في الصميم

بقلم
البشير ذياب
المنظومة الأخلاقية ..الحلقة المفقودة في رحلة البحث عن الحلول
 إذا كانت الحكومة بوزرائها وموظفيها، والإقتصاد بمصانعه وآلياته وبناه التحتية والفوقية، والإدارة بمكاتبها وموظفيها ومسؤوليها هي الأثاث المادّي لبيت الدّولة، فإنّ المنظومة الأخلاقية هي النّور الذي يضيء ضلمتها ويضفي ويكشف مواضع الجمال فيها ومواضع الخلل، هذه المنظومة ككلّ المنظومات يجب أن تكون قابلة لمسايرة تطور الحياة الإجتماعية، وبما أنّ الحياة تسير بنسق حثيث نحو التّقدم فإنّ الإنسان الذي لا يتقدّم يتخلّف بالضّرورة، والملاحظ لسيرورة الرّقي الإجتماعي للشّعب التونسي يلاحظ ذلك بكل سهولة، فنسق التّطور العمراني مقارنة بالمجتمعات التي تشبهنا يعدّ بطيئا، ونسق التّقدم العلمي يسير إلى الخلف، أمّا الإقتصاد أو خلق الثّروة بالأساس فهو في مرحلة موت سريري متقدّم، ووسط هذا التردّي تعود بنا النّخب السّياسية والفكريّة لنقاشات بيزنطية حول حرّية الجسد وزواج المثليين، وصلاة الإستسقاء، وغيرها من المواضيع وسط تغييب لطرح منظومة حلول شاملة تأخذ في الإعتبار كلّ المعطيات الدّاخلية والخارجيّة الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة.
أصبح بعض الإعلاميين وبعض السياسيين اليوم يتحدّثون عن إنجازات حكومة «الصيد» وكأنّ رئيس الحكومة يملك عصى موسى أو مال قارون، ويزايد البعض الآخر فيعتبر أن قروض البنك الدّولي تعدّ خيانة وطنيّة ...كلّ هذه الدّواوير الإيديولوجيّة لن تساهم إلاّ في حجب الرّؤية وإخفاء الطّريق السّالكة أمام السّائرين، طريق التّقدم والرّقي التي سلكها «مهاتير محمد» في ماليزيا و«رجب طيب أردوغان» في تركيا، وهما مثالان قريبان منّا حضاريّا وفكريّا وإقتصاديّا.
الحديث عن الكرامة الوطنيّة عموما يجرنا لنتساءل عن معنى الكرامة، وعن معنى النضال، ففاقد الشيء لا يعطيه وإذا كان الوطن عموما قد خدشت كرامته بالدّيون الخارجية فلا يمكن لأيّ أحد أن يتحدّث عن كرامته الشّخصية ، فالكرامة الشّخصية هي جزء من الكرامة الوطنيّة شئنا ذلك أم أبينا وإذا أردنا أن تكون لنا كرامة شخصيّة فعلينا أن نحمي كرامتنا الوطنيّة من ذلّ الخصاصة والقروض المباشرة المجحفة، وهذا لن يكون حتما بالإضرابات العامّة ولا بالمزايدات والتّخوين وإنّما يتطلّب منّا وحدة في الوعي تقودنا لوحدة في التّقييم ووحدة في تبنّي الحلول وتحمّل المسؤوليات التي ستنجرّ عن هذه الحلول التي يجب أن يكون دفع الثّمن فيها متناسبا مع مقدار المنافع والإمتيازات الحاصلة من الثّروة الوطنيّة لا أن يكون ككلّ مرّة « الفقراء يكابدون ويدفعون من أجل الأغنياء»، ولعقلنة الحديث عن الكرامة يتحتّم علينا التّطرق لمسألة الحقوق والواجبات ، فالكرامة هي مولود زواج الحقوق بالواجبات ويكون منسوب صحّة هذا المولود بقدر التّوازن الحاصل بين هذين الزّوجين وأيّ إختلال في العلاقة بين الحقوق والواجبات لن يؤدي إلاّ إلى تشويه مولود الكرامة، وما نراه اليوم في بلادنا من فوضى إجتماعية وإقتصادية وبيئية وصحية وغيرها هو نتيجة هذا الإختلال، إختلال فاضح رجح كفّة الحقوق وغيّب الواجبات بطريقة دراماتيكية، فالكلّ يتحدّث عن الحقوق ويشنّ من أجلها الإضرابات والإعتصامات ويقطع من أجلها الطريق والسكّة ويعطّل المرافق العامّة أمام مصالح المواطنين ويقطع من أجلها شريان الإقتصاد الوطني المتمثّل في إنتاج الفسفاط ولا يرى مانعا في إيقاف القطار في الرّبع الخالي وتشريد النّساء والأطفال والشّيوخ في حرّ الصيف، وكل هذا وغيره كثير يسمّيه المسؤولون النّقابيون تراكمات من النضال النقابي، وهذه الحقوق هي قانونيّة ودستورية كفلها الدّستور العظيم دون أن يكفل للمتضرّرين منها حقوقهم الدّستورية المحمولة على هؤلاء والتي تعدّ واجبا يفترض النّهوض به قبل المطالبة بالحقوق، لذلك قلنا منذ البداية أنّ المنظومة الأخلاقية بكل أبعادها  يجب أن تراجع، فلا يمكن الحديث عن الكرامة أو التقدم أو النهوض قبل أن نعترف ودون مكابرة أنّنا نعيش أزمة أخلاقيّة حادّة ولسنا بحاجة لبحث أكاديمي لإثبات ذلك، فمجرد زيارة لأحد المستشفيات العموميّة والوقوف على القصور الفاضح في الإخلال بالقيام بالواجبات تجاه المرضى وما تتعرّض له الكرامة الإنسانيّة هناك من إهانات يغنيك عن كثرة البحث والتنظير، ووضعنا البيئي المتردّي هو أيضا مشكلة أخلاقية بالأساس قبل أن تكون مشكلة تجهيزات، والوضع المتردّي لقطاع التعليم مثلا لن يتحسن بزيادة أجور الأساتذة، فقد صرفت زيادات مشطّة وإمتيازات لقطاعات أخرى لكنّها لم تتطور بل زادت تأزّما وتخلّفا.
