في الصميم

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
الديموقراطية آلية أم نظرية للحكم
 تمهيد
تنشأ الأفكار أول ما تنشأ بشكل مجرد وحرة من كل قيد داخل رؤوس الفلاسفة والمفكرين بل وبأشكال متباينة للفكرة الواحدة، لكنها حين تعبر إلى الواقع لابدّ من تهذيبها وتقييدها بقيود يتّفق عليها جميع المهتمين بها. والحرّية مثال جيّد على تلك الفكرة المجرّدة والحكم هو تقييدها في الواقع. ولمّا كانت الحرّية هي أثمن ما يملك النّاس وهي الطّريق الحقيقية للإبداع، بدء من اختيار المعتقد دون أيّ قيود، وانتهاء بممارسة الفعل الحضاري، ولمّا كان مفهوم الحرّية عند المؤمنين مرادف لمفهوم العبوديّة المطلقة لله، فمعنى أن تكون عبداً لله، هو أن تكون حرّاً إزاء غيره مهما كان. لذلك كان ولا بدّ من تقييد الحرّية بنظام للحكم يمنع الفوضي عند ممارستها من جهة الجماهير، ويمنع استبداد الحاكم من جهة تقييدها. فليس من الحرّية مثلا الاعتداء على أجساد أو أموال الآخرين. ولمّا كانت الحرّية المطلقة أسبق في الظّهور والفهم من إنتاج قيود لها لذلك اعتدى الإنسان على أخيه الإنسان حين قتل قابيل هابيل، وسبق إخضاع الإنسان الضّعيف لرغبات القوي، فيما عرف بعد ذلك بعصور الديكتاتوريات، حتى أنتج الفكر البشري فكرة أن يحكم الشّعب بشكل مباشر في القرن الخامس قبل الميلاد وسمّيت حينئذ «الدّيمقراطية»، لكن هذه الفكرة غابت لقرون أخرى وسط ديكتاتوريات جديدة إلى أن أعيد إنتاجها بشكل حديث في القرون الثّلاثة الأخيرة في عصر الأنوار في أوروبا. لكن الجدل الدائر في عالمنا العربي الإسلامي لم ينته من وقتها، هل الديمقراطية مذهب سياسي للحكم أم طريقة إجرائية للوصول إليه.
الشعب كسلاح
نشأت الأيديولوجيات الكبيرة مثل الرأسمالية والليبرالية والشيوعية وأفكار اليسار والقوميّات في القرون الثلاثة الأخيرة، بينما سبقت الديمقراطية هذه الأيديولوجيات بأكثر من عشرين قرن في المدينة-الدولة أثينا حيث تبلورت فكرة لدى الفلاسفة مفادها أن الشعب ليس قاصرا عن تقرير مصيره من خلال نظام يمنحه حق حكم نفسه بآلية ضرورة المشاركة الفعلية لجميع أفراده في سائر جوانب الحياة العامة. وقد جاءت هذه الفكرة كردّة فعل للأنظمة المستبدّة التي سادت في تلك العصور والتي كانت تقوم إمّا على حكم النبلاء وهي الطبقة الأرستقراطية وإمّا على حكم الأقلية المتسلّطة فيما سمّي بالأوليجاركية أو على حكم الفرد في الملكيّة.
وفي الفترة من قبيل منتصف القرن الثامن عشر حتى بعيد منتصف القرن التاسع عشر قام عدد من المفكرين الغربيين من مثقفي الطبقة الوسطى مثل «جيرمي بنثام» و«إدموند بورك» و«جيمس ميل» بالتنقيب في الفكر اليوناني فوجدوا سلاحا قويّا تنينيّا اسمه الشّعب[1]. أراد هؤلاء المفكرون تطويع هذا السّلاح بحيث يمكن لفئة جديدة من ممارسة السّلطة بشرعيّة جديدة لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الجماهير، استخدموه في حماية ثرواتهم من تسلّط الملكية من زاوية وطمع الطبقة الفقيرة على السّواء من الزّاوية الأخرى[2]. وفي هذا يقول جوزيف شومبتر «يروق للسّياسيين استخدام مصطلح الدّيمقراطية - الذي تحبّه الجماهير - لأنّه يمنحهم أفضل فرصة لتجنّب المسؤوليّة، ويمكنهم من سحق خصومهم ... باسم الشّعب»[3].  
