تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صمت ابن خلدون
 أيّها الشّيخ الجليل، صاحب البرنس الأخضر والعمامة المتواضعة أندلسية بل لا شرقية ولا غربية، يا حارس «باب البحر» نبض المدينة ويا وريث موقع قدمي الكاردينال «لافيجري» ركّزته الكنيسة حارسا لها لعقود طويلة حاملا إنجيلها ومركّزا الصليب بشعابنا، هل حدّثتنا عن ما يحدث بجواريك يمينا وشمالا وهل عرّفتنا بمن يشغّل الدمى والعرائس المتحركة على خشبة المسرح أمامك غير بعيد عن ناظريك متطلّعا الأفق البعيد وراء البحر.
أيّها الشّيخ الجليل، أبمشيئتك اعتليت المنصّة وجعلت الخلق عند أقدامك تقرأ عليهم مقدّمتك في زمن لا يروم أصحابه الكتاب، أم انتقاما منك وعقابا لكلّ عالم سمّرك أهلك تلتهب تحت أشعة الشّمس صيفا وينقر البرد أعضاءك شتاء. ألا خلعت عنك ذلك البرنس الخشن الذي لم يعد يقيك حرّ الشّمس ولا بلل المطر وهل آويت إلى مثواك تحت لَحْد آمن لتهدأ وتهنأ.
كثيرون يحومون من حولك ولا يدركون قدرك. غريب أنت بينهم.
مررت بك نهارا، فوجدتك منشغلا بروائح الشّواء تتسرّب من كلّ شوارع المدينة إلى طيّات برنسك البالي وتغمر لحيتك وتُدمِع عينيك، وفي صبر وبعناية تسجّل كلّ ما يدور من حولك وأنت العارف أكثر من غيرك توثيق الأحداث ونقل الأخبار. فكم رجل سألت واستخبرت؟ وكم شاب استوقفت وحادثت وكم امرأة ولولت فشهدت نضالها وجرأتها وكم مراوغ حام حولك يحمل راية لعلّك توقّع له بطاقة حضور يحتاجها كما يحتاج  لشهادة طبّية رخيصة أغلى من موقّعها ولا أرخص ممن برّر بها غيابه . 
ومررت بك ليلا فوجدتك في يقظة تراجع في خشوع ما سجّلت بالنّهار وتصغي بكل انتباه إلى ما تحمله النّسائم من أسرار ما خلف السّتائر ووراء الجدران. فكم أنّات سمعت؟ وكم دموع مسحت؟ وكم سكْرى بالوا حذوك؟ وكم شارد بات عندك ؟ رأيتك على أشعّة فوانيس الشّارع الكبير تحصي خنافس اللّيل عددا وتستشعر مواسير المدينة لتعدّل على نبضها دقّات ساعة الزّمن الغابر. 
يا صاحب العين ساهرة لا تنام والأذن مترصّدة لكلّ كلمة وحركة ويا حامل القلم والقرطاس، لماذا أنت اليوم صامت؟ 
احذر أيّها الشّيخ من صمتك المتآمر أنت الذي صرتُ أخشى عليك من طمس حقيقة ما يجري تحت ناظريك وخلف مسامعك. لا أظنّك لم تدوّن شهادات من تململ بقلب منقبض يستنكر فرحة الحياة عند من سواه. لا أظنّك لم تدوّن من أشعل الفتيل ولا من سكب الزّيت. ولا أظنّك لم تسترشد ولم تحقّق ولم تدقّق في القنّاص ولا كيف صارت «ثورة» ولا من قادها ولا من خلفها. ولا أظنّك لم تتعرّف على أعداءها. قل لي وشوشة فلا أحد يسمعنا، من هم حقيقةً الانقلابيين ؟.
لا تقل أنّك لم تر شيئا ولم تسمع شيئا لأنّه لا أحد يصدّق كلامك، أنت المؤرّخ العلاّمة والمرجع وواضع الأسس لعلم الاجتماع. أنت المحقّق في التّفاصيل والقائل «التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق».
احذر أيّها الشّيخ فلا ينفعك صمتك ذو الدلالات والمعاني وإنك بين ناريْن كلاهما أشد سعيرا. وإني لأخشى عليك يا شيخي المبجّل من الكلام بقدر ما يقلقني صمتك. ولا ينتظر منك الكلام إلاّ أبله ومعتوه ولكنّهم سيحاسبونك على صمتك المنحاز للآخر. فلا تنسى موقعك عن من ورثته ولا تنسى الفارس الذي نصّبك وعلى جواده غادر الحلبة. وفي كلّ الأحوال، ليمرّنّ عليك أحدهم في جلباب إبراهيم عليه السّلام ويكيدنّ صنمك بعد أن يولّوا نائمين ويجعلك جذاذا. أم تظنّ كما أظنك الكبير الذي إليه لعلّهم يرجعون.
----
- مهندس
chahed@meteo.tn