بهدوء

بقلم
أ.د انيس الرزقي
الثقافة و الفن: الحلقة المفقودة
 في أول التسعينات كنت قد نجحت في الباكالوريا، فانتقلت من مدينة الطفولة «باجة» إلى العاصمة «تونس»، وشاء القدر أن يسند لي سكن جامعي في أرقى أحياء العاصمة تونس «Mutuelle Ville» فكان المكان راقيا وجميلا وكانت الأحياء المجاورة «المنازه والمنارات» تتّسم أيضا بالرّقي وبالهدوء، حتّى أنّ المبيت كان نظيفا ولائقا إلى حدّ الفخامة وكان لدينا مطعمنا الخاصّ ملاصقا للمبيت. وكانت الجامعة وبالتّحديد كلّية العلوم لا تبعد على المبيت أكثر من عشرين دقيقة سيرا على الأقدام. في الحقيقة كانت الظّروف ملائمة جدّا للدّراسة والاستمتاع بالمرحلة الجامعيّة. دخلنا كلّية العلوم فاعترضنا زملاؤنا القدامى بالنّصح والتوجيه والإرشاد، حتّى أنّه كان هناك شكل من أشكال التّنافس بين مختلف التّوجهات السّياسية لاستقطاب الطّلبة الجدد. فكان هناك أكثر من حفل ليوم الطلبة الجدد، يوم يحييه تيار «الإسلاميين» ويوم يحييه تيار «اليساريين» وكنّا نستمتع بحضور كلّ الحفلات، فقد كنّا، أي جيل التّسعينات، جيلا غير مؤدلج نسبيّا، لا نكترث للخلفية الأيديولوجية وهذا كان نتيجة لإفراغ المناهج الدّراسية من محتواها الفكري والأيديولوجي.
إتّسم الوضع السّياسي في البلاد حينها بالتّوتر خاصّة بعد الإنتخابات التّشريعيّة لسنة 1989 والتي فاز بها «الإسلاميّون» فوزا مدويّا لولا أنّ النّظام عمد إلى تزويرها ودخل في عمليّة إستئصال لهم عبر الإعتقال والتعذيب والتهجير. وكانت الجامعة مفعمة بالسّياسة، فكنا بين المحاضرة والأخرى لا بدّ من أن نستمع لخطاب سياسي من الدّرجة الأولى من شتّى التّوجّهات وبدأنا نفهم المفردات السّياسية ونعي وضع البلاد المتردّي سياسيّا واجتماعيا، وبدأنا ندرك حجم الغبن والظّلم والمعاناة التي كان يتعرّض لها معارضو النّظام وخاصة الإسلاميين منهم في تلك الفترة. كنا نسمع باعتقالات زملائنا الطّلاب كلّ يوم تقريبا وكان هناك جوّ من الرّعب والخوف يخيّم على الجامعة بصفة عامّة وعلى كلّيتنا بصفة خاصّة. اشتعلت أزمة الخليج الأولى تقريبا في منتصف السّنة الأكاديمية 1990/1991، فكانت الحرب، حيث سلّط التّحالف الغربي بقيادة الولايات المتّحدة حصاره على الشّعب العراقي ومن ثمّة قصفه الغادر الذي دمّر كل البنية التّحتية للعراق وأدّى إلى قتل أكثر من مليون طفل عراقي. اشتعلت الجامعة أيضا تأثّرا بالحرب في العراق وبسرعة استغلّ نظام المخلوع الوضع ليواصل حملة الإعتقالات ضدّ «الإسلامييّن» داخل أسوار الجامعة، فلقد تمّت مداهمة المبيتات الجامعية بما فيها مبيتنا وكنّا كلّ صباح نلتقي لنتناقل أخبار إعتقال زملائنا وفي أحسن الأحوال هروبهم من الجامعة واختفائهم عن الأنظار. مرّت الأيام  بسرعة وبدأت الحياة الجامعيّة تعود كما كانت تقريبا ولكنّي أنا وبعض الأصدقاء لم ننس مرارة  تلك الفترة وكنّا نعيش حالة من الغبن والقهر، فكنّا لا نقدر على الدراسة ولا حتّى على الفرح والإبتهاج وزملاءنا هاربون أو قابعون في السجون! عمدت السّلطة في تلك الفترة إلى تمييع الطّلبة حتّى تبعدهم عن السّياسة بصفة عامّة والانشغال بزملائهم المبعدين عن الجامعة بصفة خاصّة، فكثّفت الحفلات الرّاقصة في المبيتات والكلّيات، بمعدّل حفل راقص مختلط في مبيتنا