الديمقراطية إجراءات أم مذهب سياسي؟
يعتبر «جوزيف شومبتر» أنّ الدّيموقراطية شأن إجرائي حيث يقول «إنّ الأسلوب الدّيمقراطي هو ذلك التّرتيب المؤسّساتي الذي يمكن من خلاله التّوصل إلى القرارات السّياسية التي تشخّص الخير العام عن طريق جعل الشّعب نفسه يتّخذ القرارات من خلال انتخاب أفراد يؤمنون بتنفيذ إرادة الشّعب». ويعرّف «جون كين» الديمقراطية على أنّها «نظام من القواعد الإجرائيّة مع مضامين معيارية» ويحدّد المضامين المعيارية في «الحق العام والمتساوي للبالغين في التصويت؛ حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقلية، سيادة القانون؛ وضمانات دستورية لحرّية التّجمع والتّعبير والحرّيات الأخرى». بينما يذهب «آرنولد توينبى» إلى أنّ استخدام اصطلاح الديمقراطية «أصبح مجرد شعار من الدّخان، لإخفاء الصّراع الحقيقي بين مبدأي الحرّية والمساواة». وكأنّه بلغة العصر الحديث صراع بين فلسفتين كبيرتين هما اللّيبرالية المتجسّدة في مبدأ الحرّية والشّيوعية المتجسّدة في مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية. لذلك ترى الشّيوعية أنّ الدول الرّأسمالية ليست ديمقراطيّة بالمعنى الصّحيح؛ لأنّ الحكم فيها واتخاذ القرارات حقيقة بيد الطبقة الثّرية الرّأسمالية، التي تمتلك المصانع والشّركات العملاقة لإنتاج السّلاح وتسويقه وتكمن مصلحتها في إشعال الحروب واستمرارها، والعمليّة برمّتها ما هي إلاّ تنفيذ رغبة هذه الفئة القليلة مقابل تعطيل رغبات الشعب بكامله، ويسوقون مثالا لذلك خوض الولايات المتحدة للحرب العالمية الأولى والثانية وحرب فيتنام دون أن يتعرض أمنها القومي للخطر أو تكون لها مصلحة مباشرة في ذلك، في الوقت الذي كان الشّعب الأميركي رافضا خوض  حكومته هذه الحرب، حيث كانت المظاهرات تسير في اتجاه وقرارات الحكومة في اتجاه آخر، ومن يخرج على السيناريو المكتوب تُنهى حياته فورا بعمليات قذرة لا تزال أسرارها في طيّ الكتمان مثل اغتيال كنيدي الذي حاول عقد اتفاقية وفاق دولي، وغيره كثيرون، لذلك فإنّ المصطلح الحقيقي للديمقراطية عند الشّيوعيين هو دكتاتوريّة رأس المال، وفى الوقت نفسه ترى الرأسماليّة أنّ الدّول الشّيوعية ليست ديمقراطيّة، لأنّ كل سلطاتها تنحصر في قبضة قليلة واحدة من الشّعب وهي الحزب الشّيوعي؛ ولذلك لا تحسب الدول الشيوعية في عداد العالم الحرّ. 
ويرصد «برتراند رسل» المراحل السّياسية للدّيمقراطية قائلا: «كانت تعنى حكم الأغلبية مع نصيب قليل غير محدود المعالم من الحرّية الشّخصية، ثم أصبحت تعني أهداف الحزب السّياسي الذي يمثّل مصالح الفقراء على أساس أنّ الفقراء في كلّ مكان هم الأغلبيّة، وفي المرحلة التّالية أصبحت تمثّل أهداف زعماء هذا الحزب، وها هي الآن في أوروبا الشّرقية وجزء كبير من آسيا يصبح معناها الحكم المستبد لمن كانوا يوماً ما نصراء للفقراء، والذين أصبحوا يقصرون نصرتهم هذه للفقراء على إيقاع الخراب بالأغنياء، إلاّ إن كان هؤلاء الأغنياء من الدّيمقراطيين بالمعنى الجديد».
