في الصميم

بقلم
فؤاد بوعلي
من أجل وعي حقيقي باللحظة المغربية !!!
 بين الوعي باللحظة وتدبيرها
بعد شهور من التجاذبات السّياسية والاجتماعية حطّت الانتخابات المغربيّة أوزارها معلنة، ليس فقط عن انتصار حزب العدالة والتنمية بولاية ثانية، ولكن انتصار الخصوصيّة المغربيّة بمقوماتها الذّاتية والجيوــــ ستراتيجية. ففي جوّ من التّشكيك الدّاخلي والخارجي في قدرة المغرب على استكمال فتح القوس الديمقراطي الذي دشنه مع الحراك الشبابي في الميادين والساحات، وبعد التجربة الأخيرة في تدبير الشأن الحكومي التي أسست لبروز نخبة سياسية جديدة بخطاب جديد ومنهج جديد في التواصل، ومع استمرار المؤسسة الملكية في القيام بالإصلاحات الضرورية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، تطرح أمام القارئ/ الباحث مجموعة من الإشكالات المعرفية التي تسائل النخبة السياسية المغربية بشكل عام وقيادة حزب العدالة والتنمية بشكل خاص: هل هناك وعي حقيقي باللحظة الوطنية بكل تمثلاتها الحضارية والاستراتيجية في العلاقة مع الجوار الإقليمي؟ وهل استوعبت قيادة الحزب الإسلامي دورها «التاريخي» في قيادة التغيير الديمقراطي؟ أم أنها منشغلة بالتدبير التقني العرضي للزمن السياسي وصراعها ضد غول «التحكم»؟ وهل تستوعب دور الزمن الإقليمي الذي مكنها من قيادة التدبير الحكومي مرة أخرى؟ وهل هناك وعي حقيقي بجوهر الخصوصية المغربية التي تؤسس للتميز الثقافي والسياسي ودور الملكية في نشرها وتمثلها؟ 
مساران اثنان ميزا النقاش بعد الانتخابات: مسار الانتشاء بالفوز الديمقراطي على جبهة التحكم مما دفع ببعض القياديين إلى التبشير بنهاية حزب «البام»(1) بل والمطالبة بحل نفسه، ومسار آخر بدأ يروج في كتابة النخبة الفكرية للمشروع مؤداه إعادة النظر في فهم الواقع السياسي. فإن كانت الولادة غير الطبيعية لحزب الأصالة والمعاصرة قد شوهت كل مخرجاته بل وأنبأت باجترار أزمة العقل الإداري المغربي القائم على فرض نموذج خاص للتعددية الحزبية الموجه للحفاظ على الشرعيات المؤسسة للملكية في المغرب: التاريخ والدين والدمقرطة، فإن تصريحات العديد من القياديين السياسيين، وبعض المتعاطفين، تفرض مراجعة نقدية لمسار سياسي في زمن غير عادي، والانتقال من خطاب المظلومية إلى خطاب التأسيس. فمشروع العدالة والتنمية، ومعه الصف الديمقراطي الوريث الطبيعي للحركة الوطنية، ليس قضية حكم أو تدبير عرضي للشأن العام، بل هو مشروع مجتمع يستحضر المقومات الرئيسة للنهوض دون الإخلال بطبيعة الدولة وتعاقداتها. فالوعي باللحظة التاريخية وبانتكاسات التجارب الماضية يفرض الانتقال نحو تدبير استراتيجي عقلاني للفعل دون السقوط في فخاخ الآني. فالقول بأن التحكم نتاج لتدبير إداري مزايل لسلطة الدولة وللمؤسسة الملكية هو فهم قاصر أو مضلل لمناط الصراع، لأن الملكية ارتأت منذ تدشين المسار الانتخابي ألا تتركه ينفرط من بين يديها لأسباب عدة، دون تخوين أو دفاع، من أهمها الحفاظ على استمراريتها وضمان السير السليم للمرفق العام والحفاظ على الدولة... وغيره من المبررات. ولنتذكر أن رهان المؤسسة الملكية على التعددية في بدايتها لم يكن من أجل الديمقراطية وإنما من أجل تحجيم الحزب الوحيد الذي كان يقود الساحة السياسية آنئذ. لكن في كل الأحوال كان وجود الملكية حاسما في صياغة المشهد السياسي من خلال آليات عديدة منها جمع السلط في يد واحدة وتفكيك مراكز القوى السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية وتحجيم دور الجيش بل وتهميشه في صياغة المشهد السياسي. لذا لا يمكن أن نتصور أن خلق كيانات سياسية هو جزء من المؤامرة على الشعب، كما ردد اليسار الجذري في زمن عنفوانه، بقدر ما هو فهم خاص لتدبير الشأن السياسي. فالقول بأن «البام» الآن وقبله الأحزاب التي ولدت لاختيارات ظرفية كالأحرار والدستوري وسميت من طرف خصومها إدارية، واكتسبت شرعية الوجود مع الزمن بل ونثرت على جبينها الآن ورود الطهارة والنقاء، مجرد مشاريع وهمية يمكن القضاء عليها، يغيب عمق الدور المنوط بكل طليعة ديمقراطية. فما تردده قيادات «البيجيدي»(2) الآن رددته قيادات وطنية سابقة وانتهي بها المطاف إلى أن غدت أحزابا عادية في قائمة الأحزاب المختلفة، بعد أن فقدت أحلامها في التغيير الجذري وفقدت معها بوصلتها بغياب القادة التاريخيين عن دفة السفينة. لذا فالوعي باللحظة أساسي في فهم الدور التاريخي. والوعي بجوهر الفكرة المؤسسة لكل كيان يمكن من فهم دواعي الاختيار. 
