فلسطين بوصلتنا

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
حواجز القتل وبوابات الموت
 يكرهها الفلسطينيّون من قديمٍ جداً ولا يحبّونها، ويتشائمون منها وينزعجون من وجودها، ولا يحبّون المرور أو الاقتراب منها، ويصفونها بأنّها حواجز القتل وبوّابات الموت، فهي تذكرهم بالقتل، وتجلب لهم الموت، فعلى بواباتها قتل الكثير من الفلسطينيين، وأمامها توفّي مرضى وهم في سيارات الإسعاف ينتظرون، وتوفّيت نساءٌ حوامل منعن من العبور للولادة، وأجبرن على الوضع في الأماكن العامّة أمام الحواجز التي تنتصب أمامهم كالسّدود، وترتفع كالجبال، فلا يقوى أحدٌ على تجاوزها أو عبورها إلاّ بقرارٍ أو دون ذلك القتل برصاص جنود الاحتلال المتواجدين على الحاجز.
يكره الفلسطينيّون هذه الحواجز التي كانت قبل اندلاع الانتفاضة بالمئات، وبعدها زادت مئاتها مئاتٌ أخرى، وانتشرت حتى عمّت كل أرجاء الضفّة الغربيّة، فلم تعد بلدةٌ لا ينتصب على مدخلها حاجزٌ عسكري، ولا شارعٌ إلا ويتوسطه حاجزٌ أمني، ولم يعد الدّخول إلى المدن سهلاً، إذ زرع الاحتلال على مداخلها بواباتٌ أمنية ثابتة، استقر فيها جنوده، وبنوا لهم فيها غرفاً للمبيت، وصالاتٍ للرّاحة والتّسلية، وحمّاماتٍ ودورات مياه، وفيها مطابخ أو يصلها الطّعام جاهزاً في أوقاته، وشيّدت بالقرب منها أبراج المراقبة، وزوّدت بكاميراتٍ وكشّافاتٍ قوية، يسلّطها جنود الاحتلال على كلّ زاوية وركن، لمراقبة المواطنين ومتابعة حركتهم، وفيها زنازين قذرة وعرف حجزٍ ضيقة.
الحواجز إمّا أنّها ثابتة ومستقرّة وهي بالمئات، وقد باتت مزوّدة بكلّ ما يلزم الاحتلال، وما يشير إلى استقرارهم ودوامهم فيها، وتكون في الغالب مشيّدة بالإسمنت ومنسقة ومنظّمة، أو تكون مباني جاهزة «مسبقة الصّنع»، يسهل فكّها وتركيبها ونقلها وتغيير مكانها، وأخرى مؤقّتة تنصب حسب الحاجة، وتفكّك بعد الانتهاء منها، لكنّها قد تستمر لأيامٍ أو لأشهر قبل تفكيكها، وأخرى تسمّى بالحواجز الطّيارة، التي يقيمها العدوّ فجأةً ولساعاتٍ محدودةٍ ثم يغادرها إلى مراكزه بعد انتهاء المهمّة التي من أجلها نصب حواجزه، وهي غالباً ما تكون قبل وأثناء مداهمة القرى والبلدات، أو بعد العمليات الأمنّية التي يقوم بها المقاومون الفلسطينيّون.
يصف الفلسطينيّون هذه الحواجز بأنّها حواجز الموت وبوّابات القتل، إذ أمامها استشهد أغلب منفّذي عمليّات الطعن والدّهس، وفيها قتل الكثير غيرهم ممّن اشتبه بهم جنود العدو، وظنّوا أنّهم ينوون طعنهم أو يخطّطون لدهسهم، فبادروهم إلى إطلاق النّار عليهم، وهم أعدادٌ كبيرةٌ، وكثيرٌ منهم برئٌ من الاتّهامات الإسرائيلية، ولكن العدوّ يريد أن يبرئ نفسه ويبرّر قتل جنوده للمواطنين الفلسطينيّين، فيذكر في تقاريره أنّ جنوده أطلقوا النّار على الشبّان الفلسطينيين دفاعاً عن أنفسهم، ولمنعهم من طعن جنودٍ أو مستوطنين إسرائيليين، وحتى يؤكّدوا دعواهم فإنّهم يضعون سكيناً بالقرب من الشّهداء الذين قتلوهم. 
يشكو الفلسطينيّون من الحواجز العسكريّة الإسرائيليّة الكثيرة، ويعتقدون أنّها تقسم أرضهم، وتجزئ مدنهم، وتعيق الحياة في بلداتهم، فهي تقطع أوصال الوطن كله، وتجعل تواصل المواطنين فيه أمراً مستحيلاً أو غاية في الصعوبة، كما أنها تعيق عملهم وتعطل أشغالهم، فلا يستطيع العامل أن يذهب إلى عمله، ولا الموظف إلى وظيفته، ولا الطالب إلى جامعته، ولا الطبيب إلى مركز عمله، ولا المريض إلى المستشفى، الأمر الذي يجعل حياة المواطنين فيها صعبةً جداً، هذا فضلاً عن أعمال القتل والاعتقال اليومية التي تتمّ على كلّ الحواجز، إذ لا يأمن مواطنٌ على حياته أو حريته إذ قرر المرور على حاجزٍ إلا إذا اجتازه وعبره بأمانٍ وابتعد عنه.
