نقاط على الحروف

بقلم
محمد الغمقي
الاسهام الإسلامي الحضاري في الغرب حاضرا ومستقبلا (2)
 (2) تحقيق التقارب الثقافي والحوار الحضاري
إذا علمنا أنّ تحقيق التقارب الثقافي والحوار الحضاري بين العالمين الإسلامي والغربي يعتبر من مقومات النهضة الحضارية العالمية حالياً وفي المستقبل؛ فإنّ الحضور الإسلامي في أوروبا وفي الغرب يمثّل جسر علاقة العالم العربي الإسلامي بالعالم الغربي. وتعتبر الطليعة المسلمة المثقفة المحرّك الأوّل الدافع إلى التصالح بين الثقافتين والحضارتين، والعامل الأساس في نزع فتيل الصراع الحضاري، الذي تتمناه العديد من الدوائر السياسية والفكرية، وتسعى إلى تحقّيقه بكل ما أوتيت من جهد. 
ويكون الإسهام الحضاري للمسلمين في هذا المجال ذلك بـ:
2-1 تصحيح النظرة إلى الطرف الآخر
إن تصحيح نظرة كل طرف للطرف الآخر هو المدخل الأساس للحوار الحضاري. ولا يتم ذلك إلا عن طريق التعارف المتبادل، لأنّه كما يقال « الإنسان عدوّ ما يجهل». والعديد من العداوات والخصومات ناتجة عن تراكم النظرة النمطية والأحكام المسبقة الجاهزة والموروثة.
إن دور المسلمين – والكفاءات من بينهم خصوصا- عظيم في تقليص أسباب التوتّر وسوء التفاهم بين العالمين الإسلامي والغربي عن طريق تصحيح الصّورة المشوّهة لكل طرف عن الطرف الآخر. فهذا الدور التصحيحي لا يوفّر مقومات وشروط التقارب الثقافي والحوار الحضاري إلا إذا تمّ في الاتجاهين. 
فالغرب بحكم اعتماد مبدأ التخصص في أصغر الجزئيات، لم يترك شاردة ولا واردة إلا وأعطاها اهتماما خاصّا. وهذا يعني أن القضايا التي تبدو خاصّة بواقع المسلمين وأسلوب تفكيرهم ونظرتهم للحياة، تخضع بدورها ومنذ عقود إلى التشريح والتّحليل والدّراسة المعمّقة في مراكز البحوث والجامعات، في إطار ما يطلق عليه البعض الاستشراق المعاصر نسبة إلى ظاهرة الاستشراق التّاريخية التي أفرزت أدبيّات تحمل في معظمها صورة سلبيّة عن الإسلام والمسلمين، تحوّلت إلى أحكام مسبقة وصور نمطية سائدة إلى اليوم، وتمثّل عائقا أمام الحوار الحضاري بين الطّرفين. 
ومن جانبهم، فإنّ المسلمين يحملون أحكاما مسبّقة فيها أحيانا شطط وتعميم، والمطلوب تصحيح الصّورة المشوّهة عن الغرب باعتماد مبدأيْ القسط والعدل.
3-1 إرساء نهج التدافع الحضاري
ويرتبط بتصحيح النظرة للآخر اعتراف كل طرف بالعطاء الحضاري للطرف المقابل دون أن يمنع ذلك من تقديم انتقادات علمية وموضوعية لسلبيات وأخطاء في المسار الحضاري. فمثلما أنّ أوروبا لا يمكنها أن تنكر العطاء الحضاري الذي قدّمه المسلمون للعالم - ولأروربا خصوصا- في الوقت الذي كانت تلفّها ظلمات القرون الوسطى، فإنّ على المسلمين أيضا الاعتراف بالدّور الأوروبي في النّهضة العالميّة على المستوى الفكري والتكنولوجي. ومثلما أنّ أوروبا تنتقد التّخلف الحضاري للمسلمين في القرون الأخيرة، فإنّ المسلمين ينتقدون نزعة الهيمنة والتّسلط والعدوان في التاريخ الأوروبي والتي عانى منها المسلمون خلال الحروب الصّليبية ومرحلة الاستعمار، وحتى بعد جلاء القوات الاستعماريّة بإحكام نظام تبعيّة القرار العربي-الإسلامي لمصالح القوى الكبرى المسيطرة حاليّا على القرار في العالم.  
