في الصميم

بقلم
مختار العياري
المشروع الثقافي الوطني
 توطئة 
يعتبر المشروع الثقافي الوطني ركيزة النّهضة الحضاريّة المنشودة التّي انطلق العمل على تحقيقها منذ نشأة الحركة الإصلاحية في القرن التّاسع عشر لمواجهة الغزو الثّقافي والاستلاب الحضاري واعتماد الثقافة العربيّة الإسلامية كأساس لتطوير المجتمع. ثمّ جاءت الفترة الاستعماريّة فعملت على نشر الثّقافة الغربيّة واعتمادها كنموذج لتطوير المجتمع العربي والإسلامي وتأهيله لمواكبة الحضارة والحداثة. وفي هذا الإطار ومنذ الاستقلال سنة 1956، انقسمت النّخبة الثقافيّة في تونس إلى :
* تيّار ليبرالي يسعى إلى اعتماد الثّقافة الغربيّة واللّغة الفرنسيّة كأساس لتطوير المجتمع باعتماد كلّ الأساليب المتاحة.
* تيّار ماركسيّ يدعو إلى اعتماد الحداثة والحضارة الغربيّة كأساس لمواجهة الاستعمار الغربي من جهة وتيّارات المحافظة على الهويّة العربيّة الإسلامية من جهة أخرى.
* تيّار يتّخذ من الوحدة العربيّة واللّغة العربيّة والتاريخ المشترك والحضارة العربيّة الإسلاميّة كأساس لمواجهة الاستعمار والصهيونيّة والقوى الرّجعيّة والظّلاميّة لتحقيق النّهضة العربيّة المنشودة.
ثمّ جاءت الحركة الإسلاميّة بعد فشل التّيار الليبرالي وتيّار الوحدة العربيّة في تحقيق النّهضة المنشودة لتدعو إلى التّمسّك بالخصوصيات الحضاريّة لتونس في بعدها العربي والإسلامي واعتماد قيم الحداثة والدّيمقراطيّة والمواطنة إلى أن جاءت الثّورة التّونسيّة (17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011) لتؤسّس لقيم الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، وتوّج هذا الحدث الوطني وما حقّقه من إشعاع على المستوى العربي والدّولي بإعداد نصّ الدّستور كوثيقة ثقافيّة تعبّر عن الفكر الإصلاحي الذّي انطلق منذ القرن التّاسع عشر مع التّأكيد على الهويّة الحضاريّة لتونس في بعدها العربي الإسلامي وانفتاحها على القيم الكونيّة ولا سيما حريّة الرّأي والتفكير والإعلام والنّشر بالإضافة إلى قيم الدّيمقراطيّة والمواطنة وحقوق الإنسان.
والمطروح اليوم إعداد مشروع ثقافي وطني يعمل على تفعيل مبادئ الدّستور ويرتكز على مشروع إصلاح سياسي ومجتمعي وتفعيل ثورة ثقافيّة في مستوى الأفكار وفي مستوى الممارسة والسّلوك واعتماد فكر نقديّ يواجه تحدّيات العولمة بتملّك أدوات المعرفة والاستثمار في المجال الثقافي من أجل بناء المستقبل على أساس ثقافي فاعل يحقّق السّيادة والاستقلال.
I- الواقع الثّقافي في تونس
 لقد اعتمدت دولة الاستقلال سواء في فترة بورقيبة أو في فترة بن علي سياسة التّحديث القسري بتعلّة اللّحاق بركب الشّعوب المتقدّمة واعتماد مؤسّسات ثقافيّة محدودة الإمكانيات الماديّة من فضاءات وتجهيزات ونقص التّشريعات ومحدوديّة الموارد البشريّة بالإضافة إلى ميزانيّة لا تبلغ 1 % من ميزانيّة الدّولة ممّا جعل الخيارات الثّقافيّة لا تفي بحاجيات البلاد ولا بتطلّعات المثقّفين والمبدعين.
و قد تميّزت أساسا بـ :
- الفقر الثّقافي في الجهات وغياب الأنشطة الثّقافيّة في عديد الجهات و انتشار التصحّر الثّقافي.
- نقص التّشريعات المنظّمة للقطاع الثقافي وعدم مواكبتها للتّحوّلات التّي تشهدها مختلف المجالات الثّقافيّة.
- غياب مشروع ثقافي وطني (ثورة ثقافيّة) يعمل على تأطير الحراك الثوري ويسعى إلى تفعيل استحقاقاته.
- ضعف تأهيل المؤسّسات الثقافيّة في مستوى البناءات وفي مستوى التجهيزات وفي مستوى الأنشطة الثّقافيّة.
- ضعف الميزانيّة المخصّصة لتمويل الأنشطة الثّقافيّة في الجهات وانعدام التوزيع العادل لميزانيّة دعم الأنشطة الثقافيّة بين مختلف الجهات.
- غياب المشروع الثقافي في برامج الأحزاب السّياسيّة.