أمّا إذا ترجّل المواطنون أمام الحاجز من سياراتهم بقصد المشي لكسب الوقت أفضل من الانتظار لساعاتٍ في السّيارات التي لا تمشي، فإنّ الجنود يستنفرون ويرفعون بنادقهم ويهدّدون بإطلاق النّار إن لم يتراجع المواطنون، في الوقت الذي يتأهّب الحرّاس في أبراجهم لإطلاق النّار على كلّ من يحاول الاقتراب من زملائهم، علماً أنّهم يرون أنّ أغلب المشاة هم من الأطفال والنّساء والشّيوخ المسنّين، الذين لا يستطيعون الانتظار طويلاً.
لا يكترث الإسرائيليّون ببكاء الأطفال، ولا شكوى المرضى، ولا ضعف المسنّين والعجزة، ولا حالة النّساء البئيسة، ولا حالات الطّوارئ الملحّة، ولا يجيزون سيارات الإسعاف ولا طواقم الدّفاع المدني، ويصرّون على إتمام إجراءات التّفتيش والتّدقيق والإهانة والإذلال والإساءة، في كلّ الظّروف والأجواء، فلا يمنعهم مطرٌ منهمرٌ، ولا صقيعٌ باردٌ، ولا شمسٌ قائضة، أو حرٌ لاهبٌ، أما إذا وقع حادثٌ أمني على الحاجز، فإنّ المئات من المواطنين وأحياناً آلاف منهم، يتفرّقون في جزعٍ وخوفٍ، نتيجة إطلاق النّار العشوائي والكثيف.
تستغل سلطات الاحتلال الإسرائيلي الحواجز الأمنية، وتستفيد منها إلى أبعد مدى، غير القتل والاعتقال والتّضييق على المواطنين وتعقيد حياتهم، فإنّها تقوم في حواجزها بحجز بعض المواطنين وتوقيفهم لساعاتٍ، وخلالها تقوم بتعذيبهم وضربهم، وتقييدهم وشبحهم، وقد تحقّق معهم وتستجوبهم، كما أنّها تبتزّهم وتضغط عليهم، وتستغّل حاجتهم الماسّة والملحّة لمحاولة ربطهم والتّأثير عليهم ليتعاملوا معهم، ويصبحوا مخبرين لهم، علماً أنّه يكون على الحاجز غير الجنود النّظاميين، عناصرٌ من المخابرات، وبعض المستعربين الإسرائيليين، الذين يحاولون الاستفادة من «منافع» الحواجز إلى أبعد مدى ممكن.
لا تلتزم سلطات الاحتلال بفتح الحواجز والبوّابات الأمنيّة بانتظام، بل تتعمّد أن يكون نظامها مربك، ومواعيدها غير منتظمة، وكلّها تخضع لمزاجيّة الجنود وقرارهم، فهم قد يغلقون بعضها لساعاتٍ أو لأيامٍ ثم يفتحونها فجأة، ولكنّهم يتعمّدون البطئ في التّفتيش، والتّدقيق في تمرير المواطنين وتسيير السّيارات، حتّى إذا احتشد المواطنون وأصبحوا بالمئات، وطالت طوابير السّيارات حتى أصبح لا يرى آخرها، فإنّهم يقومون بإغلاق الحاجز، ويمنعون الجميع من المرور، ولا يقوى أحدٌ على سؤالهم أو الاستفسار منهم، لمعرفة أسباب الإغلاق ومدّته، ويهدّدون من يحاول الاقتراب من الحاجز بإطلاق النار عليه.
لا تحترم سلطات الاحتلال الإسرائيلي أحداً من الفلسطينيين على الحواجز والبوابات، ولا تعير اهتماماً ولا تقديراً لحملة بطاقات الشخصيات الهامّة، أو الذين يحملون بطاقات تسهيل مهمّة، بل يقوم الجنود على الحواجز أحياناً بالتضييق عليهم متعمداً، والإساءة إليهم بقصدٍ، ويحرصون على أن يرى المواطنون إهانتهم، ويلحظوا طريقة التعامل معهم، ولا تتردد في إطلاق النار على العناصر الأمنية الفلسطينية إذا اشتبهت بهم، في الوقت الذي لا تسمح لأيٍ منهم بالاقتراب من الحواجز وهو يحمل سلاحه، ولو كان منتسباً إلى الأجهزة الأمنية، وهي التي قتلت ملازماً في الاستخبارات العسكرية على أحد حواجز مدينة القدس.
أكثر من ستمائة حاجزٍ في القدس والضفة الغربية، تمزق أوصال الوطن، وتخترق أحشاءه، تعذب المواطنين وتذلهم، وتقسو عليهم وتعذبهم، وتتعمد إهانتهم والتضييق عليهم، وعليها يقتلون ومن أمامها يعتقلون، ورغم ذلك فإن الفلسطينيين يقتحمونها ويهاجمونها، ولا يترددون في قنص جنودها أو طعنهم، ولو كان الثمن حياتهم، والنتيجة شهادةٌ أو اعتقال.
------
- كاتب فلسطيني 
moustafa.leddawi@gmail.com