وأكبر خدمة يقدّمها المسلمون اليوم في مجال الإسهام الحضاري هي رفع سقف الوعي بمدى ضرورة التّعامل بندّية بين مختلف الأطياف والمكوّنات الثقافية والحضارية في العالم، والتخلّي عن نزعة الهيمنة وحبّ السيطرة بالقوّة على مقدّرات العالم وثرواته وشعوبه. ولا تمنع الندّية في التعامل من التنافس ومن التدافع الحضاري بما يخدم مصلحة الإنسان ويعزّز حريته وكرامته. 
فالعالم أصبح بمثابة القرية الصغيرة، وكل طرف في حاجة إلى الطرف الآخر، من حيث تبادل الخبرات والمعارف وتحقيق الانفتاح الحضاري. 
(3) تحويل الإسلام إلى مطلب حضاري
ولا يتوقف الإسهام الحضاري للمسلمين عند مجال تصحيح التصورات وإصلاح العلاقات، وإنما يتجاوزه إلى بُعد أشمل وأوسع يتمثل في السعي من أجل تحويل الإسلام إلى مطلب حضاري. 
ولا غضاضة في الأمر ، فالتبشير بالأفكار يقوم به أصحاب كل الحركات والمذاهب والعديد من الأديان في العالم الغربي وخارجه. والمبشرون المسيحيون والبرهمانيون على سبيل المثال يجدون كلّ ترحيب وتقدير ودعم من جهات رسميّة وغير رسميّة في العالم، وليس هناك ما يمنع المسلمين من الدّعوة والتّبشير بدينهم، والحال أنّه يحمل رسالة رحمة لكلّ البشريّة - وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين – الآية.  
من ناحية أخرى، فإن العالم مرّ بتجارب كثيرة بحلوها ومرّها، وهو يعيش اليوم حالة من التوتّر واختلال التوازن بسبب الاضطراب في المرجعيات والقيم وسيطرة المادية على العقول، وهو بالتالي يبحث عن الطمأنينة والسعادة، اللتين لم ينعم بهما منذ أن نصّب الإنسان نفسه إلها في الأرض.  
وبالتزامن مع هذا الواقع، برزت ظاهرة العودة إلى التديّن، ولكنّها كانت أعمق وأوسع لدى المسلمين الذين مرّوا بقرون من الانحطاط والتخلف. وشدّ هذا الأمر انتباه العالم من حول المسلمين سواء كانوا في العالم الإسلامي أو أقليات في ديار الغرب. وأصبح الإسلام حديث الأوساط الإعلامية والسياسية والدينية والرأي العام في مختلف أنحاء العالم. وتطلعت الأنفس لمعرفة سرّ انتشار هذا الدين، وما لبثت العقول أن اكتشفت عظمة الإسلام وقدرته على العطاء وعلى تحقيق التوازن للفرد والاستقرار والسلم للمجتمع، على الرغم مما يقال هنا وهناك من تشويه للحقيقة الناصعة، فكان أن شهد العالم في العقد الأخير اهتداء قلوب صافية إلى فطرتها ودخول الناس أفواجا في دين الله.
والمطلوب من المسلمين -خاصة أولئك المقيمين في ديار الغرب- أن يواصلوا مسار الدعوة الإسلامية بالتي هي أحسن، بالاستفادة من الوسائل العصرية في الاتصال  والإعلام، وبامتلاك القوة المعرفية، حتى يتحوّل الإسلام إلى مطلب حضاري تتطلع إليه النفوس عن قناعة ورضى، ويكون ذلك عن طريق:
(3-1) إعداد المشروع الحضاري الإسلامي
كل التصوّرات المستقبلية للعطاء الحضاري الإسلامي في مجالات شتى من شأنها أن تكون باباً للدعوة لرسالة الإسلام في كل مناطق العالم التي توجد بها أقليات مسلمة، وإضافة نوعية لمجهودات العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي من أجل تحقيق مشروع النهضة الإسلامية. 
ومعلوم أنّ هذا المشروع يحتاج إلى اجتهاد وفهم دقيق للواقع الذي يتنزّل فيه. وحتى يكون هذا الفهم دقيقاً وشاملاً؛ فإنّ الكفاءات المسلمة في أوروبا والغرب يمكنها أن تساهم في تجديد الفكر الإسلامي، وفي تقديم قراءة عميقة للتراث الإسلامي، ومقاربات للنهضة العلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، بالاستفادة من خلاصة التجربة الغربية الحديثة القائمة على ثقافة التعددية التي تختلف عن ثقافة الأحادية السائدة في كثير من البلاد الإسلامية، وبفضل ما تمتلكه من قدرة على دمج الأدوات المنهجية الإسلامية والغربية في البحث بعد تمحيصها ونقدها، وباستحضار عملية التكامل بين العطاء الحضاري الإسلامي التاريخي والعطاء المستقبلي.
