من القلب

بقلم
محمد حيدر النهدي
أيقتل البرد؟
 أســدل اللّيل ستــاره، وبــات الجــوّ بــاردا جـــدّا يوحي بنزول المطـر وموجـة من الـبـرد كسائـر أيّام الشّتـاء في ربـوع الشّمـال الغربـــيّ، يبدو أنّ البرد في هذا اليوم أقسى، ويزداد عويل الذّئاب في الغابة المجاورة عويل تقشعرّ له الأجسام.
 فجأة شقّت صيحة عالية غمام السّماء، فمزّقت الظّلمة، وكأنّها البرق في يوم شتاء حالك. صوت من يا ترى؟ صيحة من هذه؟...
خرج كلّ من في المنزل يستفســر الأمـــر، وازداد العويل والبكاء، لم يعـد يهمّنـــي البـرد ولا الصّقيع... يا هـول ما رأيـت... فتـاة بعمـر الزّهور بلحاف أبيض ممدّدة على أرضيّة كوخ بال. إنّها صابرة وبجانبها أمّها تبكي، فتبكي معها القلوب. لم أفهم ما تقول غير أنّي سمعت أمّي تردّد: « صابرة... صابرة ماتت من البرد، ماتت بعمر الزّهور».
عدت أدراجي إلى المنزل، وأنا شارد الذّهن والأصوات تتزاحم على مسامعي من هنا وهناك...عويل وبكاء ونواح، لم أعد أميّز بين صوت الرّياح وعويل الأمّ الملتاعة.
عدت وأنــا لا أدري ما يؤلمنــي؟ هل أصـــدّق مــا سمعــت؟ أيقتــل الــبرد الأطفـــال؟ ألم تكن خرافـة، حكايـة البــرد الّذي يقتـل الأطفـال، تقال لنــا حتــى لا نقبــع خــارج البيت شتاء؟ ألم تكن خرافة رأيناهــا مع قصّــة «بائعــة الكبريــت»، وبكينـا إثرهـــا لأنّ البطلــة ماتــت من بعد أن أشعلت كلّ عيدان الثّقاب.
إلهي... كم كانت تبكيني هذه النّهاية، وكنت دائما أقنع نفسي بأنّها ليست حقيقة حتّى لا أبكي مجدّدا، لكن اليوم لم تعد تبكيني مرّة أخرى لأنّني عايشت أبشع النّهايات في الواقع.
 صوت «صابرة»، أختي وأختك يا من تعيش الدّفء شتاء والبرد صيفا، «صابرة» ماتت من الفقر، يا من تأتي لتأخذ صورة تذكارية للثّلج ولتصوّر الجبال وأشجار الصّنوبر.
 فــقف - يا أخي- و قــل: «رحمها اللّه، ماتت من البرد. ماتت من الثّلج».
قــف - يا أخي- و قــل : «لا ... بل ماتت من الفقر، ماتت من القهر يا أهل بلادي»
اليــوم تمضي أسابيـع على الحادثـة، والجـوّ لا يزال ممطرا وبـاردا، مثلجـا، وحزينـا. ومع مـــروري قـرب كوخهــا أودّ أن أشعل أكداس الحطب المتناثرة هنا وهناك لـعـلّ الجوّ يصبح أكثر دفئـا، فـأقي أمثال «صابرة» من شدّة البرد ومن الموت.