كتب فتح الله ولعلو(3) في سنة 2012 وهو يحلل مسار المرحوم عبد الرحيم بوعبيد(4) بعد وفاته: «وأما على المستوى الداخلي فقد ترسخت منظومة التحكم، مستعملة أساليب الاستمالة الانتفاعية وتوزيع الامتيازات في اتجاه دعم نفوذ الجهاز المصالحي الاستغلالي، وتوسيع دوائره من جهة وإحكام الخناق على مكونات الحركة التقدمية وعلى الحركة الاتحادية كحزب وكتيار جماهيري يدافع عن القوات الشعبية». ما الذي تغير إذن؟ المتغير الوحيد هو اسم الحزب القائد لمعركة مواجهة التحكم. ويستمر السيد ولعلو واصفا الثمن المدفوع بنَفَسِ المتألم المتحسر على حال حزبه: «ومن المفارقة أيضا أن الاتحاد الاشتراكي الذي ضحى خلال مختلف مراحل المسلسل الديمقراطي، والذي قاد تجربة التناوب بكل حدودها وإطار تحالفاتها هو الحزب الذي سيؤدي الثمن: ثمن التأخر في الجواب عن الانتظارات الكثيرة للمواطنين، وثمن عزوف الفئات الواعية من المواطنين والتي ملت من ضبابية المشهد السياسي وعدم وضوح قواعد اللعبة داخله..». والمتأمل لخطاب بعض قياديي «البيجيدي» سيجد نفسه أمام صورة مكررة من ماضي عنفوان الزمن الاتحادي بكل تجلياته وتمثلاته، وحتى خطاباته، حتى تحول الخطاب اليساري إلى حالة نفسية أكثر منه فعالية مجتمعية، وغدا حنينا إلى الماضي أكثر منه بحثا في المستقبل. 
إن وظيفة أي تيار مجتمعي يقود التغيير ليس الانحسار في أبجديات التدبير اليومي المنتهية بانتهاء زمنه السياسي، وليس التفكير الأحادي المغلق في مصلحة الوطن والحزب، بل هي قيادة الفاعلين بمختلف تلويناتهم وتياراتهم على النهوض السياسي الحقيقي ضمانا لاستمرارية الدولة والتجربة الديمقراطية. وبعبارة أوضح: إن وظيفة العدالة والتنمية الآن هي التخطيط لمرحلة ما بعد العدالة والتنمية. 
التفكير بالمغرب وفي المغرب.
أنا لم أخلق لنفسي إنما
أنا مخلوق لأجل الوطن،
مقطع من قصيدة جميلة للزعيم علال الفاسي (5) «نموت ويحيا الوطن» تلخص رؤية مؤسسي الدولة الوطنية للانتماء. فكثيرة هي التحليلات التي تحاول تفكيك تجليات اللحظة المغربية، وتقرب المتلقي العادي من التجربة الوطنية في العلاقة بين الشعب والإدارة، وطبيعة الفاعلين في ترسيخ «النموذج الوطني» بتعبيراته الاستثنائية، لكن الوقوف عند التجربة باعتبارها حدثا عرضيا يُغَيِّب عنا العناصر الأساسية في فهم الصورة واستكمال عناصرها من خلال حقيقتين:
• حقيقة استشراف مستقبل الوطن وعلاقته بالأحداث الإقليمية التي تعيد رسم خارطة المنطقة: فما تشهده دول الجوار من إعادة ترتيب لجغرافيتها وأدوارها الإقليمية أصبح حقيقة بادية للعيان ولا يمكن التغافل عن تأثيراتها على المغرب. فمن المشرق إلى المغرب حالة حرائكية ترسم بحروب وانفجارات هوياتية وسياسية. وفي هذه الحالة لم يعد المجال قابلا للصراع الداخلي كيفما كان نوعه أو صنفه، بل المطلوب مساعدة كل الفرقاء على السير الطبيعي وليس الإصرار على موتهم أو اندثارهم. فكل مولود مشوه قابل للتعديل الجراحي إن ساعدناه على «ولادة ثانية» تمنحه حق الوجود بدل محاربته وخلق حالة غير سوية في فضاء قابل لكل مجهول. كما أن كل موجود ضعيف ينبغي تأهيله وتقويته ليقوم بدوره في تحقيق التوازن وتمثيل أوسع لمختلف الأطياف الإيديولوجية والمجتمعية. فشرعية الانتخابات لا تكون مؤثرة إلا بقدر المشاركة الواسعة للمواطنين حين يحسون بقوة تمثيليتهم وضرورة مشاركتهم. صحيح أن منطق التحكم، كما أبرزته الانتخابات الأخيرة، أفرز تجاذبا بين تيارين: تيار الدولة وسلطتها وتيار المجتمع بفعالياته، وصحيح أن العراقيل التي وضعت أمام نجاح التجربة الديمقراطية في نسخها المتعددة منذ تجربة التناوب يثبت خوفا دفينا لدى المخزن من الديمقراطية ونتائجها، لكن الإيمان بضرورة الانتقال نحو تعاقد مجتمعي يكون فيه المجتمع والدولة على صعيد واحد ويتكلمان نفس اللغة، وليس على طرفي نقيض، هو الذي يمكن من إنجاز المطلوب اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. تعاقد بين كل الفرقاء السياسيين من ملكية وفعاليات سياسية وأحزاب ومجتمع مدني ...