(3-2) إبراز البعد الإنساني في الإسلام
إن البعد الإنساني ركيزة من ركائز الأيديولوجية الإسلامية. وليس من الحكمة التركيز على مسائل فرعية والغفلة عن أبعاد أساسية تكون بمثابة المداخل الرئيسية في الدعوة للرسالة الإسلامية الخالدة. وقد شدّد الإسلام على الأخوّة الإنسانية التي تتجاوز أخوّة العقيدة والدين، وعلى مسؤولية الاستخلاف في الأرض الملقاة  على الإنسان. وفي هذا الإطار، يمكن التأكيد على مبدأ التنوّع في إطار وحدة الكيان البشري المخلوق، وهذا التنوّع من إرادة الله سبحانه وتعالى بهدف التعارف المتبادل - لتعارفوا- . 
(3-3)  إبراز القدوة الحضارية للأمة الوسط
إن الخطاب الهادف والواضح والعلمي لا يكفي وحده للإقناع برسالة الإسلام الحضارية العالمية، بل يحتاج إلى دعم القول بالفعل، وتقديم البرهان على مصداقية قدرة الإسلام على أن يكون مفتاحا لحلّ أزمة القلق الحضاري واختلال التوازن لدى الإنسان وفي محيطه وبيئته. وأفضل وسيلة لبلوغ هذا الهدف هي القدوة - النموذج - خاصة في مجال المعاملات على كل الأصعدة، بالنّظر إلى طبيعة المنظومة الأخلاقيّة الإسلاميّة. ومعلوم أنّ أحد أسباب قوة الإسلام الكامنة فيه يعود إلى منظومته الأخلاقيّة العالية، كما تدلّ عليه شخصيّة الرسول الأكرم عليه وعلى آله أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم - وإنك لعلى خلق عظيم-  الآية. ذلك أنّ هذه الأخلاق وهذه القيم مصدرها إلهي وتندرج ضمن  منظومة شاملة لجوانب الحياة.
في هذا الإطار، يمكن اعتبار مجال الأسرة – النواة الأساس  للمجتمع-  النموذج القدوة الذي يمكن أن يكون له التأثير المباشر على من يريد التعرّف على فلسفة الإسلام في الحياة. فالمسلمون في الديار الغربية بإمكانهم الإسهام في تقديم البديل الحضاري الإسلامي بإبراز وحدة الأسرة المسلمة، بفضل الاحترام المتبادل بين أفرادها والعلاقة السامية  بين الرجل والمرأة داخل هذا الرباط المقدس، وقيامها على أساس العفّة والطهارة والمودّة والرحمة والتشاور والحوار. وعلاوة على الفضاء  الأسري، يعتبر  مبدأ حسن الجوار في الإسلام أحد المداخل الهامة للإقناع برسالة الإسلام الحضارية في الحفاظ  على السلم الاجتماعي وبأخلاقية الإسلام في التعايش والتعامل مع الآخر. كما أن وقوف المسلمين وقفة حازمة ضد كل مظاهر الظلم مهما كان مصدره وتأكيدهم على مبدأيْ القسط والعدل ولو مع غير المسلم، يساهمان في تعزيز رسالة الإسلام الإنسانية العالمية.
وغني عن القول أن القدوة الحسنة تعني الاجتهاد في مساعدة الأقليات المسلمة في الغرب على أن تكون في مستوى عظمة هذا الدّين ورسالته، وأن يكون المسلمون سفراء بحقّ لدينهم في ديار الغرب، الأمر الذي يحتاج إلى جهود كبرى بالنظر إلى واقع الحال.  
من خلال ما تقدّم؛ يتأكّد ما قاله بعض الملاحظين الغربيين: «إنَّ الإسلام من حظّه أن يتفاعل مع الفضاء الغربي، ومن حظّ الغرب أن يوجد فيه الإسلام لكي يكون باباً للخير، بما يوفّره من قيم ورسالة حضارية؛ وإنّ الحضور الإسلامي هو كالغيث النافع، حيث يمكنه أن يكون مفتاحاً للخير. 
  -----
- أستاذ الحضارة بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس 
gham_fr@yahoo.fr