تعريف الديموقراطية
ليس هناك تعريف دقيق ومتفق عليه في العلوم السّياسية للدّيمقراطية، لكن الذي لا يختلف عليه أنّ الحديث عن الدّيمقراطية يستلهم المثال من الحقبة الأثينية وكانت الديمقراطية تعني حكم الشّعب أو سلطة الشّعب، وقد مرّت بمراحل عدّة حتّى وصلت ذروتها في عهد «بركليز» الذي كان يهجوه معارضوه وينعتوه بأقسى العبارات بكلّ حرّية وهم غير خائفين من سطوة الجلاّد أو ظلام السجون، لكنّ السّؤال الذي يفرض نفسه هل تجاوز المشتغلون بالحقول الفكريّة المتعلّقة بالمصطلح ذلك المعنى الحرفي الأثيني، مع اعترافهم بأنّ الفلسفة الغربيّة والنّظم السّياسية الحديثة ماهي الاّ حواشي على كلام أفلاطون والذي عرف من خلال مخطوطاته التي جمعت بين الفلسفة والشعر والفن وكلام أرسطوطاليس في كتابه «حول السياسة» أو أنّها حاشية على قصيدة بارمنيدس (أستاذ أفلاطون) في الوجود. لذلك يحذر بعضهم من خطورة أن تتحوّر فكرة الديمقراطية ليصبح لها معنى عند كل إنسان وينادون بضرورة وجود قدر من الصّرامة المفاهيميّة. 
إنّ اشتقاق مفهوم صارم للديمقراطية مطلوب جدّا لفض النزاع بين الفصائل السّياسية المتنازعة على السّلطة أو على الأقل الاتفاق على القدر المشترك لفضّ الإشكاليّات الخاصّة بالمصطلح. ففي وطننا  العربي والإسلامي يرى طيف من الاسلاميين أن الديمقراطية تعادي الإسلام وتتناقض مع مفهوم الحاكمية وأنها نظرية في الحكم لا يمكن فصل شقّها الإجرائي عن الفلسفي، والبعض الآخر يعتبرها سلسلة إجراءات تتضمّن آلية سلمية للوصول والتّداول على الحكم، أمّا الطّيف السياسي من غير الإسلاميين مثل اللّيبراليين واليسار بطوائفه المختلفة وأصحاب رؤوس الأموال الضّخمة غير المؤدلجين المؤثرين في الساحة السياسية  حفاظا على مصالحهم  وأغلبهم ليسوا على تناغم مع الإسلاميين، فيقولون بلسان الحال أن الإسلاميين بكافة أطيافهم يعرفون حقّ المعرفة أن الديمقراطية نظرية متكاملة في الحكم وليست إجراءات فقط ولكنهم يقبلون بها كمطيّة للوصول إلى سدّة الحكم فإذا تحقق لهم ذلك شرعوا في تغيير شكل الدولة بل وربما يقومون بنسف النظام الديمقراطي نفسه. هذا الجدل - وإن كان من نوع آخر- كان وما يزال موجودا أيضا داخل الواقع الغربي منذ زمن بعيد، فبعض المفكرين يتبني فكرة أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا في بيئات ثقافية أو دينية معينة مثل ماكس فيبر الذي زعم أن الرأسمالية والديمقراطية تتطلبان الأخلاقيات المسيحية البروتستانتية. بينما يخالفه فرانسيس فوكوياما رافضا القول بوجود «شروط ثقافية مسبقة للديمقراطية، ذلك لأن الثقافات ليست ظواهر ثابتة مثل قوانين الطبيعة؛ بل هي اختراعات بشرية تخضع لعملية مستمرة من التطور»[4]. ويميّز البعض الآخر بين الليبرالية والديمقراطية، قائلا «إذا كانت الديمقراطية تعنى إرادة الأغلبية بدون قيود فهو ليس ديمقراطيا». ويري بيثام أنّ الديمقراطية والحرية لا ينفصلان «فبدون