II- الرّهانات و الخيارات
إنّ انجاز المشروع الحضاري لتونس يتطلّب اليوم تحقيق ثورة ثقافيّة تسعى لتفعيل استحقاقات الثّورة وبناء المشروع الثقافي الوطني بمشاركة كلّ الفاعلين في الحقل الثّقافي ولا سيما الشّباب والمبدعين.
والثّقافة التّي ينبغي العمل على إرسائها هي ثقافة جديدة تعتمد الحريّة في مواجهة الاستبداد والخصوصيّة الحضاريّة والموروث الثقافي في مواجهة التبعيّة والاستلاب الحضاري.
وهي ثقافة حديثة وثوريّة تعتمد :
- بناء الوعي (الإنسان الشّاهد على عصره)
- الفاعليّة (الإنسان الفاعل في واقعه)
- التنوّع الثّقافي (الانفتاح والتفاعل مع الثّقافات الأخرى)
- بناء مشروع مجتمعي يعتمد الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ويكرّس ثقافة القيم الكونيّة التّي تؤسّس للحريّة والديمقراطيّة والمواطنة وحقوق الإنسان والتنوّع الثّقافي وحقّ الاختلاف.
- ثقافة تؤسّس لمنوال تنموي يعتمد مبدأ الرّجل وحاجته والرّجل وبلاؤه لتحقيق الاستقلالية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة.
- ثقافة المستقبل والمعرفة والفكر العلمي والنّقدي من أجل تطوير المجتمع وتحقيق البناء الحضاري لتونس.
III- المشروع الثّقافي الوطني
يرتكز المشروع الثّقافي الوطني على الرؤية الثّقافيّة وعلى آليات ووسائل ومجالات لإنجازه، ثمّ تحديد النّخبة الفكريّة والثّقافيّة المعنيّة بصياغة ملامحه وأبعاده وتعبئة الجماهير على مبادئ ومقوّمات المشروع وأخيرا صياغة خطّة إعلاميّة لتسويقه.
• الرّؤية الثّقافيّة
وتعتمد على صياغة تصوّر ثقافي يقوم على وعي عميق بقيم الثّورة كإنجاز مشترك وأساس واعد وركيزة لحداثـــــة ثقافيّـــة وإبداعيّة تؤسّس لحداثة سياسيــــّة ومجتمعيّة قــــادرة على تحقيق التّعايـــش السّلمي وإدارة الحـــوار الإيجابــــي بين النّخــب الفكريّــــة والثّقافيّة في تونس، ذلك أنّ الثّقافـــة أداة التّواصل بين البشر.
- إجراء دراسات و بحوث نقديّة للثقافة الإسلاميّة وللفكر الإسلامي لتأصيل المفاهيم وتكريس قيم الكرامة والحريّة والعدل قصد تحقيق الاستقلال والسّيادة والتفاعل الإيجابي بين الثّقافات ومقاومة الهيمنة والاستعمار والغزو الثّقافي.
- فتح آفاق واعدة للحداثة الثقافيّة المرتكزة على التناغم و التفاعل بين روحانيّة القيم الفنيّة وجماليّة القيم الإسلاميّة من أجل إرساء آفاق جديدة للإبداع والثّقافة.
- صياغة التصوّرات والخيارات ورسم الخطط بمشاركة كلّ الفاعلين في الحقل الثّقافي ولا سيما الشّباب والمبدعين والمثقّفين والمفكّرين.
• الآليات و الوسائل و مجالات المشروع 
- إقامة فضاءات حوار وحلقات نقاش حول المشروع المجتمعي والقيم المعتمدة لإرسائه بمشاركة المفكرّين و الفاعلين في الحقل الثّقافي.
- إجراء بحوث ودراسات وإقامة حلقات نقاش وحوارات حول المنوال التنموي الذّي يحقّق الاستقلالية الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة باعتبار أنّ الثّقافة هي ركيزة التنمية تعمل على تسويق الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعية عبر مختلف التعبيرات الثّقافيّـة والسّعي إلى التعريف بها وتقييمهـا وإثرائها باعتبارها تؤسّس للمشروع الحضاري لتونس.
- إيجاد شراكة بين مختلف الوزارات لجعل المشروع الثقافي شأنا وطنيّا يساهم مختلف أفراد المجتمع في تحقيقه.
- بناء إستراتيجية ثقافيّة تعتمد على الشّراكة بين الدّولة والفاعلين الثقافيّين في كلّ المجالات وفي مختلف الجهات من أجل إرساء مشروع ثقافي يؤسّس لقيم الحريّة والمواطنة ويحافظ على الخصوصيّة الحضاريّة لتونس من أجل بناء الإنسان الشّاهد على عصره والفاعل في واقعه ويستشرف المستقبل من أجل تطوير المجتمع وتحقيق طموحاته وآماله.