من أجل تحديد معالم المشترك الوطني. فالإنجازات التي تحققها المؤسسة الملكية خارجيا ينبغي أن تسند بنخبة سياسية، تعي دورها الحضاري وعلاقة الداخل بالخارج، وفي نفس الوقت تهيء الظروف السليمة للانتقال نحو فتح مساحات أكبر من الفعل الديمقراطي. ولنتذكر حالة شبيهة بالحالة الراهنة هي المغرب خلال عهد «محمد بن عبد الله»(6). فبالرغم من الإنجازات الضخمة داخليا، اقتصاديا وسياسيا، التي حققها، وانفتاحه على العالم حتى غدا قوة إقليمية، فإن ضعف البنية الاجتماعية وترهل النخبة السياسية آنئذ قد أدى إلى تعثر التّجربة. 
• حقيقة الاستثناء المغربي وكيفية توظيفه. الاستثناء المغربي ليس شعارا ظرفيا أو مادة إعلامية للاستهلاك بل هو حقيقة تثبت الخصوصية المغربية في عناصرها الثقافية والمجتمعية التي مكنت هذا النموذج من الصمود في التجارب التي عاشتها المنطقة. وخصوصية النموذج المغربي لا تنحسر في نظامها السياسي بل في مكوناتها الثقافية والاجتماعية التي جعلت يساري المغرب يختلف كثيرا عن يساري المشرق، وإسلامي المغرب مختلف عن إسلامي المشرق، وليبرالي المغرب مزايل لليبرالي الغرب... هو تميز لا قطيعة. وبهذا التميز يستطيع السياسي أن يؤَمِّن توجيه بوصلة النهوض المأمولة من خلال توزيع الأدوار بين مختلف الأطراف الفاعلة في تدبير الشأن العام: ملكية وأحزاب وهيئات مدنية ومجتمع... دون تخوين أو إقصاء أو تنافر. ففي الوطن متسع للجميع. ومن خلال هذا الفهم نستوعب أن استحضار النماذج المخالفة لمسار التجربة المغربية، مثل التجربة التركية أو غيرها من الحالات الناشئة، لا ينبغي أن يتجاوز مرحلة الاستئناس، لأن بريقها الخادع للمتلقي يوهم بمخرجات غير واقعية. فالبقاء في الحكم يورث الترهل الفكري والسياسي ويضيع أبجديات المشروع المؤسس للتغيير.
وجملة القول، إن دور العدالة والتنمية الآن ليس تدبير الزمن الحكومي بتفاصيله المتغيرة فقط، وإنما التفكير (بالوطن) في تحدياته الخارجية والداخلية وذلك بقيادة تغيير ديمقراطي حقيقي في تناغم مع المؤسسة الملكية وباقي الفاعلين واستشراف للغد الديمقراطي دون اجترار نكسات الماضي. 
الهوامش
(1) البام : «PAM» حزب الأصالة والمعاصرة
(2) البيجيدي : «PGD» حزب العدالة والتنمية
(3) فتح الله ولعلو سياسي واقتصادي مغربي، شغل منصب وزير المالية والاقتصاد في المغرب بين 1998 وحتى 2007. وهو عضو في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية،
(4) عبد الرحيم بوعبيد محام ورجل سياسي مغربي ( 1922 - 1992م ) أحد مهندسي وثيقة المطالبة بالاستقلال وأصغر الموقعين عليها - تولى منصب الأمين العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبي (UNFP).
(5) علال الفاسي (1910 - 1974م) سياسي وأديب مغربي، مؤسّس حزب الاستقلال وزعيم الحركة الوطنية المغربية.
(5) محمد الثالث بن عبد الله الخطيب بن إسماعيل بن مولاي علي الشريف العلوي هو سلطان مغربي من سلالة العلويين، تولى الحكم في العام 1171هـ في ظروف صعبة، بعد عهد الاضطراب مباشرة، وقد تميز بالعقل والرزانة وبعد النظر. اجتهد في المحافظة على بلاده ووحدتها وتأمين الشواطئ المغربية من العدوان الأوروبي. شهد عهده أوج الازدهار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي للمغرب الأقصى. توفي سنة 1204 هـ.