حرّية لا توجد ديمقراطية» والبعض يرى أنّ الديمقراطية مفهوم متنازع على جوهره وأنّ هناك تصورات أخرى في الثقافات غير الغربية توفّق بين الديمقراطية والهويات الثقافية مثل اسبوزيتو وفيليب حتى وغيرهم الذين يروا أنّ لدى الثقافات الأخرى ما تقدّمه. وأخيرا يعترف وايتهيد بوجود دلالات متنوعة لكلمة الديمقراطية في الثقافات المختلفة، وأنه من غير الممكن «افتراض استمرارية ما كامنة وراء معنى المصطلح» منذ المدينة - الدولة ومع ذلك، يدعو إلى بعض الاتفاق على معنى.  ولذلك كان لزاما علينا الدخول في بعض إشكاليات الديمقراطية من وجهة نظر المفكرين السياسين مع التنبيه على مبدأ أن نقد الديمقراطية ليس نقدا للحرية في اختيار الشعب من يحكمه أو حتى من يمثله، وليس رفضا لقيم عالية مثل المساواة، والعدالة، فهذه كلها مبادئ لا يكاد يختلف عليها أحد، لكن الاختلاف حول طريق الوصول إلى تحقيقها في الواقع. وسنقدم فيما يلي بعض الإشكاليات الجوهرية المتعلقة بالديمقراطية[5]، وهذا لا يعني هدم الفكرة من أساسها أو رفضها، وليس تبريرا للأنظمة المستبدة، ولكن ينبغي قراءته على أساس البحث عن آلية تضمن إعلاء قيم العدل والحرية والحق دون هدم ثوابت المجتمع، خصوصا عندما نعلم أنّ الإسلام ربّما لم يُرد أن يحصر نفسه في أداء سياسي معين، وأنّ ذلك ربّما ممّا ترك للناس تدبيره وفق متغيرات العصر لكن داخل الإطار العام للدّين.
مبدأ التمثيل النيابي وإشكالياته
في بداية الحديث عن الديمقراطية في أثينا كان المقصود الديمقراطية المباشرة حكم الشعب من خلال اجتماع الشعب في مكان واحد، لكن مع زيادة أعداد السكان بشكل رهيب لم يعد ممكنا استيعاب شعب دولة ما (حتى ولو كانت دولة متناهية في الصغر) في مكان واحد. لكن من الممكن ممارسة الديمقراطية المباشرة في هيئات جزئية محكومة بصغر عدد أفرادها والتي من الممكن السيطرة على تواجدها داخل مكان ما  كالأندية، وبالتالي تمّ الالتفاف حول جوهر الفكرة الأثينية من خلال اللجوء إلى الديمقراطية النيابية التي يختار من خلالها الناخبون أشخاصا يمثلونهم في البرلمان. أي أن الديمقراطية الحديثة حجبت عن الشعب حقّ الحكم ومنحته حقّ اختيار الحاكم. وبدلا من أن يحكم الشعب، حكمت الأكثرية، لكن الإشكالية الكبيرة في أنّ التمثيل النيابي لا يكون في الغالب ممثلا للتركيبة الاجتماعية للمنتخبين. خصوصا وأنّ الرأسمالية المتوحشة من خلال الإعلام تسقي الشعب الولاء بالملاعق الكبيرة على حد قول نزار قباني في قصيدته « تقرير سري جداً من بلاد قمعستان». ففي إحصائية لأعضاء البرلمان البريطاني عام 1981 تبين بأن 86.6 % من حزب المحافظين و85.4 % من حزب العمال هم من البيض المنتمين للطبقة الوسطى الذين تتجاوز أعمارهم سن الأربعين[6] وفي انتخابات بريطانيا عام 1983 لم يعكس أعضاء المجلس التركيبة المجتمعية، بل كانت أكثرية المجلس تمثل فئة واحدة وهي: البيض، الذكور المنتمين للطبقة الوسطى 96 %.  