- سنّ التشريعات المنظّمة للقطاعات الثّقافيّة وتحيين النّصوص الموجودة وتطويرها لضمان فاعليّة الأنشطة الثّقافيّة وجعلها مواكبة لمتطلّبات المشروع الثقافي الوطني.
- تفعيل النصوص المتعلّقة بالثقافة في الدّستور قصد تطوير القطاع الثّقافي وتحقيق اشعاعه وجعله ركيزة البرامج التنمويّة لتونس.
- دعم المؤسّسات الثّقافيّة والجمعيّات الثّقافيّة ماديّا وأدبيّا وتوفير التمويلات اللازمة لإنجاح برامجها وأنشطتها باعتبارها ركيزة المشروع الوطني.
- مضاعفة ميزانيّة وزارة الثّقافة قصد تأهيل المؤسّسات الثّقافيّة ودعم الأنشطة والبرامج ولا سيما في الجهات المهمّشة في إطار تفاعلي مع مختلف العاملين في الحقل الثّقافي وتشريكهم في صياغة المشاريع الثّقافيّة وآليات تمويها.
- تفعيل دور المجلس الأعلى للثّقافة وجعله منتخبا من كلّ القطاعات والجهات وجعله يشارك بفعاليّة في رسم التصوّرات والخيارات الثّقافيّة.
• النخبة الفكريّة و الثّقافيّة المعنيّة بصياغة ملامح المشروع و مضامينه
إنّ إعداد مشروع ثقافي وطني يلبّي تطلّعات المجتمـــــع التونســــي للحريّـة والكرامة والعدالة الاجتماعيّـة يتطلّب تشريك الباحثيـــن والدّارسين في مجالات الفكــر والأدب والعلـوم الاجتماعيّة والاقتصاديّـــة والحضاريّــــــــــة والعلميّـــــــة ثمّ المختصّين في مجال تكنولوجيا المعلومات بالإضافة إلى المبدعيــــــن والفنّانيــــن وكلّ الفاعلين في الحقل الثّقافي ولا سيمــــا الشّباب والمرأة ثمّ رجال الإعلام والسياسيّين من مختلف التيّارات الفكريّة باعتبارهم معنيين بالمشاركة في الخيارات الوطنيّة والعمل على تنفيذها وتحسين أدائها وتطويرها.
• التعبئة و التأطير الجماهيري
إنّ نجاح المشروع الثقافي الوطني يتطلّب التعريف به وإقامة الحوار حول مضامينه وآليات تنفيذها وسبل تطويره قصد إيجاد الطرق الكفيلة يتبنّى القيم والمفاهيم المعتمدة وجعل التعبيرات الثقافيّة في المسرح والسينما والموسيقى والأدب والفكر والفنون التشكيليّة أداة لتسويقها والتعريف بها في تونس والخارج من أجل تحقيق الإشعاع الحضاري والثقافي المأمول تحقيقه.
• الخطّة الإعلاميّة المعتمدة لتسويق المشروع
إنّ ضمان إنجاز المشروع وتفعيله وتطويره رهين خطّة اتصاليّة لتسويقه في تونس والخارج في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية وفي المواقع الالكترونيّة وفي فضاءات التواصل الاجتماعي قصد التعريف بالمنتوج ومختلف التعبيرات الثقافيّة في مجالات الإبداع الأدبي والفكري وفي السينما والمسرح والموسيقى والفنون التّشكيليّة ثمّ العمل على تسويقها وتقييمها وتطويرها.
• اعتماد خطّة لتمويل المشاريع الثّقافيّة
إنّ المشاريع والبرامج الثّقافيّة تتطلّب اعتماد خطّة لتوفير التمويلات اللاّزمة لانجازها وتسويقها في إطار من التعاون بين وزارة الثّقافة ومختلف الوزارات ومختلف الفاعلين في الحقل الثقافي باعتبار المشروع الثقافي يسوّق للمشروع التنموي والاقتصادي لتونس.
• مقترحات و توصيات لإنجاح المشروع
- ضمان حريّة التعبير والإبداع.
- ترسيخ مبادئ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة مع الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الأخرى من أجل بلورة الكوني والإنساني.
- تكريس قيم الحريّة والديمقراطيّة من خلال كلّ تعبيرات الإبداع الثّقافي والابتكار.
- مراجعة القوانين الخاصّة بالاستثمار في المجال الثّقافي.
- تنظيم ندوات وحلقات نقاش حول مختلف القطاعات الثّقافيّة من مسرح وسينما وموسيقى.
- مراجعة المهرجانات الثّقافيّة وتحقيق العدالة في توزيعها بين مختلف الجهات وتوفير التمويلات اللاّزمة لإنجاحها وتطويرها.
- العمل على تطوير البنية الأساسيّة للمؤسّسات الثّقافيّة بالتعاون بين وزارة الثّقافة والمؤسّسات الاقتصاديّة ورجال الأعمال.
- اعتماد مهرجان ثقافي سنوي للتعريف بمختلف الفعاليات الثقافيّة المنجزة في تونس.