القوانين واللوائح جاءت لتنظّم الحياة ولتحدّ من التّجاوزات من بعض الأفراد المتمرّدين عن القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة الجامعة للمجتمع، أمّا إذا انخرمت المنظومة الأخلاقية أو المنظومة القيميّة في المجتمع ويتعوّد النّاس على دوس القيم والأخلاق، فإنّ القوانين واللّوائح تصبح غير ذات جدوى، ولكن كي لا نبالغ في التّشاؤم نقول أنّ ما بلغناه اليوم من انخرام في المنظومة الأخلاقيّة لا يمكن أن يقارن بما بلغته الجزيرة العربية أيام الجاهليّة ورغم ذلك قال الرّسول الكريم يومها « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فالمجتمعات لا يمكن أن تخلو من مكارم الأخلاق، ولكن فساد الأخلاق وتدني القيم هو بمثابة جرثومة على قلّة شأنها من النّاحية الكمّية إلاّ أنّها يمكن أن تشلّ جهازا بكامله، فالرّسول الكريم لم يقل أنّه جاء ليقوم بثورة إقتصاديّة في الجزيرة العربيّة أو بثورة علميّة أو بثورة إجتماعيّة وهو ما حدث فعلا ولكنّه نتيجة للثورة الأخلاقيّة والقيميّة التي جاء الرّسول الكريم من أجل إتمامها.
لإعادة الدّورة الأخلاقية إلى مدارها الصّحيح يجب أن يوضع الحصان أمام العربة، يجب أن تكون السّلط الحاكمة أيّا كان ترتيبها مركزيّا وجهويّا ومحليّا هي القاطرة الأولى لممارسة القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ثمّ على السّلطة التنفيذية أو الحكومة ومجلس النواب إعادة رسم الحدود ليلعب كلّ لا عب في مربعه وإعادة تشغيل المنظومات القانونيّة داخل الإدارات والمرافق العموميّة والبحث في منظومة رقابة جديدة على المسؤولين داخل المؤسّسات العموميّة كي يتحمّلوا مسؤوليّة التّجاوزات التي يرتكبها مرؤوسيهم والتي من أجلها يتقاضون مرتّبات وإمتيازات خياليّة أحيانا، وأن تتحلّى الحكومة بالواقعيّة وعدم بناء قصور من الرّمال.
أخيرا أقول أن جهد الحكومة وحدها لن يخرجنا من الأزمة الحالية مهما كانت كفاءة الوزراء، الخروج من الأزمة يجب أن يكون مجهودا وطنيا يتبنّاه الجميع ويضحّي من أجله الجميع ويتقاسم نتائجه « سلبية كانت أو إيجابية» الجميع، ولكن أقول في النهاية أنه  ما دامت المنظومة الأخلاقية والقيمية وعلى رأسها قيمة العمل ليست على طاولات الإعلامين والمفكّرين والسّياسيين، فإنّنا لن ننتظر طفرة إقتصاديّة أو علميّة أو إجتماعيّة ولن ننتظر صدقا في القول ولا إخلاصا في العمل كما قال الشّاعر التونسي منور صمادح «شيئان في بلدي خيبا أملي ...الصدق في القول والإخلاص في العمل»
وإذا كان منور صمادح عنى بهذه الأبيات الطّبقة الحاكمة أو الزّعيم بورقيبة بالذّات فإنّها اليوم تنسحب على كلّ موظف حكومي أيّا كان مركزهم الوظيفي . 
-------
- أستاذ
bechir_dhieb@yahoo.fr