ثمة إشكالية حقيقية تتعلق بالمفهوم وليس بالإجراءات وهي أن التمثيل هو عقد تفويض من المنتخبين وليس تمثيلا لهم في المجلس وأراها مشكلة جوهرية تعكس الثقة والإيمان بقدرة النائب على تمثيل مصالح من انتخبه في البرلمان، لأنه في نهاية المطاف يمثّل الحزب الذي ينتمي إليه وليس جزء الشعب الذي اختاره. الأمر لذي حدا بجان جاك روسو وجيمس ميل إلى اعتبار دخول الأحزاب في المجالس النيابية مناقض لأصول الديمقراطية لأنّ الأحزاب تمثل وسيطاً سلبياً بين الشعب وآلية الحكم، مما يجعلها عائقاً لمباشرة الجماهير أمور حياتها، والتعبير عن نفسها. ففي أعرق الديمقراطيات الحديثة في بريطانيا لا تختار الجماهير أعضاء المجلس والحكومة الذين يمثلونهم، وإنما ينتخبون الحزب الذي يحكم رئيسه حسب ما يقتضيه برنامج الحزب وبحكم تصوره للمصلحة العامة دون وجود أي مرجعية للشعب. وقد عبر عن ذلك لورد هيلشام بقوله: «إننا نشهد عصر الدكتاتورية المنتخبة» في إشارة إلى الهيمنة الدائمة لحزبين متناحرين على زمام السلطة في بريطانيا. وإذا علمنا أن عدد المهتمين بالنشاط الحزبي في بريطانيا لا يتجاوز نسبة 5% فقط، فإن الأغلبية المستقلة لا تجد من يمثلها في هذا النظام. بل إن الأكثرية الحزبية ليست ممثلة للأكثرية الشعبية الحقيقية، بل ممثلا لأكبر أقلية ثم لأكبر أقليات تتحد مع بعضها لمصلحتيهما. ولا أظن أبدا أن المجتمع الألماني في عهد هتلر أجمع - حتى ولو كان إجماع الأغلبية الشعبية- على حرق اليهود بل كان إجماع الأكثرية المتحكمة في اللعبة السياسية فقط. بل في بعض الأحيان تحكم الأقلية بلعبة توزيع مراكز الاقتراع، بحيث تتفاوت قيمة الأصوات بسهولة وتشتري الولاءات بالمال السياسي، وهو ما يضرب مبدأ المساواة في مقتل[7]. 
ويعترف الكثير من أعضاء مجلس العموم البريطاني بأنهم لا يملكون أي سيطرة على آلية اتخاذ القرار لأنها في يد قيادة الحزب بالتحالف مع الشركات العملاقة وأجهزة الاستخبارات السرية وإمبراطوريات الصحافة، وبالتالي فإن الآليات التي تؤدي في النهاية لأن يحكم الشعب نفسه تكون معرضة للانقراض.
