قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
للعبقرية وجوه أخرى
 يجري الحديث عن العبقرية التونسية في استنباط الحلول كلما دخلت البلاد أزمة سياسية، وكذلك الشأن عند الحديث عن النّجاح الملفت للتّجربة التّونسيّة فى الانتقال السّياسي بالبلاد من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة التّداول السّلمي على السّلطة ومن مرحلة الحكم الفردي إلي مرحلة الحكم الخاضع لإرادة النّاس واختيارهم .
لا يختلف اثنان حول تفرد النموذج التونسي رغم ما يمكن أن يقال عن هذا التفرد سلبا وإيجابا، غير أن هذا التفرّد وهذه العبقريّة تكاد لا ترى فى مواجهة استحقاقات ما بعد الثّورة من تنمية وتشغيل وثقافة وغير ذلك ممّا كان من المفترض أن تطاله يد الثّورة منذ قيامها وبعضه من الأولوياّت كالتّشغيل مثلا .
فهل العلّة فى هذه العبقريّة التى تحضر كلّما تعلّق الأمر بالسّياسة والأحزاب وتغيب إذا تعلّق الأمر بالمواطن وشأنه؟ أم العلّة فى غياب البرامج والمقاربات عند الأحزاب وعند الأطراف الاجتماعيّة على حدّ السّواء؟ أم العلّة فى غياب الإرادة أصلا فى مواجهة هذه الاستحقاقات أو تأجيلها إلى حين آخر لا يعلم إلا الله وحده متى يحين؟. ولماذا هذا التردّد والمراوغة ونحن أمام معضلات اجتماعيّة واقتصاديّة تنمويّة لا مجال للتّهرب منها إن كنّا نريد حقّا أن نعبر إلى مرحلة ما بعد الثّورة متسلّحين بأدوات فاعلة تجعلنا مطمئنّين إلى أن عبقريتنا السّياسية ليست توليفة مركّبة للخروج من أزمة سياسيّة وإنّما هي سفينة نجاة من الاحتراب والقلاقل والتشضّي وغيرها ممّا يهدّدنا بين حين وآخر.
طرحت الثورة تحدّيات لا حصر لها على المجتمع برمته، وعلى نخبه وأحزابه والفاعليين فيه، ولكنّنا للأسف فشلنا فشلا ذريعا في مقاربة أهمّ المسائل المطروحة ولم نستطع بعد أن نحسم جملة من الاشكاليّات التى طفت مع الثّورة بعد أن تمكّن النّظام من إخراس الألسن ومنعها من تناول كلّ ما يتعلّق بهذه الاشكاليّات مكتفيا بوجهة نظره التى قادت البلاد إلى الكارثة.
مشكلة البلاد لا يمكن اختصارها فى الانتقال السياسي ولا فى مقاومة الارهاب، ومن العبث السّكوت عن غيرها من المشكلات بأيّ حجّة ولعلّنا نستطيع أن نؤكّد أنّ المسألة الثّقافية والمسألة الدّينية والمسألة الاجتماعيّة تعتبر كلّها مجتمعة أو متفرّقة من المسائل التى ينبغي أن يقع تناولها بشكل تفصيلي ومن طرف كلّ الفاعليين فى المجتمع من أدنى السّلم إلى أعلاه وأن يجري تفكيك هذه المسائل وإخضاعها للبحث وتطوير مقاربات جديدة بشأنها تقطع قطعا نهائيّا مع مرحلة الاستبداد وما عانته من انغلاق وتحريف لتنسجم الأطروحات الجديدة مع روح الثّورة وما تعنيه من انفتاح وجدّية ورغبة فى التّأسيس لمشروع مجتمعي أساسه النّهوض بالمجتمع والدّولة على حدّ السّواء على قاعدة الانسجام والتّدافع لا على أساس الصّراع والتّدمير.