الجامعي كل أسبوعين! وبالرغم من عدم رفضنا الترفيه عن النفس والإحتفال مع الأصدقاء، إلاّ أنّنا لم نكن نقوى على ذلك. فقد تعمّدت السّلط في ذلك الوقت اختزال الثّقافة في بعدها التّرفيهي لاغير، فلم يكن هناك إلاّ الحفلات الليلية الرّاقصة وفي أحسن الأحوال بعض الأنشطة الرّياضية. ذات يوم كانت هناك مقابلة رياضيّة مهمّة، في الحقيقة لا أذكر تفاصيلها، انتهت المبارات فهمّ الطلاّب المناصرين للفريق المنتصر للخروج في مظاهرة للتّعبير عن فرحهم، أنا شخصيّا لم أكن أحسّ بأيّ فرح بل كان الحزن يملأ قلبي، ولكن تحت تأثير الزملاء وربما أيضا في محاولة منّي للترويح عن النفس بعض الشيء استسلمت للخروج معهم. كنّا نجري في الأحياء المجاورة للمبيت وكان الكلّ يهتف، ولكني لم أستطع أن أهتف معهم ولو بكلمة واحدة، فقد أصابني صمت رهيب، أنا الذي كنت معروف بين أصدقائي بالصّوت المدوّي، وفجأة من دون أن أشعر ومن دون أي قصد بدأت أبكي وأبكي وأبكي وكان أحد الأصدقاء بجانبي يسألني كلّ مرّة «لماذا لا تهتف» من دون أن يلاحظ بكائي ودموعي المنهمرة. في الواقع لم أكن أدري حينها لماذا بكيت بتلك الطّريقة، هل كانت مجرّد حالة اكتآب عابرة من جراء الأوضاع ؟ أو ربما كانت دموع أسف على هذا الشّباب الذي يخرج لينتفض فرحا بانتصار «تافه» لفريق في مقابلة كرة قدم ولا ينتفض حين يعتقل ويعذب أقرانه من أجل آرائهم وأفكارهم! كانت هذه صورة مختصرة عن فترة دراستي بكلية العلوم بتونس بداية التسعينات أحببت أن تكون منطلقا للحديث عن المسألة الثقافية في هذا المقال.
لقد كان المشهد الثقافي التونسي في تلك الفترة في مجمله يتّسم بالتّفاهة والإبتذال. فعلى سبيل المثال كانت المادّة الثّقافية للتّلفزة التّونسية بسيطة جدّا في محتوياتها، تخلو من البرامج الفكريّة وتقتصر فقط على بعض المسلسلات التي كانت ضعيفة من ناحيتي الإخراج والسيناريو، وكان أغلبها يتمحور حول ثنائيّة «البلديّة» مقابل «أهل الرّيف» أو «الجهات السّاحلية» مقابل «الجهات المهمّشة»، ولم يكن هناك أي تسليط ضوء على الحيف الإجتماعي بين الرّيف والمدينة مثلا أو بين الشّمال والجنوب وأسبابه ومسبباته، بل كان المشهد أقرب إلى التّهكم التّافه والمبتذل على اللّهجة الرّيفية أحيانا وعلى ظروف الحياة الصّعبة التي يواجهها أهلنا أحيانا أخرى!  أدى هذا الإبتذال الثقافي إلى جعل جيل كامل من التونسيين يعيش حالة من حالات الإغتراب الثقافي داخل الوطن حتّى أصبحت هناك قطيعة ثقافية حقيقيّة بيننا وبين المؤسّسة الثقافية التونسية. واضطررنا إلى شكل من أشكال الهجرة «الإفتراضيّة»، لنصبح من المستهلكين، إلى درجة الإدمان أحيانا،  للثّقافة الغربيّة بصفة عامّة والفرنسيّة بصفة خاصّة. وهكذا أصبحنا فرنكوفونيين من دون أن نسافر إلى فرنسا، فقد كنا نتكلم الفرنسيّة بلكنة تكاد تضاهي اللّكنة المحليّة الفرنسيّة ونتفاخر بذلك فيما بيننا، وكنّا نلبس مثل الفرنسييّن، ونقرأ ما يقرؤون، ونتابع نفس البرامج التلفزية التي يتابعون! حتّى السياسة، فباعتبار أنّها كانت ممنوعة في تونس في ذلك الوقت، كنّا نهتمّ بالسّياسة الفرنسيّة بجميع تفاصيلها، فكنّا نتابع أخبارالأحزاب السّياسية الفرنسية حتى أنه كانت لدينا إنتماءات «إفتراضية» إلى مختلف الأحزاب الفرنسيّة كلّ حسب ميولاته.