المساواة بين غير المتساوين
ثمة مشكلة حقيقية أخرى هي المساوة بين أصوات الناخبين بغض النظر عن مؤهلاتهم الثقافية أو قدراتهم العقلية حتى أن البعض يسوق مثالا، آراه واقعيا بسفينة يقودها قبطان وأن المسافرين قرروا اتباع نظام ديمقراطي في قيادتها وأن القبطان خسر الانتخابات ولم يكن هناك غيره على دراية بالبحر فكيف يكون الحال. وفي السياق نجد  أفلاطون وهو أحد أهم فلاسفة الإغريق يصفها بأنها «سفينة الحمقى»، ويقول جورج برنارد شو في أكثر من موضع من عيوب الديمقراطية أنها تجبرك على الاستماع الى رأي الحمقى، ويعزو الفيلسوف الإيرلندي جوردون جراهام أهم مساوئ الديمقراطية إلى مساواة الطبقة الكبيرة من الشعب غير المثقفة بالنخبة المثقفة وهي ما تحرص عليها دائما الأحزاب الحاكمة لأنها دائما طريقها للتلاعب بالمال والإعلام السياسي حيث أن معظم هذه الطبقة من البسطاء الذين يسهل إغراؤهم غالبا بالمال أو بالتدجيل الإعلامي الموجه أو غير ذلك. يقول جراهام «إن الفكرة التي قدمها أفلاطون عن سفينة الحمقى تثبت أن الديمقراطيات القديمة أو الحديثة تحتوي في داخلها على مشكلات غير قابلة للحل، حيث أن مشاركة جميع الأفراد في الحياة السياسية تعني أنه لا بد أن يمتلك جميعهم نفس المستوى أو مستوى متقارب من الذكاء والوعي والخبرة بالأساليب المثالية للحكم حتى يمكنهم الاختيار على هذا الأساس، وهو الشيء الذي يستحيل تحقيقه عملياً»،  أخيرا يتعجب أليكسيس كاريل قائلا، كيف رضيت البشرية أن ترزح تحت نير نظام يقضي على المميزات الفردية، ولا يقيم للصفوة الممتازة أي وزن في التأثير على سير الأحداث.
مدى القبول للتصويت بالأغلبية 
ثمّة مشكلة أخرى هي المدى الذي يقبل فيه قرارات التصويت بالأغلبية حتى ولو اشترطنا نسبة كبيرة كالثلثين أو أكثر. ولنضرب مثالا جدليا لا أراه واقعيا لكنه يكبر حجم المشكلة كي نراها بوضوح، فلو صوت البرلمان بأغلبية ساحقة على قتل فئة معينة أو التنازل عن شبر واحد من أرض الدولة هل ستلزم الجهات التنفيذية بذلك،  قد يقول البعض أن ذلك مثالا جدليّا فلا يناقش علاوة على أنه ربما يكون غير دستوري، ومن يستطيع الاعتراف بأن الدستور قد أحاط بكل شئ علما. ومع ذلك أرى أن معظم المشاكل الكبيرة تحدث من هذه الزاوية وهي إحساس الأقلية بدكتاتورية الأغلبية وأنها تستطيع تمرير مشاريع القوانين التي تخدم مصالحها. لذلك يلجأ بعض منظري الديمقراطية بعلاج هذه المشكلة من خلال طرح نموذج «الديمقراطية الليبرالية» وهذا في الحقيقة ما يجعلها بالفعل نظرية في الحكم أكثر من كونها مجموعة من الإجراءات، وفيه تلزم الحكومة برأي الأغلبية على ألاّ يضرّ بالحريات الشخصية للأفراد وحقوقهم، من حرية المعتقد والتعبير عن الرأي إلى حقّ الملكية، واحترام حقوق الإنسان ومنع الأغلبية من أخذ قرارات تعصف بالمجتمع. 
