في الصميم

بقلم
البشير ذياب
العرب والسياسة ...تأهيل غرف القيادة.
 ياسي التاريخي تعاني من تشوّهات في تعريف مفاهيم مصطلحات السّلطة والدّولة والمواطنين والرّعايا والحقوق والواجبات...، هذه المفاهيم السّياسية والإجتماعيّة والفكريّة لا يمكن أن تترسّخ من تلقاء نفسها لدى العامّة، أو بمبادرات فرديّة أو جمعياتيّة، وإنّما يفترض أن تكون النّخب السّياسية والفكريّة والثقافيّة هي القاطرة لأيّ حركة حضاريّة إجتماعيّة لأنّ المجتمعات لا ترتقي حضاريّا من تلقاء أنفسها، وإنّما يكون رقيّها بقيادة نخبها، لذلك نجد التّاريخ العربي حافلا بتدجين وهرسلة النّخب من المفكرين والمبدعين من غير المؤمنين بقداسة السّلطة.
بعد موقعة « شارع بورقيبة» هذا الفاعل التّاريخي أيّا كان تعريفه، ثورة أو إنقلابا أو ربيعا عربيّا أو خريفا إسرائيليّا، هو قبل كلّ شيء زلزال في الوعي العربي، سيعيد تشكيل خارطة العالم من جديد وأيّا كانت قوّة المخابرات الغربيّة وجيوشها وأسلحتها الوحشيّة والناعمة لن تتحكم في مآلات هذا الزّلزال بقدر ما ستتحكّم به الطّريقة التي سيعاد من خلالها تشكيل الوعي العربي بعيدا عن حسابات الرّبح والخسارة بالمفهوم الغربي لأن الخلفية العربية التي تدار من خلالها الحرب في سوريا والعراق واليمن مختلفة تماما عن الخلفية العربية، فالهدف الذي تدار من أجله الحروب بالنّسبة للغرب هو الإنسان أو المواطن الغربي وبالتّالي رفاهيته ومتعته وكرامة عيشه، هذه المعايير وغيرها المتعلّقة بالإنسان الغربي هي التي ستحدّد مدى تحمّل الغرب وقدرته على خوض المعركة وعلى قدرة التّحكم بخيوطها، أمّا بالنّسبة للهدف من المعارك العربيّة فإنّها السّلطة، أمّا عدد القتلى من البشر فهو تفصيل لا تجده إلاّ في كتب التّاريخ وتجده أيضا رقما مبهما مثل « قتل فيها خلق كثير»، يقول إبن كثير مثلا في كتاب البداية والنّهاية عن موقعة الجمل بين علي وعائشة، «...وجعلت الحرب تأخذ وتعطي، فتارة لأهل البصرة وتارة لأهل الكوفة، وقتل خلق كثير وجم غفير، ولم تُر وقعةٌ أكثرُ من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة، وفي موقع آخر يقول عن نفس هذه المعركة، وقد قدّمنا أن عدد القتلى نحوٍ من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يُحصَوْن كثرة...إنتهى» أريد فقط أن أشير أن قادة الجيشين المتحاربين وجنودهما هم من الصّحابة أي تخرّجوا من أرقى مدرسة لحقوق الإنسان عرفها التاريخ/ مدرسة محمّد، والإشارة الثّانية أن أسلحتهم كانت أسلحة مؤمنة سيوفا ورماحا وخناجر، فماذا لو توفّرت لهم أسلحة متطوّرة كافرة أمريكيّة أو روسيّة ؟
 يومها كان أحد الجيشين على حقّ والآخر على باطل، ومن كان منهما على باطل لا يمكن أن يكون قد خاض الحرب من أجل مصلحة المسلمين بل من أجل السّلطة والقبيلة. ومن يواصلون نفس تلك الحرب اليوم كلاهما على باطل لأنّها فتنة يحرّك خيوطها شياطين الإنس شرقا وغربا يستثمرون في دمائنا وأشلائنا لأنهم قرؤوا تاريخنا وخبروا مواقع الخلل في وعيينا وإدراكنا فزادوا على جروحنا ملح المذهبية والتكفير .   
عندما أقرأ عن موقعتي الجمل وصفين أحسّ حقيقة بالإكتئاب، ولذلك فإنّنا لا نستغرب الوحشيّة التي نراها اليوم، ولكن ما نستغربه هو أنّ من ينظّر لهذه البشاعة في الإستهانة بأرواح النّاس هو من يدّعي أنه الطّرف الوحيد المحتكر للدّيمقراطية والحداثة والمُدافع الحصري عن حقوق الإنسان، وفي الغرف المظلمة لا يرى مانعا من سحق عشرين ألفا من مواطنيه كي يزيح منافسه من السّلطة ليتربّع هو على عرشها، لذلك قلت ولا أزال أنّ الأحزاب السّياسية قبل المجتمع، يجب أن تُخضع قادتها ومنتسبيها لمرحلة تأهيل نفسي طوعي، تسمّيه مراجعة أو مصارحة أو مطارحة لا يهم، المهم هو أن تجلس الأحزاب لتفتح تاريخ مرجعياتها الفكريّة المثخن بالدّماء من أجل السّلطة والتّحكم برقاب النّاس طوعا أو هم كارهون، سواء من الإسلاميين أو من اليساريين الذين لا يقل تاريخهم بشاعة عن الإسلاميين، فقد أثبت التّاريخ أنّ الشعارات التي رفعوها في ثوراتهم تنكّروا لها بعد أن وصلوا للسّلطة وكانت إشتراكيّة في الفقر للمواطنين وسيارات فارهة وبذخا للحكّام إلاّ أنّ في بلادنا بدأت السّيارات الفارهة وهم لا يزالون في المعارضة.
لا يمكن تحقيق النّهضة الإنسانية بمجالاتها الفكريّة والعلميّة والثّقافية والفنيّة ... دون أن يكون الإنسان كقيمة ثابتة هو محورها الأساسي في إنتاجها وفي مآلاتها، ولا يمكن للإنسان أن يكون قادرا على الإنتاج الحضاري دون أن يكون حرا طليقا محترما آمنا في نفسه وماله وأهله...، ولا يمكن أن يتحقق هذا صدفة، بل يتطلب قيادة سياسية قادرة من خلال برامجها الإستراتيجية على تحقيق هذه البنى التحتية الثقافية والفكرية والإجتماعية في كوادرها وإطاراتها أولا ثمّ في منتسبيها لتكون بعد ذلك قادرة على قيادة مرحلة أخرى من حياة الشّعب العربي تونسيّا كان أو ليبيّا أو مصريّا... بفكر جديد وثقافة جديدة متجرّدة من الموروث المشوّه للحكم والسّلطة.