في الواقع بتنا على يقين، بعد مرور أكثر من عشرين عاما على حياتنا الطّلابية، أن ما عشناه من إغتراب وتغريب على المستوى الثّقافي لم يكن مجرّد تجربة شخصيّة بل كان ممنهجا ومخططا له من قبل أطراف من داخل وخارج الوطن وكان يستهدف جيلا بأكمله والمجتمع بأسره. كان هذا في إطار صراع حقيقي بين مشروعين ثقافيين، مشروع ثقافي وطني ينبع من هويتنا العربية الإسلاميّة ومشروع ثقافي غربي إستعماري. ولقد كان المشروع الثقافي الوطني محاصرا منذ الإستعمار مرورا بدولة الإستقلال ولا يزال محاصرا إلى يومنا هذا، مقابل دعم مهمّ وغير محدود، للمشروع الثقافي الغربي من الداخل ومن الخارج. لقد تحدثنا في مقال سابق[1]، عن خطورة «وهم» الهزيمة الثّقافية على مجتمعنا وعلى أمننا القومي، فإننا كلّ ما توهمنا أننا مهزومون ثقافيّا كلّ ما فقدنا قدرتنا على المنافسة وعلى الإبداع وبالتالي على التّعامل بنديّة مع الشّعوب الأخرى مما يؤدّي إلى استكانتنا وخضوعنا ثقافيا وإقتصاديا وعسكريا ...
تغيّر المشهد السياسي التونسي تغيّرا جذريّا بعد الثورة ولكن المشهد الثقافي لم يتغيّر. يبدو أنّ الثورة لم تدخل أسوار وزارة الثّقافة، بالرّغم من أنّها دخلت على الأقل، مكتب الوزير في فترة حكم التّرويكا. فالتّلفزة على سبيل المثال، سواءا كانت الوطنية أو حتى الخاصة، لم تتغير في مجملها، نفس الإبتذال لا يزال يسيطر على مادتها الثقافية. 
نحاول في ما يلي فهم و تفكيك أسباب هذا التقهقر الثّقافي والفنّي. ونتطرق إلى البعد الفنّي للمسألة الثّقافية  بصفة عامّة من زاويتين مختلفتين، زاوية الفعل الإبداعي الموجّه للدّاخل أي من المجتمع إلى المجتمع نفسه، وزاوية الفعل الإبداعي الموجّه للشّعوب الأخرى أي في إطار ما يسمى بالتّبادل الثقافي. 
الفن الموجّه للدّاخل
 من المعلوم أن الفن هو مادّة ترفيهيّة بالأساس ولكنّه علاوة على ذلك يعتبر وسيلة مهمّة وناجعة للرقي بالمواطن ذوقا وإحساسا، وهو من أهمّ الوسائل التّوعويّة والإصلاح لكافة أفراد المجتمع. فالرسائل التوعوية والإصلاحية الموجّهة لكافة شرائح المجتمع تصل بنجاعة أكثر حين تُروّج عبر الأعمال الفنّية مثل المسرحيات والأفلام والمسلسلات، من أن تروّج عبر الكتب أو المقالات. لذا فإنّ المسرحيّين والسينيمائيين والموسيقيين هم الفئة المنوط بعهدتها بلورة وترويج الفكر التوعوي والإصلاحي في المجتمعات المستقرّة ثقافيا. للأسف، في البلدان العربية بصفة عامة وفي تونس بصفة خاصّة، نلاحظ غياب البعد اللإصلاحي والتوعوي تماما  في المنتجات الفنية سواء كانت مسرحا أو سينما إلخ... وربّما أحيانا يحدث العكس تماما، فإن الإنتاج الفني يتحول، سواء بإيعاز أو حتى تطوعا، إلى مادة ترويجية للإبتذال وسوء الذوق أو إلى الهجوم الممنهج والمستفز على رموز الثقافة الوطنية وحتى الهوية الدينية، كلنا نذكر الفيلم المستفز «لا ربي لا سيدي». 