التوازن بين الليبرالية والديمقراطية
ثمة مشكلة آخرى وهي إحداث التوازن بين الحريات الفردية جوهر الليبرالية والحريات الجماعية جوهر الديمقراطية، وبينهما تمايز ولا شك. والغريب أن إحداهما تعالج بعض المشاكل في الأخرى، وهي التصويت الجماعي -المنافي للحرية الفردية في الاختيار- والمبني على منطق الولاءات الضّيقة بعيدا عن اختيار ذوي كفاءة علمية وخبرة، وهذا يؤدي بدوره لاحقا إلى اتخاذ قرارات دون نقاش حقيقي بل قرارات تملى من الجهات التي أملت التصويت وهو ما يؤدي –إن كانوا أغلبية- إلى ممارسة الاغلبية لكبت الأقلية من ناحية، وإذا أحسنا الظن بوجود نقاش حقيقي داخل أروقة البرلمان الذي لوحظ عند تكوينه تصويتات جماعية، وعدم اعتراف الأقلية بالطريق الديمقراطي لاتخاذ قرارات بالأغلبية من شأنه أن يعمق المشكلة بجدوي المسار الديمقراطي نفسه فإن كان بعضنا لا يستطيع تقبل فكر الأغلبية من الناحية التنفيذية، فما انطوت عليه الصدور مستحيل تغييره بالتصويت فلا طريق إلاّ الإقناع وقبول العمل الجماعي في ظلّ اختلاف التوجهات والرؤي والفلسفات. وماذا إذا لم يقتنع جزء كبير من الشّعب أن ممثليه المنتخبين غير قادرين على اتخاذ قرارات سليمة أو ليست لها القدرة على تسير شؤون الدولة وليست لها الكفاءة والخبرة اللازمة لذلك، وليست بالضرورة أن يكون هذا الجزء من الشّعب مساو أو أكبر لمنتخبي الأغلبية، أي أنّ الشرعية وحدها غير كافية. والأمثلة على ذلك في برلمانات تم انتخابها ولم تؤد أي دور سياسي. وبالرغم من ذلك كله يعترف جراهام بأن هذا النظام يعكس أفضل نظريات الحكم التى عرفها العالم على مرّ التاريخ، ولا يمنع ذلك من وجود بعض العيوب الجوهرية.
التكنولوجيا في خدمة حكم الشعب
في بداية الحديث عن الديمقراطية في أثينا كان المقصود الديمقراطية المباشرة لكنّها تحوّلت إلى ديمقراطية نيابية حجبت عن الشعب حق الحكم ومنحته حق اختيار الحاكم بتعلّة تجاوز صعوبة اجتماع الشعب كله في مكان واحد نتيجة الزيادة الكبيرة في عدد السكان.
لكنّ التكنولوجيا الحديثة بإمكانها المساعدة على إعادة الحكم للشعب حيث أصبح من الممكن جمع الشعب كله في الفضاء الافتراضي من خلال التصويت الالكتروني وترك عقباته الفنية للمتخصّصين في الوصول إلى أقصي الضمانات في عدم التلاعب بالأصوات بفضل تطبيقات الكترونية يصوت من خلالها الشعب كلّه بواسطة الرقم القومي للمواطن أو ببصمة العين أو أي شئ فني يضمن تأمين هذا المطلب. وربما يساعد ذلك في القضاء على ظاهرة المال السّياسي وزيادة نسبة التصويت بشكل كبير، فالتكنولوجيا بإمكانها المساهمة في تطوير آليات الحكم المباشر للشّعب بدلا من تطوير آليات وسبل تمثيل الشّعب. 
الهوامش
[1] بالرّغم أنّهم لم يكن لديهم ثقة أصلا بقدرة الجماهير على حكم نفسها، وخطورة توسيع سلطة الشعب، والفوضى التي يمكن أن تنتج من جراء ذلك، بل إنهم كانوا يقصرون الاقتراع على عدد محدود من الذّكور ولم يسمح لطبقة العمّال والنّساء والأقليّات بالتّصويت إلاّ في مرحلة متقدّمة من القرن العشرين. 
[2] R. Jay. Democracy, «Political Ideologies», London, )1985 
[3] جوزيف شومبتر، «الرأسمالية والشيوعية والديمقراطية»، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت (2011).
[4] لكن فوكوياما يناقض نفسه عندما يتعلق الأمر بالإسلام والديمقراطية. 
[5] بشير زين العابدين «نقد الديموقراطية المعاصرة في الفكر الغربي»،  http://majles.alukah.net/t110994
[6] M. Ryle, «The Commons Today», London, )1981.(
[7] فقد حصل العمال على 6.27 % من مجموع الأصوات وفازوا بـ 209 مقعداً في مجلس العموم بينما حصل الأحرار/الاشتراكيون على 4.25 % من الأصوات وفازوا بـ 23 مقعداً فقط، أي أن الفرق بين الحزبين هو 2.2% من الأصوات وفرق المقاعد هو 186 مقعداً،  بينما حصل المحافظون على 42% من صوت الناخبين و61% من مقاعد مجلس العموم.