و لئن هيمن السّياسي والايديولوجي على الجميع فى ما سبق، فإنّ علينا من هنا فصاعدا أن نولّي قضايانا ما تستحق من اهتمام بعيدا عن الصّراع الايديولوجي الجانح نحو تزييف الحقائق وبعيدا عن التناول السّطحي لوسائل الإعلام المأدلجة .
إنّ المسألة الثّقافية مثلا ليست مسألة هيّنة ولا هي ممّا يمكن تركه لمحترفى التّزييف أو لأولائك المنبتّين أو المعطوبين فكريّا ممّن يعانون عقدة الهزيمة أو عقدة الانبهار تجاه الغرب أو الشّرق وإنّما هي من المسائل التى يجب العمل عليها ليلا ونهارا من أجل إنتاج ثقافة جديدة تتخلّص من شوائب الاستبداد والاستلاب الحضاري وتعيد بناء إنسان جديد مثقّف ثقافة حديثة ثوريّة غير منبتّة عن سياقه الحضاري تجعله قادرا على المساهمة الفاعلة فى الدّفع بالبلد نحو أرقى درجات النّمو والتطور.
كثيرا ما يتناهي إلى أسماعنا الحديث عن رسوخ أقدامنا في الحضارة وعن كوننا بلد الثلاثة آلاف سنة من الحضارة التى تمتدّ من قرطاج إلى يومنا هذا، وكلّ هذا لا هدف له سوى محاولة تزييف الوعي المجتمعي بأصولنا الفاعلة فينا من جهة وتزييف حقيقتنا الحضارية من جهة أخرى إذ لم يبق للقرطاجنيين أو للوندال أيّ أثر حضاري أو تأثير في ثقافتنا، فنحن عرب مسلمون إنتماء وثقافة ومصيرنا مرتبط  بمصير إخواننا من العرب والمسلمببن وسوف تظلّ محاولات الإلحاق الحضاري تسير على قدم وساق من طرف أعدائنا غير عابئين بما تبذله قوى الممانعة لهذا الإلحاق من جهد في المقاومة والتّصدي لكلّ أصناف التّشويه لثقافتنا عبر تمييع مرتكزاتها الحقيقيّة أو عبر محاولة إيهامنا بأنّ جذور ثقافقتنا هي السّبب في تخلّفنا منذ قرون.
إنّ معركة الثّقافة ليست معركة المترفين فكريّا، ولا هي من قبيل صناعة الأعداء الوهميّين أو خوفا من الغزو الحضاري كما يتوهّم البعض، ولكنّها معركة في سبيل إنقاذ التّجربة الثّورية الجديدة من كلّ ما يتربّص بها من مخاطر عبر افتعال الحروب الوهميّة أو عبر المحاولات المستميتة التى تجري بلا هوادة لشقّ المجتمع إلى نصفين متضادّين ، مختلفين حول هويّة البلد وحول السّياق الحضاري الذي يجب أن تتمّ فيه إعادة البناء. 
لن يكون بوسعنا أن نبني بناء شامخا دون هدم ما ترهّل ودون الحفر عميقا لوضع الأسس، ومن ثمّ فلا مناص لنا من نبش الموروث الدّيني وتخليصه من كلّ ما علق به من شوائب ونحن واعون تماما بأنّ معركة الثّقافة لا يمكن أن تخاض في مناخ تسود فيه عقليّة دينيّة محافظة مربكة تحطاط من أيّ جديد وتعلي شأن القديم حتّى كادت تنتج إنسانا يمشي إلى الخلف، وكذا فإنّ هذه المعركة لا يمكن أن يخوضها أناس لم يحصلوا على الحدّ الأدنى من ضرورات المعرفة أو ضرورات الحياة. 
إن معركة بهذا الحجم سوف يتداخل فيها الثّقافي مع الدّيني ومع الاجتماعي أيضا وهي ليست معركة المثّقفين وحدهم ولا هي معركة السّياسيين وإنما هي معركة النّاس، كلّ النّاس. نحتاج من أجل النّجاح فيها إلى رهان على الإنسان في بعده الشّامل دينا ودنيا وتلك هي العبقرية الحقيقية.