نعتقد أن الصّراع الثقافي، بين المشروعين الوطني والغربي، هو من أهم أسباب التّوتر الذي تعيشه السّاحة الثّقافية ولكنّ الصّراع لا يفسّر كلّ شيء، فهناك أيضا أسباب ذاتية يمكن إعتبارها تقنيّة ثقافيّة. تتمثل في فقدان حلقة مهمّة من حلقات التّواصل بين المتداخلين في العملية الثقافيّة أي غياب التواصل الحقيقي بين فئة المثقفين وفئة الفنّانين. والحال أنّ المثقفين هم الذين يجب عليهم أن يلهموا ويزوّدوا الفنّانين بالمادّة الخامّ الثّقافية الإبداعيّة، المتخمة بالإصلاح والتّوعية، ومن ثمّ يحوّلها الفنّانون إلى مادّة قابلة للهضم والإستهلاك بسهولة من قبل كافة الشّرائح الإجتماعية عبر مسرحياتهم وأفلامهم. يعود هذا القصور في التواصل بين المثقفين والفنانين إلى سببين أساسييّن، يتمثّل الأول في كون فئة الفنانين غالبا ما يطغى عليها السّلوك التّجاري الإنتهازي، فهي لا تحمل مشروعا وطنيّا ولا ترغب في الإنخراط في هذا المشروع  إن وجد! أمّا السّبب الثاني فيخصّ المثقفين أنفسهم، فهم أيضا يعيشون في أبراجهم العاجيّة ولا يلامسون الواقع في كتاباتهم وفي كثير من الأحيان تجدهم أقرب إلى الفلاسفة والمفكرين منهم إلى المثقّفين. تجدر الإشارة إلى أنّ السّاحة الثقافيّة ليست منزّهة فهي أيضا مليئة بالمثقّفين الإنتهازيين والمرتزقة الذين لا يكترثون بالمشروع الثقافي الوطني، هم فقط يعملون «كمثقفين بمقابل»!  
في النهاية يعجز المثقفون في أوطاننا على إستقطاب الفنانين إلى مقاربتهم للواقع وهموم مجتمعنا ويبقى الفن الذي نستهلكه بدون أي محتوى ثقافي وتبقى ثقافتنا بدون فن! 
يمكن تمثيل الدّورة الثّقافية للمجتمع على شكل هرم يعتليه المفكّرون والفلاسفة، وهم قلّة، بكتبهم الفكرية ونظرتهم الإستراتيجية. ثم يأتي من بعدهم المثقّفون فيفكّكون الرّموز الفكريّة والنظرة الإستراتيجية لهؤلاء المفكرين ويجعلونها أكثر واقعيّة. ثمّ يأتي بعد ذلك دور الفنّانين الذين يستلهمون من المثقّف هموم وتطلعات المجتمع فيبلورونها، بما تحتويه من إصلاح وتوعية، في شكل أعمال فنّية قابلة للفهم من قبل كافة شرائح المجتمع. كلّ هذا يجب أن يكون برعاية سياسييّن واعين بأهمّية المسألة الثقافيّة في عمليّة الإصلاح، فيوفرون الإمكانيات المادية والظروف العمليّة لجعل الدّورة الثقافيّة أكثر سلاسة ونجاعة. 
في إطار المقترحات نعتقد أنّه من الجيّد والضروري أن تتمّ الدّعوة، من الجهات الرسميّة أو من الجمعيات المدنيّة إلى مؤتمر وطني دوري «للثقافة والفنّ» يشارك فيه كلّ من المفكرين والمثقفين والفنانين. بالتأكيد سوف يساهم هذا المؤتمر في إزالة التّوتر الثّقافي الذي تعيشه السّاحة الثقافية، ولكن أيضا، سوف ينتهي بورقات وتوجيهات ثقافية إصلاحيّة واضحة، يتم الإستئناس بها في صياغة سياسة وبرنامج الدّولة لدعم الثقافة والفن ما بين مؤتمرين [2].
