف، وعند المصريّين القدامى «رع» الذي يناضل الأفعى، وعند اليونان ينتصر «زيوس» على الجبابرة والعمالقة والتّنين، وعند الأوربييّن يصارع «سيغورد» التّنين وينقذ العذراء منه، وعند الرّوس يصارع «إيليا مورامتس» الأفعى ويقتلها.
وفي الختام نرى حين يدخل معظم الفلاسفة أنفاق الشّك، ويحار العالم الطبيعي في تفسير اللّحظة، ولن يجد لها تفسيرا في منظومة علمه، وتكاد أفئدة الحكماء تطيش، فليس غير الدّين يطمئن النفس، لا شئ أروع ولا أحكم من كتاب الله عز وجل حين يُتلى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» [7].
الهوامش
[1] سورة الأنبياء - الآية 34 
[2] حديث شريف متفق عليه. 
[3] جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة وتقديم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب، الكويت.
[4] أبو الفرج جمال الدين ابن العبري، الأحاديث المطربة،  دار المشرق، ، بيروت، لبنان، (1930).
[5]حديث شريف: رواه أحمد في المسند برقم (12902)، والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (479)، وغيرهما وصححه الألباني.
[6] هوميروس، الإلياذة: ملحمة إغريقية شعرية تحكي قصة حرب طروادة.
[7] سورة آل عمران - آية 185.