شخصيات

بقلم
التحرير الإصلاح
الإمام الشاطبي : سيرة مفكر استثنائي
 جدّد شباب الإسلام فى القرن الثامن وأصبح مرجعاً لكل الفقهاء المجدّدين فى العصر الحديث.. تتلمذ على كتابات العزّ بن عبدالسلام والإمام الغزالى والإمام مالك. قال إن غرض الشريعة هو الحفاظ على المقاصد الخمسة وهى الدّين والنّفس والنّسل والعقل والمال.. وأكّد أنّ الحفاظ عليها هو تطبيق للشّريعة. إنّه عالم الأندلس الإمام أبو اسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطى، الشهير بالشاطبى، وكنيته التى عرف بها «أبوإسحاق».
ولد في مدينة غرناطة، سنة 720هجرية ونشأ وترعرع في مجالس العلم التي اشتهرت بها المدينة في القرن الثامن للهجرة. أقبل الإمام الشاطبي -رحمه الله- على طلب العلم منذ نعومة أظفاره، فقد كان شغوفاً بالعلم منذ صغره فحفظ القرآن وقواعد اللغة العربيّة وفنونها ودرس الفقه وعلوم الحديث وتفسير القرآن. 
أحسّ «الشاطبي» بوجود فصام بين تعاليم الإسلام وقواعده ومبادئه وبين واقع المسلمين وممارستهم الحياتية فعمل على رتق الفتق ورأب الصدع ببيان علل الأحكام وغايات الإسلام ومقاصد الشريعة وأهدافها، فوضع «نظرية المقاصد» التي اعتبرت من أهم نظريات الفقه الإسلامى بعد نظرية الإمام الشافعى فى تأسيس أصول الفقه، ولذلك اعتبره البعض مجدّد المائة الثامنة، وباعث النهضة فى علم الفقه.
وتقوم هذه النظريّة على أن الشريعة الإسلامية وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وهذه الكليات الخمس أو المقاصد الخمسة من الأمور التى لا يرقى إليها الشك بالنسبة للشاطبي وهدف الشريعة الأسمى ومقصدها الأنبل هو الحفاظ عليها وأى اجتهاد فقهى يخالف مبدأ الحفاظ على هذه الكليات باطل. 
كانت هذه النظريّة التي ارتبطت بالشاطبي واشتهر بها عبر العصور إضافة نوعية في علم أصول الفقه؛ إذ ارتقى به الشاطبي إلى استجلاء مقاصد الشريعة الإسلامية بعد أن كان التركيز فيه لمدّة طويلة على المسائل اللُّغوية ومباحث الألفاظ والمعاني والعلل، فاهتم بأسرار الشّريعة ومقاصدها (من جهة وضع الشريعة ابتداءً، ووضع الشريعة للإفهام، ووضع الشريعة للتكليف، ووضع الشريعة للامتثال)، كما وضع منهجًا لاستقراء طرق معرفة المقاصد، أو طرق الكشف عنها، والاستقراء هو استخلاص القواعد من الأحكام الجزئية. 
يقول إبن عاشور في مقدّمة كتابه «مقاصد الشريعة»: «وقد توسَّع الإمام الشاطبي في مقاصد الشريعة بعد أن كانت مغمورة يشار إليها في مباحث العلة في القياس، أو كانت «خبايا في بعض مسائل أصول الفقه، أو في مغمور أبوابها المهجورة... ترسب في أواخر كتب الأصول، ولا يصل إليها المؤلفون إلا عن سآمة... فبقيت ضئيلة ومنسية»؛ 
سار الشاطبي في بحثه على نهج مركّز من التفصيل والتدقيق والتجزئة، في بسط المقاصد وتحليلها وبيان مسالك الكشف عنها، ودرجة حجيتها قطعا وظنا. وقسم المصالح إلى ثلاث درجات أعلاها الضرورية ثم الحاجية ثم التحسينية، بحيث تعد التحسينية مكملة للحاجية ولا تعود عليها بالإبطال، والحاجية مكملة للضرورية ولا تعود عليها بالإبطال، لأن المحافظة على الأصل أولى من المحافظة على التكملة.
يقول الدكتور حسن حنفي في حديثه عن الشاطبي: «فإذا ما تَمَّت تنقية مقاصد الوحي، وتحويلها إلى مقاصد المكلف، أمكن أن يصبح الوحي نظامًا مثاليًّا للعلم من خلال فعل المكلَّف، وبالتالي تحقيق خلافة الله في الأرض من خلال المكلف، وعلى هذا النحو يكون علم أصول الفقه هو علم (التنزيل) الذي يستنبط الأحكام الشرعية ويتجه من الله إلى الإنسان، وفي هذه الحالة يكون علم أصول الفقه هو العلم الذي يعطي للمسلمين ما يحتاجون إليه في عالَمِهم هذا وفي عصرهم هذا»؛ (حسن حنفي، دراسات إسلامية).
حدد الشاطبي غاية العلم في مرضاة الله عز وجل، معتبرا أن ذلك هو الأصل في طلب العلم. وحجته في ذلك؛ أن العلم يُعزّزُ الإيمان بالله وبما أنزل على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام. فمقاصد الشريعة - بحسب الشاطبي - «ضرورية وحاجية وتحسينية». أما أهداف العلم، فلا تخرج بحسبه عن «جلب المصالح ودفع المفاسد»، مع التأكيد على أن مصالح الدنيا تُعرف بالنظر إلى الآخرة؛ لأن المصالح الدنيوية «غير محضة، بل تُخالطها المفاسد، والعكس بالعكس وهذا يبعث على اختلاف الآراء والاجتهادات، مما يدعو إلى ضرورة محاورة الخصم وعدم التسرُّع في الحكم عليه، لأن الاجتهاد لا يقتضي الاتفاق (ضرورة)».
ألّف الشاطبي عدّة كتب ومؤلفات أهمّها كتاب الاعتصام، وكتاب الموافقات في أصول الفقه، وسماه (عنوان التعريف بأصول التكليف)، وله أيضاً كتاب في الفتاوى، عالج فيه مشاكل عصره، وله أيضاً شعر، وإن كان شعره محدوداً، وأيضاً من مؤلفاته (شرح رجز ابن مالك في النحو الألفية)، و(شرح جلي على الخلاصة) في النحو في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف مثله، وله كتاب المجالس، شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري، وله كتاب الإفادات والإنشادات فهو محقق وموجود.
وحول كتاب الموافقات يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: «لقد بنى الشاطبي بهذا التأليف هرمًا شامخًا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يُشرِف منه على مسالكَ وطرقٍ لتحقيق خلود الدين وعصمته، قلَّ مَن اهتدى إليه قبلَه 
توفى الإمام «الشاطبي» يوم الثلاثاء الثامن من شهر شعبان سنة790هـ بغرناطة، وبذلك يكون قد عاش أكثر من سبعين عاماً قضاها -رحمه الله- في رحاب العلم مكافحاً صابراً في طلب العلم، ونشر الحق.