الفن الموجه للخارج و التبادل الثقافي
 إذا ما نظرنا من زاوية التّواصل مع الشّعوب والمجتمعات الأخرى، نعتقد أنّ مسألة الإبداع الثّقافي أو الفنّ، على أهميتها، لا تعدو أن تكون مجرّد وسيلة دعائيّة ومجال من مجالات التّنافس بين المجتمعات. في هذا الإطار يمكن مقارنة المجتمعات بشركات السّيارات الكبرى فهي تتنافس فيما بينها على حلبات سباق الفورمول 1 «Formule 1» كما المجتمعات تتنافس فيما بينها عبر الفن والإبداع في المهرجانات الدّولية. فالسيارات المشاركة في سباق «Formule 1» ليست السيارات النمطية التي نستعملها و نراها في الطريق فهي قمة الإبداع التكنولوجي وهي بمثابة الإبداع الفنّي بالنسبة للشّعوب. فالسّيارات المتطوّرة تلهمنا كي نشتري السّيارات النّمطيّة العاديّة. نفس الشيء بالنّسبة للأفلام والمسلسلات،  والفن بصفة عامّة، فهو يلهمنا ويبهرنا ويدعونا لإتباع النّمط الثّقافي السّلوكي لمجتمع ما ومن ثمّ قبول وإستهلاك منتجات هذا المجتمع بشتى أنواعها! 
إنّ التنافس بين الأمم والشعوب عبر الفنّ والإبداع مسألة حتميّة، موغلة في القدم، فلا يوجد شعب لم يتأثّر ثقافيّا بالشّعوب الأخرى أو لم يؤثر هو بدوره في ثقافتها. وتتواصل هذه الحركيّة الثّقافية بين الشّعوب إلى اليوم مثلما يتواصل التاريخ وهي عمليّة علاوة على أنّها حتمية فهي محمودة بمعنى أنّها مفيدة لكلّ الأطراف في الحالة الطّبيعية. والمقصود هنا بالحالة الطّبيعية، هو أن يكون هذا التّبادل الثّقافي تلقائي وغير مسقط من طرف غالب على طرف مغلوب وأن يكون هناك نوع من التّوازن في هذا التّبادل، بمعنى أن لا نتلقّى أكثر ممّا نصدّر!  يمكن أن نقارن التّوازن في التّبادل الثقافي بالتّوازن في الميزان التّجاري، فكلّما إختل التّوازن التّجاري كلّ ما أضطرت الدّولة إلى الإقتراض من المؤسّسات المالية الدّولية مع ما يرافق هذا الإقتراض من تنازلات على مستوى السّيادة الوطنية! كذلك في الحالة الثّقافية، ففي حال إختلال ميزان التّبادل الثّقافي سوف يضطرّ الشّعب المدين إلى التّنازل على شيء من العزّة والكرامة الوطنية! ويؤدّي هذا إلى الإختلال في الميزان الثّقافي إلى إختلال في الميزان التّجاري عاجلا أم آجلا! وهنا من المهم التأكيد على أنّ مسؤولية الحفاظ على توازن التّبادل الثّقافي هي مشتركة بين النّخبة والدّولة. فالمفكرون والمثقفون والفنانون هم المطالبون بالدفاع عن ثقافة شعبهم عبر ابداعاتهم والدولة منوط بها توفير الدعم والإطار اللازمين لهؤلاء للقيام بمهتهم على أحسن وجه، عبر مأسَسَة الثقافة [2] .
وفي الختام أودّ أن أنوّه أنّ موضوع الثّقافة والفنّ موضوع شائك ومعقد، ولقد أتينا في مقالنا هذا على بعض جوانبه المتعلّقة بالابداع الثقافي والفنّ قصد إثراء النّقاش، بعد أن تطرقنا في مقالنا السابق إلى المسألة الثقافية من الجانب السلوكي [1] 
الهوامش:
[1]: د. أنيس الرزقي: جدلية الثقافي والحضاري. مجلّة الإصلاح العدد 116. 
[2]: أود اللإشارة إلى أن مسألتي مأسسة الفعل الثقافي والإصلاح عبر الفنّ تمّ التطرّق لهما أيضا في مقالين للمهندس فيصل العش الأول بعنوان «الدولة و مأسسة الثقافة» صدر بالعدد 115  من مجلة الإصلاح والثاني تحت عنوان «الفنّ رسالة» صدر بالعدد 116.